
يومًا تلو الآخر، وكلّما اقتربت البلاد من الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، تتصاعد حدّة الأصوات المنذرة والمحذرة من مستقبل الاتّحاد الفيدراليّ الأميركيّ، وتعلو المخاوف من قرب ما بات يطلق عليه الأميركيّون "أزمنة الطلاق الوطنيّ".
منذ عقدَيْن أو أكثر، كَثُر الحديث عن رغبة بعض الولايات الكبرى، لا سِيّما تكساس في الجنوب، وكاليفورنيا في الغرب، في الانفصال، وإعلان جمهوريّات مستقلّة، تكون في أحسن الأحوال في اتّحاد كونفيدراليّ مع بقيّة الولايات، الأمر الذي اعتبره الكثير من المراقبين نوعًا من أنواع انحلال عقد ربط الولايات من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها لنحو 240 عامًا في رباط مقدّس.
هذه الدعوات استدعت من الماضي الأميركي ذكريات الحرب الأهليّة الأميركيّة (1861- 1865)، والتي دارت حول العبودية وحقوق الولايات ومستقبل الاقتصاد.
اليوم يكاد المشهد يختلف، ذلك أن روح أميركا منقسمة ومتشظّية في داخلها، على أسس مغايرة، أيديولوجية من جهة، وعِرقيّة من جهة ثانية، ودوجمائيّة من جهة ثالثة، الأمر الذي يجعل مستقبل البلاد مهدّدًا بشكل أشدّ ضراوةً ممّا لو كانت هناك جيوش على أبواب أميركا، الأمر الذي لم يحدث في تاريخ البلاد منذ الاستقلال وحتّى الساعة.
تبدو معركة الولايات المتحدة الداخلية مخيفة إلى حدّ الخطر، وخطيرة إلى حدّ الهلع، لا سِيّما أنّ العدوَّ داخليّ، وهذه هي آفة الحضارات الكبرى، ذلك أنها تبدأ مسيرة انهيارها من داخلها، وهي الآفة الأشدّ وقعًا من الجيوش الخارجية التي يمكن أن تقارعها يومًا ما.
تبدو مقاربة الولايات المتّحدة اليوم بخمسينيات القرن التاسع عشر أكثر انقسامًا، وعلى غير المصدَّق أن يتابع أحداث الحملة الانتخابية، والتي خرجت دون أدنى شكّ من مسارات التنافس السياسيّ إلى مدارات الصدام العقليّ والنقليّ، الأيديولوجيّ السياسيّ، والعقائديّ العجائبيّ، إن جاز التعبير.
يبدو المشهد السياسي غريبًا كلَّ الغرابة عن شدٍّ وجذب تقليديّ بين الجمهوريّين والديمقراطيّين، ويصل الأمر حدَّ التخوين المسبق، وبخاصّة في ظلّ ما يشبه التنبّؤات الذاتية التي تسعى إلى تحقيق ذاتها بذاتها، تهيئةً للمعركة الكبرى المنتظَرة.
خذْ إليك ما صرَّحَ به قبل نحو أسبوعين الرئيس الأميركي جو بايدن، عن عدم ثقته في أنّ أميركا سوف تشهد تسليمًا سِلميًّا للسلطة بعد انتخابات الرئاسة القادمة.. ماذا يعني بايدن بذلك؟
باختصار غير مخلٍّ، إنّه يفتح الباب واسعًا لصدام عنيف يبدأ سياسيًّا، ثم لن ينفكَّ يضحي بأدوات العنف المسلَّح الشائعة والذائعة في أيدي الأميركيّين، فالرجل يقطع بأن ترمب لن يسلّم بهزيمته في الانتخابات، وسيعتبر نفسه الرئيس الشرعيّ، الأمر الذي يمكن أن يُدخِل البلاد في مأساة ما يُعرَف بتطبيق "قانون التمرد".
هل هذا تفكير بايدن بالفعل؟
هناك شكوك عميقة حول أوضاع الديمقراطيّين في أميركا اليوم، وليس سرًّا أن الملايين يعتقدون أن باراك أوباما، هو من يتلاعب بخيوط وخطوط الحزب، وأنّه هو من ينحرف بأميركا لجهة اليسار الديمقراطيّ المُغرِق في تطرّفه.
في هذا السياق، يكون من الطبيعيّ جدًّا الاعتقاد بأنّ ولاية جو بايدن لم تكن سوى ولاية ثالثة لأوباما، وأنّ المخطَّط ماضٍ قدمًا، لتضحي كامالا هاريس صاحبة الولاية الرابعة.
ربّما المخاوف تتجاوز الخلاف السياسيّ، وبخاصّة في ظلّ اعتقاد الملايين من أنصار ترمب بأنّ نجاته من محاولة الاغتيال ليست سوى علامة على مشيئة إلهيّة لتكليف الرجل الأبيض الواسب بمهمّةٍ لا تقلّ عن تلك التي قام بها رونالد ريغان في ثمانينات القرن الماضي، أي مواجهة ومجابهة الاتّحاد السوفيتيّ، والانتصار لاحقًا على إمبراطوريّة الشرّ.
كارثة هذا التفكير أنّه يجري برسم دينيّ عقائديّ، أي يحدث على أسس ومنطلقات دينيّة مطلقة، لا سياسيّة أو أيديولوجيّة نسبيّة، ولا يغيب هنا على أحد أنّ صراع المطلقات قاتل، إذ لا يُقبَل قسمة الغرماء، وفيه لا بدَّ لأحدهم من أن يقصى الآخر من الحياة مرّةً وإلى الأبد، وهو ما يجعل المخاوف من حدوث حرب أهليّة أميركيّة داخليّة، تنطلق شرارتُها من خلاف حول نتيجة الانتخابات الرئاسيّة المقبلة.
لم يعد الناظر للولايات المتّحدة لا سِيّما على صعيد رؤيتها الخارجية للعالم، أن روح الانعزاليّة تسودها، حتّى لو بقيت هناك تحرّكات قليلة بعكس ذلك، ما يعني أنّه بات من المرجَّح دخولها إلى فكر التقسيم إلى بلدان أصغر أكثر انغلاقًا وذاتيَّةً، منشغلة بما يجري ضمن حدودها الضيّقة، ومتصارعة من حول قضايا داخليّة من نوعيّة قضايا الهجرة والعِرق، عدم المساواة والهويّة الجنسيّة.
هل لهذا بات نحو 54% من الأميركيّين الجمهوريّين، وقرابة 41% من الديمقراطيّين أنّ الحرب الأهليّة تُخَيِّم بالفعل فوق سماوات الولايات المتّحدة بشكلٍ أو بآخر؟
خُذْ إليك ما دعتْ إليه النائبة "ماجوري تايلور"، وهي جمهوريّة يمينيّة من جورجيا، حول ضرورة إجراء انتخابات وطنيّة للفصل بين الولايات الحمراء والولايات الزرقاء... هل هذه هي دعوة الانفصال وبداية طريق الطلاق الوطنيّ؟
بحسب البيانات الإحصائيّة الصادرة عن مركز بيو لاستطلاعات الرأي، فإن 23 % من الأميركيّين يؤيدون انفصال ولايتهم عن الاتّحاد الفيدراليّ الأميركيّ.
ما نشير إليه عبر هذه السطور ليس تنبّؤات أو تنظيرات، فقد ظهر جليًّا هذا الانقسام في انتخابات الرئاسة الأميركيّة لعام 2020، بين الولايات الزرقاء التي صوَّتَت لصالح جو بايدن والولايات الحمراء التي صَوَّتت لصالح دونالد ترمب، حيث كانت العديد من ولايات ترمب من بين الولايات التي انفصلت عن الاتّحاد في عام 1861.
رويدًا رويدًا تتصاعد حدّةُ الانقسامات والتي تعود بعض قضاياها إلى زمن الحرب الأهليّة الأميركيّة، والمواجهات الدستوريّة التي يمكن أن تحدث، لا سِيّما بعد أن أمرت المحكمة العليا الأميركيّة ولاية تكساس بإزالة الأسلاك الشائكة التي وضعتْها على طول نهر "ريو غراندي" لوقف تدفّق المهاجرين من أميركا اللاتينيّة، الأمر الذي رفضه حاكم الولاية، وانضمت إليه في موقفه عدّةُ ولايات، بل إنّ تيّارات يمينيّة أميركيّة تؤمن بالعنف المسلَّح، سعت إلى هناك، تحسُّبًا لمواجهة مسلَّحة مع قوّاتٍ فيدراليّة قد ينشرها الرئيس الأميركيّ، وربّما يصل الأمر حدَّ الإيعاز رسميًّا للقوات المسلحة بالوصول إلى هناك، ما يعني حربًا أهليّة بين الأميركيّين وبعضهم البعض دون أدنى شكّ.
هل هناك أمر بعينه يمكن أن يُمَثِّل نقطة خطورة كبرى في طريق الطلاق الوطنيّ الأميركيّ؟
المؤكَّد أنّ هناك أحاديث شتّى حول الدستور الأميركيّ، فعلى سبيل المثال تحدَّثَ حاكم ولاية تكساس "جريج أبوت" عن الدستور بوصفه مجرد اتّفاق، يمكن للولايات المختلفة أن تتجاهله حسب تقديرها، وهو ذات المنطق الذي استندتْ إليه الولايات الجنوبيّة، في زمن الكونفيدراليّة، لتبرير قدرتها على الخروج من الاتّحاد عام 1861.
السؤال المهمّ والمخيف في ذات الوقت: "هل ينبغي على أصدقاء أميركا وحلفائها أن يدركوا مبكّرًا أن الولايات المتحدة إن لم تكنْ اليوم ولايات مُقسَّمة من جديد، فهي على الأقلّ في الطريق لذلك عمَّا قريب؟
غالب الظنّ أن نتيجة انتخابات 2024 لن تحلَّ إشكالات أميركا الداخليّة، بل ستزيد تفاقُمَهما، ما يجعل منها معركة أخرى في حربٍ داخليّة أهليّة قادمة دون نقاش.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-العربية نت-