ضد الحكم بالإعدام!
2021-09-04
غادة السمان
غادة السمان

حين قرأت «هواء طلق» الذي كتبه الأستاذ صبحي حديدي في 2ـ8ـ2021 أعادتني سطوره إلى وطني الأم سوريا وإلى «عيد الجلاء» الذي كنا نحتفل به كل عام، وكنت يومئذ طفلة في «مدرسة الفيحاء» للبنات في بوابة «الصالحية الدمشقية».

كان اسم المديرة الأستاذة جيهان موصللي (ما زلت أذكر اسمها للطفها) واكتشفت أنني ما زلت أحفظ النشيد الوطني السوري حتى اليوم: حماة الديار عليكم سلام، أبت أن تذل النفوس الكرام. عرين العروبة بيت حرام.. وعريش الشموس حمى لا يضام.. نفوس أباة وماض مجيد.. «إلى آخره» وكم كنت يومئذ أفرح حين كان يقع

الاختيار عليّ لكي أنشد «تحية العلم» ونحن نرفع العلم السوري في باحة المدرسة صباح كل يوم سبت (كانت العطلة الأسبوعية يوم الجمعة) ونعود إلى المدرسة صباح السبت، ونبدأ أسبوعنا بتحية العلم السوري حيث نتجمع كلنا في الباحة، كنت أقول بصوتي المرتجف كبنت صغيرة، لكن بفخر كبير:

دُمْ هكذا في علوّ أيها العلم

فإننا بك بعد الله نعتصم..

كان ياما كان!

هل تحتفظ الذاكرة بما لا يجدي؟ أم بجوهر حياتها وأفكارها المستقبلة؟ أتذكر مثلاً أنني حين تعلمت رسم خارطة سوريا، كنا نكتب على لواء إسكندرون كلمة «السليب»؛ أي الذي كان مسلوباً من سوريا. وأتذكر.. وأتذكر.. وبوسعي تسطير كتاب عن ذكرياتي السورية.. من ولد مثلي في دمشق وعاش فيها ثم غادرها في مطلع الصبا، لم يعد يستطيع أن ينسى شيئاً.

ما زلت أذكر أسماء معلماتي كلهن وأذكر مثلاً أن أستاذتي نبيلة الرزاز أستاذة اللغة العربية، دهشت من انتسابي إلى فرع البكالوريا العلمية لا فرع البكالوريا الأدبية، وكانت موضوعاتي في درس الإنشاء تبدو لها أدباً.

لكن والدي (رئيس الجامعة السورية) كان قد نصحني بدراسة الطب، وأذكر يوم أعطانا أستاذ العلوم في صف البكالوريا علقة لنشرحها وقمت بذلك ثم أعطانا حمامة، وكان عليّ تخديرها ثم قص قفصها الصدري دون أن يتوقف قلبها، بل أن يظل ينبض ولم يطاوعني قلبي على ذلك، فتركتها تهرب من النافذة وتطير، وسألني الأستاذ: أين الحمامة؟ وهل قمت بتشريحها؟ وقلت له: طارت من النافذة.

وقال لي: ومستقبلك طار! لكنني حصلت على البكالوريا العلمية. وظل حب الأدب يلتهمني… ذكريات.. ذكريات أعادني إليها الأستاذ صبحي حديدي وسطوره عن النشيد السوري.. أعادني إلى سوريا وطفولتي وصباي، وربما كان قد حان وقت كتابة مذكراتي ما دامت كلمات النشيد السوري التي أيقظت ذاكرتي أعادتني إلى دمشق.. وزماني في دمشق.. ولا أستطيع القول كان يا ما كان، فكل ما كان ما زال حياً في الذاكرة.. وأعتقد أن كل قارئ يذكره نشيد بلاده بزمنه في الوطن مهما كان مغترباً ومقيماً في لندن أو باريس أو أفريقيا أم أي مكان.. فالذاكرة لا ترحل.

ولا نستطيع شراء بطاقة سفر للذاكرة إلى «وطن النسيان»!!

هذا تمثال الحرية، فأين الحرية؟

أعيش في باريس منذ أربعة عقود في بيت محاط بتماثيل الحرية.. مقابل بيتي الباريسي توجد شبه جزيرة اسمها «ممر البجع» تتوسط نهر السين وتشطره إلى قسمين، وهي (شارع) لا يتسع لأكثر من سيارة وتنتهي بتمثال للحرية، وهو نسخة عن تمثال الحرية الذي أهدته فرنسا إلى الولايات المتحدة عام 1885 ونحته الفنان الفرنسي «بارتولدي» وكان ذلك منذ أكثر من 130 عاماً، والسيدة في تمثال الحرية تحمل مصباحاً ،ولذا فاسم التمثال «الحرية تضيء العالم» وعلى رأس السيدة الحرية تاج من سبعة فروع تدل على انتهاء حروب الولايات المتحدة واتحادها يوم 4ـ7ـ1776.

تمثال الحرية للفنان «بارتولدي» أهدته فرنسا إلى الولايات المتحدة كعنوان للصداقة بين الشعبين.. لكن «تماثيل الحرية» وبالأحرى النسخ عنها، تكاثرت ربما إكراماً لصور السياح أمامها.. وثمة نسخة مصغرة مثلاً تباع كمصباح منزلي! ونسخة متوسطة الحجم في مدخل الفندق القريب من بيتي في باريس يحب نزلاء الفندق المجاور إياه التقاط الصور التذكارية أمامه، وهو تمثال حرية مصغر.

فتمثال الحرية الأصلي (للفنان بارتولدي) طوله 93 متراً، وهو يعلو جزيرة الحرية في ميناء نيويورك.. تمثال الحرية المصغر وجد لنفسه مكاناً في واشنطن كما في بلدة لاس فيغاس الأمريكي حين شاهدت نسخة من «تمثال الحرية» أمام باب أحد الفنادق، وما أكثر النسخ عن تمثال الحرية، لكن أين الحرية في عالمنا؟

لن أذكر قائمة بأسماء البلدان التي لا تعرف معنى الحرية وتقهر رعاياها، وأولها إسرائيل التي تعامل الفلسطينيين كأقلية ينبغي التخلص منها أكراماً لشعار: «من النيل إلى الفرات أرضك يا إسرائيل».. بوسع أسرائيل أن تحلم.. وبوسع عالمنا العربي أن يجد البوصلة التي أضاعها، وهي التوقف عن الحروب المحلية والعودة إلى القضية الفلسطينية.

عودة عقوبة الإعدام!

قبل أن أتحدث عن تماثيل الحرية، ربما كان عليّ أن أتذكر تأييد 55 بالمئة من الفرنسيين (في استطلاع نزيه) لتطبيق عقوبة الإعدام! ومنهم مارين لوبان، زعيمة (التجمع الوطني اليميني) حيث بلغت نسبة التأييد بينهم 85 بالمئة! وكانت عقوبة الإعدام في فرنسا قد ألغيت عام 1981 وجرى تنفيذ آخر حكم إعدام فيها عام 1977.

نذكر أن ملك فرنسا لويس السادس عشر قتل تحت المقصلة، كما زوجته ماري انطوانيت (تحت الجيوتين) واسمها جاء من اسم طبيب أحب ألا يتعذب المحكوم بالإعدام قبل موته، وأن يتم الأمر بسرعة، ومنه جاء اسم المقصلة (الجيوتين) وما زال أحفاده يحاولون تبديل اسم «السيد جيوتين» في الدوائر الرسمية.. لأنه لا أحد

يحب حمل اسم المقصلة! من طرفي، لا أرتاح إلى عقوبة الإعدام لأي سبب كان، إذ قد يكون المتهم بريئاً والمحكمة (البشرية) أخطأت، وهو خطأ لا يمكن العودة عنه والاعتراف به، لذا أقف ضد حكم الإعدام، فالسجن المؤبد أكثر قسوة، لكنه يتيح للمحكمة العودة عن الخطأ في حال براءة (المذنب).. ونجد الكثير من الأمثلة عن الذين تم الحكم عليهم بالسجن المؤبد بدل الإعدام، ثم تبينت براءتهم بعد أعوام طويلة وتم إطلاق سراحهم، بل والتعويض عليهم.

المحكوم بالإعدام خطأ لا يمكن التعويض عنه إذا كان الحكم خاطئاً وكان المتهم بريئاً. لذا، أنا ضد الحكم بالإعدام.. ونقرأ باستمرار عن أشخاص تم الحكم بالسجن المؤبد عليهم ثم تبينت براءتهم ولو بعد أعوام طويلة، وتم إطلاق سراحهم والتعويض عنهم. واخترت مثالاً على رأيي من جريدة «القدس العربي» بالذات 7ـ7ـ21 حيث تمت تبرئة 3 رجال سود في بريطانيا من تهمة السرقة. ولو عوقبوا بالإعدام لما تم الاعتراف بالخطأ أو العودة عنه!!

ثم إن (الديكتاتور) يستطيع بموجب الحكم بالإعدام التخلص من بعض المعارضة بذرائع شتى، لا في بلادنا العربية وحدها بل في أقطار أخرى أيضاً يحكمها فرد واحد بوسعه التخلص من المعارضة بإصدار أحكام الإعدام بذرائع وطنية. كوكبنا ما زال في حاجة إلى الرقي الإنساني قبل أن يصير الحكم بالاعدام مقبولاً..

وحتى ذلك الوقت، أحب أن أحكم بالإعدام على «الحكم بالإعدام»!

 

  • كاتبة وأديبة سورية

*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس



مقالات أخرى للكاتب

  • سأذهب للنزهة فوق قبوركم!
  • الأميرة الغائبة عن لبنان: الكهرباء!
  • راشانا: من قرية لبنانية إلى منارة عالمية!





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي