الشرق الأوسط وأوان التعدديّة القطبيّة
2024-10-01
إميل أمين
إميل أمين

ضمن مشهد النظام العالميّ المتغيّر، والذي ينطبق عليه تعبير المثقّف العضويّ الشهير أنطونيو غرامشي "القديم في طريقه للزوال، والجديد يجاهد لكي يُولَد"، تحدُث تغيّرات جيوسياسيّة عميقة بحكم الواقع، ومنها ما هو موصولٌ بالأوضاع السياسية والعلاقات الدبلوماسيّة في منطقة الشرق الأوسط.

حتّى النصف الأوّل من القرن العشرين، كانت غالبيّة دول المنطقة واقعةً تحت نير الاستعمار الغربيّ، ومع نهاية النصف الثاني، بدا أنّها نفضت عنها هذا الظلم التاريخيّ، لكن زمن الحرب الباردة، وتقسيم العالم إلى معسكرين، شرقيّ وغربيّ، ربّما أعاد المنطقة ولو بطريقٍ غير مباشر إلى دائرة المحاصصة السياسيّة إن جاز التعبير.

اليوم وبعد نحو ثلاثة عقود من سقوط الاتّحاد السوفيتيّ، واستعلان الولايات المتّحدة الأميركيّة لما أسماه جورج بوش الأب، النظام العالميّ الجديد، أو بمعنى أدقّ "النظام الأميركيّ العالميّ"، يبدو أنّ المشهد العالميّ في طريقه إلى التغيّر مرّةً أخرى، وفي القلب منه أوضاع الشرق الأوسط والخليج العربيّ، وعلاقة دول المنطقة عامّةً بالقوى الخارجية، إقليميّة ودوليّة.

هل كانت السمات الدوغمائيّة للقوى القطبيّة في منتصف القرن الماضي سببًا في الانحياز العربيّ بصورةٍ أو بأخرى إلى المعسكر الغربيّ، حيث أوروبا والولايات المتّحدة الأميركيّة؟

غالب الظنّ أنّ رفض العرب للفكر الشيوعيّ- الإلحاديّ، في داخل معسكر الاتّحاد السوفيتيّ، قد باعد كثيرًا بين الضفّتَيْن، وإن لم تخلُ الحياة من علاقةٍ ثنائيّة على صعيد التسلّح على الأقلّ، لكنّ المؤكَّد جدًّا أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة ودول الشرق الأوسط والخليج العربيّ، ظلّتْ متشابكةً بقوّة، سلمًا وحربًا، اقتصادًا ونموًّا حياتيًّا، لا سيّما على صعيد التعليم في جامعات الغرب المتقدّمة، والتي كانت تُعَدّ حتّى ذلك الوقت صاحبة السيادة والريادة في تقدم مناهج تعليميّة تقدّميّة.

عزَّزَ ظهور النفط، والذي اعتبر سائل الحضارة المعاصرة، من العلاقات العربيّة – الأميركيّة والأوروبّيّة، وخلق رابطًا عضويًّا، عاد بالنفع المزدوج على الجانبين في واقع الأمر، وليس على جانبٍ واحد، فقد قدَّمَ فرصة هائلة لعالم الصناعة والإنتاج ومراكمة الثروات غربًا، وساعد في الإعمار ونشوء وارتقاء بنية تحتيّة نهضويّة في العالم العربيّ ومنطقة الخليج، من خلال العوائد الريعيّة.

عزَّزَ الصراع بين حلف وارسو وحلف الأطلسيّ من أهمّيّة الشرق الأوسط، فقد كان الحلم السوفيتيّ هو الوصول على المياه الدافئة، وهو الحلم الذي راود القياصرة الروس من زمن بطرس الأكبر وكاترينا العظيمة، قبل عقودٍ طوال، وداعب خيال البلاشفة كثيرًا جدًّا.

على أنّه ومنذ بداية الألفيّة الثالثة، بدتْ متغيّراتٌ جيوسياسيّة عالميّة، تطلّ برأسها من نافذة الأحداث الكونيّة، ومنها تغيّراتٌ طرأتْ على الأوزان النسبيّة للقوى الكبرى، سياسيًّا وعسكريًّا، اقتصاديًّا وتكنولوجيًّا، ومعها كان لا بدَّ من أن يعيد العالمُ العربيُّ قراءة أوضاعه، وضبط بوصلته، وتحديد المسافات التي تربط بينه وبين عواصم صناعة القرار العالميّ.

بدايةً، كانت روسيا قد نفضت عنها غبار الإلحاد الذي لصق بأثوابها قرابة سبعة عقود متتالية، ذاقت فيهم المؤسّسة الدينيّة هناك الويل والثبور وأمرّ الأمور، وعادت المسحة الدينيّة الأرثوذكسيّة التقليديّة من جديد، لتعيد صبغ البلاد بصورة أو بأخرى بالصبغة الإيمانيّة القريبة من العالم العربيّ والإسلاميّ، والتي يمكن بناء عبور الجسور من خلالها.

عطفًا على ذلك، فقد استطاع فلاديمير بوتين، أن يُهمِّش القوى الأوليجارشيّة التي حاولت السطو على البلاد في زمن الرئيس بوريس يلتسين.

وعلى صعيدٍ آخر، عادت القوّة المسلّحة الروسيّة والصناعات الحربيّة القديمة لتضيء من جديد في سوق عالم السلاح، بل ربّما تجاوزت المقدّرات العسكريّة الروسيّة، على صعيد الأسلحة الفرط صوتيّة، نظيرتها الأميركيّة.

هنا التساؤل: "هل كان للعالم العربيّ أن يتجاهل هذه التغيّرات؟

لنؤجّلْ الجواب قليلاً، لنتطلّع إلى تجربةٍ قطبيّةٍ عائدة في الأفق بقوّة، ونعني بها التجربة الصينيّة.

هنا يبدو من المثير العودة بالخيال إلى الماضي التاريخيّ البعيد، حيث العلاقات العربيّة – الصينيّة ضاربةً جذورها في القدم، وطريق الحرير التاريخيّ، شاهد على حالة التثاقف التي جرتْ يومًا ما بين العرب والصينيّين.

اليوم تبدو الصين، ومن دون أيّ تزيّد، كتلةً وازنة على الخارطة الدوليّة، على أكثر من صعيد، فهي من الناحية الاقتصاديّة، وصلتْ حدَّ تهديد الغرب بما عُرِفَ باسم "الردع النقديّ"، وذلك من جرّاء نجاحاتها الاقتصاديّة والتي يسّرتْ لها تدفّقات ملياريّة هائلة، وضعتها في خدمة مشروعها الإمبراطوريّ، ولو لم تعلن عن ذلك، وفقًا لخطط كونفوشيوس في التمدّد والانتشار الهادئ من غير ضجيج.

وبحسب التسلسل التاريخيّ للقوّة العظمى، فإنّ الأمر يبدأ من عند الصعود الاقتصاديّ، والذي يليه بالضرورة نهضة عسكريّة مسلّحة لتدافع وتنافح عن المصالح الاقتصاديّة للكيان الأمميّ الوليد.

لم يَعُدْ سرًّا اليوم أنّ الصين تسعى في طريق بناء قوّةٍ نوويّة تعادل ألف رأسٍ نوويّ بالوصول إلى 2030، أمّا عن القدرات البحريّة الصينيّة، فحَدِّثْ عنها ولا حرج، ومن جرَّاء صعودها الصاروخيّ، باتت العسكريّة الأميركيّة تخشى الخطر الداهم القائم والقادم.

في هذا الإطار، ومن دون مبالغة أو تزيد، تبدو الحضارة الغربيّة التاريخيّة في أزمةٍ مادّيّةٍ وروحيّةٍ خانقة، فأوروبّا التي غرقت في بحار العلمانيّة الجافّة، والتعبير هنا للفيلسوف الفرنسي الشهير "ريجيس دوبرييه"، منشغلةً مع يمينٍ متطرّف، يعاود مشاغبة القوميّات، ويتمحور من جديدٍ حول الشوفينيّات، وترك عنه الجذور الدينيّة والإيمانيّة للقارّة التي كانت يومًا ما، ما يجعل المخاوف من تكرار سيناريو سقوط روما القديمة أمام قبائل الفندال أمرًا قابلاً للتحقّق من جديدٍ.

أمّا الولايات المتّحدة الأميركيّة، فعلى الرغم من أنّها لا تزال– ولو ظاهريًّا– صاحبة القدرة والمنعة، عسكريًّا واقتصاديًّا، إلا أنّ تحذيرات مؤرخا بوزن "أرثر شبنجلر" عن نهاية الحضارات بسبب فيروسات الداخل، تجعلنا نعاود إمعان النظر في مستقبلها، وبخاصّة على عتبات انتخابات رئاسيّة يخشى الكثيرون أنّها ستجري برسم دماء المتصارعين، لا بأصوات المقترعين.

هنا يبدو فرض عين على العالم العربيّ أن يعيد ضبط مسافاته مع كافّة أطراف القوى الدوليّة، التي في صورة الأحداث والقادمة، فالسياسات تجري من خلال المصالح لا العواطف، والمنافع الخاصّة بالأوطان والمواطنين، لا بالتبعيّة أو الإغراق في الإعجاب بنماذج كانت يومًا مالئةً الدنيا وشاغلةً الناس.

كشفتْ تجربة الولاء والانتماء لقطبٍ سياسيٍّ عالميّ واحد، أنّها تجربة فاشلة، ذلك أن الحياة قد جُبِلتْ على الثنائيّة، وهو الأمر الذي يُحْدِث توازنات، ويفتح الأبواب أمام خيارات متعدّدة.

إنّ نظرةً سريعة على صراعات الشرق الأوسط، تبيِّن بوضوحٍ الخطأ الكبير في الاعتماد على شريكٍ سياسيٍّ واحدٍ، وغالبًا ما يكون هذا الشريك، من نوعيّة "الأرباب دائمة الخذلان لعبادها".

لم يعد سرا القول إنّ هناك أهدافًا سياسيّة متناقضة في المنطقة، سواء لدولها أو للأقطاب الخارجية المتصارعة على خياراتها، وعليه فإنّ أفضل ما يمكن أن يقوم به مواطنو المنطقة، طرح قضاياهم من الذات، وليس انتظار رؤى الآخرين.

هذه الأيّام وقبل وصول رئيس أميركيّ جديد إلى البيت الأبيض، يبدو أنّ هذا هو الوقت القيم الذي تعظم فيه فوائد بلورة إستراتيجيّةٍ عربيّةٍ – عربيّةٍ في زمن وأوان التعدّديّة القطبيّة.

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-العربية نت-



مقالات أخرى للكاتب

  • لقاء الجنرالات وأجسام "البنتاغون" المضادة
  • ديمقراطية أميركا... من أيزنهاور إلى بايدن
  • ترمب الثاني... بين الجمهورية والإمبراطورية







  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي