درنة: مدينة الشعر واللاشعور
2023-09-29
سعد العجمي
سعد العجمي

الليل والطوفان، انشقت السماء والريح صرصر، المطر ينهمر كالشلالات الهائلة، صوت الريح يصم آذان البشر الذين عاشوا ليلة رعب ليس كمثلها ليلة، تنهار السدود، فيتجه السيل العرم بكل قوته بلا رحمة جارفاً كل شيء في طريقه، جرف البشر والحجر واقتلع البيوت والبشر، وخلع الشوارع والبشر، وأزاح كل ما في طريقه من حياة ومن بشر.

كانت تلك ليلة العاشر من هذا الشهر البائس على الإنسان في درنة، حيث تربض المدينة في الشمال الشرقي لليبيا هادئة حالمة، حتى جرفها الطوفان بلا عطف وبلا حنان.

المصادر الرسمية قالت إن الكارثة قتلت 4 آلاف من البشر، وبذلك كذبت مصادر الأمم المتحدة التي صرحت بأن الضحايا أكثر من 10 آلاف من البشر، هي مجرد أرقام لن نعرف دقتها أبداً، فما زالت الأنقاض تكشف عن جثث، وما زال 8 آلاف في عداد المفقودين، وما زال البحر ينز بقايا البشر من الموتى المحظوظين الذين لم يلتهمهم السمك.

تسمى مدينة الشعر، فبها الشعراء والمقاهي الثقافية وتجمعات فنية وأول مسرح في ليبيا، وبها تاريخ مقاومة بطولية ضد الاحتلال الإيطالي ببدايات القرن الماضي، ومنها انطلقت شرارات الثورة ضد معمر القذافي ونظام البطش، نجحت الثورة بإزاحة ومقتل القذافي واستبدلت البطش بالفوضى والدمار والاقتتال، كانت درنة واحدة من ضحايا عدة من مدن ليبيا التي طاولها الاقتتال البشع الذي لم يرحم، دمرها الاقتتال تدميراً، لكنها بقيت تقول الشعر وتتحدى اللاشعور.

قوافل الهرب من محاكم التفتيش أواسط الألفية الماضية بعد الخروج للنجاة بالعمر والذكريات من الأندلس، تستقر على سواحل البحر المتوسط، قوافل من بينها قافلة آخر ملوك غرناطة من بني الأحمر هو أبو عبدالله الصغير الذي سماه أهل غرناطة عبدالله الزغابي التي تعني بعربية الأندلس المنحوس أو المشؤوم، الذي هرب إلى مدينة فاس المغربية ومات فيها.

لكن درنة استقبلت قوافل المثقفين والمتعلمين والمتعايشين من أهل الأندلس، بنيت على أنقاض بقايا يونانية أصبحت أثراً بعد عين، شيدوا المدارس والمساجد والكنائس والمعابد اليهودية، كثير من اليهود هربوا مع العرب والمسلمين إلى شمال أفريقيا بعد أن ضاعت الأندلس من العرب والمسلمين.

بقيت درنة متعايشة قبل الطوفان. كانت الناس تعلم أن الطوفان قادم، قبل أكثر من 17 سنة بعام 2006، تنبأ شاعر درنة وابنها مصطفى الطرابلسي بالطوفان، وعزى أهلها قبل موتهم، كان يستقرئ الكارثة:

 

عظم الله ياخوي أجرك فيها،،،

درنة انتهت وتريد من يرثيها

درنة كانت طفلة جميلة بالدلال ازدانت،،

من ظلم ياما ومن مصايب عانت

التاريخ يفخر وين ما يطريها.

من المفارقات أن درنة تعني ساقاً نباتية متحورة تحمل البراعم وتخزن الغذاء لتنبت نباتا جديداً، تضاف درنة إلى سلسلة طويلة من كوارث مأسوية بشعة، كوارث بلا محاسبة وبلا شعور بالمسؤولية، أحد منا يتذكر انفجار ميناء بيروت؟ مئات من القتلى وآلاف من الجرحى راحوا "كحل باكي" -كما في القول الشعبي.

تقول "نيويورك تايمز" إن عقوداً وقعت لترميم السدود التي ظهرت بها الشقوق بائنة للعين المجردة، لكن أموال العقود صرفت من دون تنفيذ. تضيف الصحيفة أن علي الدبيبة، وهو عم رئيس وزراء غرب ليبيا عبدالحميد الدبيبة، جمع ما يصل إلى 7 مليارات من الدولارات من رشاوى وعقود مختلفة معظمها مع شركات تركية من بينها عقود لترميم السدود.

كتب الشاعر الطرابلسي ليلة الهول الكبير، أي ليلة العاصفة في العاشر من سبتمبر (أيلول) الجاري على صفحته على "فيسبوك"، "قد تتصاعد الأمور إلى كارثة، ونحن تحت حكم طغمة فاسدة، ليس عندها غير البيانات وادعاء الاستعداد، وفي حقيقة الأمر لا تملك من المعدات وفرق الإنقاذ إلا الهزيل".

وراح ينشد شعراً يفضح الفساد قهراً بقصيدة عن المطر المنهمر الذي قال عنه إنه:

فضح الشوارع الرطبة

والمقاول الغشاش

والدولة الفاشلة

*

يغسل كل شيء

أجنحة العصافير

ووبر القطط

*

يذكر الفقير

بسقفه النحيل

وردائه الهزيل

*

يوقظ الأودية

من تثاؤب الأتربة

ووسن اليباس

*

المطر

شارة خير

بشارة رفد

وناقوس خطر

أضافت الكارثة بقائمتها من الضحايا الشاعر الطرابلسي الذي دق ناقوس القوافي محذراً، وعلق الجرس مستصرخاً الضمائر قبل 17 عاماً، لكن "لا حياة لمن تنادي"، فقد توفي الضمير ضحية للاشعور. نعم، هو اللاشعور واللامسؤولية وغياب الضمير قبل غياب المحاسبة، تلك هي الزناد لإطلاق تنور مآسينا، من ميناء بيروت حتى درنة مروراً بمحرقة الحمدانية بالعراق حيث مات احتراقاً أكثر من 100 مدعو وجرح مئات آخرون، كان العراق شهد مذابح لمئات الشباب العراقيين عام 2019، والقاتل معروف لكل العراقيين، ولكن القتلة فوق المحاسبة.

 يتساءل محمد حبيل أحد سكان درنة لصحيفة "نيويورك تايمز"، "هل نحن رخيصون لهذه الدرجة، نحن لسنا سلعاً يلعب بها المسؤولون بليبيا"، يذكر أن محمد حبيل فقد والديه وزوجته وأطفاله الأربعة ضحايا للطوفان.

حاول الطرابلسي رحمه الله أن يوقظ الشعور بالشعر في درنة مدينة الشعر، لكن هيهات! فالشعر شعور، وأهل الفساد لا يعرفون الشعر ولا المشاعر والشعور.

 

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس-اندبندنت عربية



مقالات أخرى للكاتب

  • نحن والانتخابات الهندية
  • رفح ورفحاء
  • الرحيل أمتارا!






  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي