الليبرالية الجديدة ومنطق السوق
2021-03-27
أحمد شحيمط
أحمد شحيمط

الليبرالية الجديدة جهاز أيديولوجي تطور في خدمة طبقة معينة، وفلسفة تبلورت في أحضان مدرسة شيكاكو وربما رواسبها تمتد بعيدا في سياق الأزمات التي تعصف بالنظام الرأسمالي، وتجد طريقها نحو الحلول من قبل المدافعين عن الرأسمالية ومنطق السوق الحرة ، إنها إستراتيجية للحكم والية للتحكم من قبل الطبقة الأوليغارشية أو القلة المهيمنة على الحياة الاقتصادية والسياسية، آلية في التدبير التي تعني عدم تحكم الدولة في السوق، وفي القطاعات الحيوية، منطقها الحرية وإزالة ما تسميه العبودية وفق تعبير الكاتب النمساوي فريدريك هايك عندما تكون الدولة هي الكل، ولا تبقي على الحرية والمنافسة في احتكارها للقطاعات الحيوية، والتجارة الداخلية والخارجية دون ترك الحرية الكاملة لاقتصاد السوق، وترويج الفكرة القائلة أن الحرية والديمقراطية تساهمان في تكريس الحرية الفردية من خلال الاستهلاك والسوق الحرة، هدف الفكر النيوليبرالي تشجيع الاستهلاك، وخلق مجتمعات استهلاكية، والزيادة في الرأس المال، وتحفيز الاقتصاد عن طريق الخصخصة، وتنصل الحكومات من الإنفاق الاجتماعي، وتقليص الميزانية الخاصة بالنفقات، وتشجيع الاستثمارات الآنية، وفتح الحدود للشركات العابر للقارات، ونهج سياسة الصدمة .

عصر الدول والأمة انتهى كما قال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، إنه عصر العولمة والليبرالية الجديدة ، عصر رأس المال وتدفق الرساميل والعبور السلس للمال وتدفق الاستثمارات نحو البلدان الأخرى كسبيل وحيد للتنمية والرخاء الاقتصادي، وانتشال البلدان الفقيرة من فقرها ، فلا سبيل لذلك إلا بتطبيق الإصلاحات بالصدمة، وتحويل الكوارث لمكاسب مادية والزيادة في أرباح الشركات العملاقة وبالتالي تجدد الرأسمالية ذاتها بعيدا عن الاقتصاد الكلاسيكي وسيادة المذهب الكينزي في علاقة الدولة بالاقتصاد والمجتمع، وفي تعميم التدخلات التي تشمل العالم بدون عوائق ضريبية أو قوانين سياسية تحد من تدفق الرساميل، أي تخفيف القيود والإجراءات على حركية المقاولات، وعبور الشركات الكبرى، بمعنى آخر تخفيف القيود التشريعية على النظام المالي ، فلا حدود على الاستهلاك ولا قيود على الحرية، ولا معنى للتحكم في الأسعار، الرابحون من العملية زمرة من الأغنياء، ونسبة قليلة من ذوي المال والأعمال، والخاسرون شريحة واسعة من الفقراء والطبقة المتوسطة، تكريس لمبدأ اللامساواة وتعزيز للشرخ الطبقي الذي يولد الاحتجاج والرفض والنقد للممارسات خصوصا عندما تستجيب للدول لهذا النوع من الإصلاح الخاص باقتصادها ، خبراء يقدمون النصح ويرغمون الدول في تبني الليبرالية في نسختها الجديدة المعدلة من نقد المذاهب الاقتصادية السابقة، والتي تتماهى وفلسفة السوق بدون موانع، منظرها الاقتصادي الأمريكي "ميلتون فريدمان" من مدرسة شيكاكو، حيث تغلغلت هذه الأفكار في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكل من درس الاقتصاد في جامعة شيكاكو .
الليبرالية الجديدة أعلى مراحل الرأسمالية قدرة في تدمير الشعوب والقضاء على جوهر قيمها، وخلخلة التركيبة السكانية والنفاد للعقول قصد تفكيكها حتى تتناسب ومنطق الاستهلاك وثقافة السوق الحرة ، هناك ارتفاع مهول في السلع الخدماتية، وفوضى في الأسعار، وتخلي الدولة عن سياسة الحمائية، بل بقيت وظيفة الدولة محصورة في سن القوانين المرنة، وجمع الضرائب الداخلية، والزيادة في الفواتير الخاصة بالرسوم المتعلقة بالسكن والماء والكهرباء والضرائب على الدخل، ورسوم النظافة والارتفاع في تذاكر المواصلات، وتجميد الأجور، والزيادة في تشييد الطرقات المؤدى عنها والبنية التحتية التي تدر أموالا ، تتحول الحكومات إلى وسيط، وتستثمر في المشاريع السريعة ذات الدخل الفوري، من عقارات وبيع الأراضي، ولا تمنح الحكومات نفسها الوقت المناسب لأخذ المفيد والنافع من الليبرالية الجديدة، وما يتناسب وقدراتها الاقتصادية ومحيطها الاجتماعي والثقافي، ليس من اللازم أن تكون هذه السياسية مطبقة حرفيا في ظروف اقتصادية، وأفكار لا تناسب واقع الحال في هذه المجتمعات التي تعاني الفقر والهشاشة ، فالحكومات لا تعطي الأولوية بتقديم الخدمات الاجتماعية المتعلقة بالتعليم والصحة، وتوفير مستلزمات الأسواق ومحاربة الاحتكار وجشع التجار 

وهذا النوع من التحديد في الوظائف الحقيقية للدولة يقوض من أهدافها، ويقلل من مصداقيتها، وتنتهي الدولة القومية الحامية لأهلها في تهديد المؤسسات الدولية الداعمة لها، من خلال القروض والمساعدات أو الوعود بالاستثمارات الأجنبية، فقد كانت الشركات المتعددة الجنسيات إلى وقت قريب تثير المخاوف لدى الشعوب من الاستغلال والهيمنة خلال الحرب الباردة، أما الآن، فالحكومات تلح أكثر عليها لأجل الاستثمار ، ويبقى للدولة القومية ما يتعلق بالأمن وتوفير الشروط الملائمة لاستقرار الشركات، وتدفق رأس المال الأجنبي، إضافة للخدمات في حدود أدنى دون إنفاق أو الزيادة أكثر في المصاريف، ويرفض منظر الليبرالية الجديدة فريدمان تدخل الدولة في الاقتصاد، ويدعو للحد من الإنفاق العام، وتحفيز السياسة النقدية كأنجع وسيلة للسياسة الاقتصادية، وعلى الحكومات الكف عن عرقلة تراكم الأرباح، وأن تبيع الأصول للشركات القادرة عل تدبيرها وحسن تسييرها، وخصخصة القطاعات الخدماتية، وتخفيض الضرائب، وإلغاء هيمنة القطاع العام، فالسوق هو الذي يحدد جميع الأسعار، وليست الدولة، ومن هنا تبدو معالم العصر وأزمات الحاضر والمستقبل واضحة للعيان في تنامي الهشاشة، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتمركز رأس المال بيد قلة قليلة من الناس من الطبقة الأوليغارشية، وعمل السياسات العمومية في سن قوانين تضمن الحقوق والحريات الحقيقية، وتوفير المناخ الملائم للاستثمار الأجنبي .
الرأسمالية كفكرة أقيمت على أسس تجارية وتبادلية، في التقليل من الشرخ الطبقي مع تدعيم عمل دولة الرعاية والمنفعة للجميع، لا عدالة اجتماعية بدون مكاسب عامة، ولا منفعة بدون تعميم، ولا حرية في غياب المساواة ، تغلغل المال في السياسة، وتحولت الثقافة من أداة في تشكيل الوعي إلى وسيلة للزيادة في الإنتاج والاستهلاك، وتنويع مصادر الربح ، منطق الافتراس وهيمنة القوى المستفيدة والمنتفعة والسعي نحو الثروة والهيمنة على الشعوب الأخرى دليل على أزمة الرأسمالية والتصدع في مبادئها وأسسها، وما نشهده الآن في العالم، صعود اليسار وخروج القوى الحية في المجتمعات للمطالبة بالإنصاف، مجابهة النظام العالمي الجديد ، وعندما تلقي عليك الليبرالية الجديدة مسؤولية الفشل في عدم تحسين دخلك الفردي، وأنك في عالم يجب أن تكون داهية وماكرا، فهذا الأمر لا يمكنك اللجوء إليه لأنه مخالف للقيم والقوانين عندما تستعمل الحيل والدهاء من منطلق الغاية تبرر الوسيلة في تحسين وضعك الاجتماعي بكل الطرق، مسؤولية الفشل لا تلقى على الفرد، بل عل تنصل الدولة والحكومات من البرامج الخاصة بالرعاية الاجتماعية

مسؤولية الحكومات في الفاتورة الهائلة من الديون المسددة للمؤسسات الدولية في انحراف السياسة عن العدالة الاجتماعية، بلورة سياسة تقليص الشرخ الطبقي، وحماية المنتوج المحلي من الغزو الخارجي، مشكلة المديونية الخارجية والزيادة في وتيرة الاستنزاف للموارد الطبيعية، والتحكم من قبل الرأس المال الأجنبي ، إنها إستراتيجية مستلهمة من أفكار فلسفية واقتصادية تريد تقسيم العالم إلى سادة وعبيد، وتجعل البقاء للأقوى، وتوسيع من هامش التبعية للبلدان الغنية، وزرع الشقاق والصراعات الاجتماعية، تستند هذه الرؤية على آلية التفكيك وخلخلة البنيات الاجتماعية، تعود من جديد لإعادة البناء والإعمار ، لا شيئا يبقى ثابتا ومتراصا .
الليبرالي لا مفر منها وليست هناك بدائل في الاشتراكية أو الشيوعية كما يدعي خبراء النيوليبرالية، بل لا أمل حتى في الديمقراطية الاجتماعية، خبراء الليبرالية الجديدة تكنوقراط أو رجال الاقتصاد درسوا وتمرسوا في مدرسة شيكاكو، موجودون في أمريكا اللاتينية واسيا وفي النوادي المالية الغربية ، يقدمون الاستشارة، ويتمايلون مع الفكرة، ويحاولون إقناع العالم بميزة هذه الإستراتيجية، لكنها في مضمونها العام واضحة، ولا تأتي بالمال الوفير للفقراء، تزيد في الغنى الفاحش للأغنياء، وتقسم العالم بين خطوط غير متساوية، حيث تساهم في إشعال الصراعات الطبقية، وتندر بعودة اليسار من جديد والقوى الاشتراكية، وأنها بالملموس تعمل على تسريع ميلاد النظرية الماركسية من جديد ، والحرية المزعومة التي تترتب عن علاقتها بالرأسمالية أو الاختيار كما يدعي ميلتون فريدمان

لا يمكن قياسها على الحرية في النسخة الأصلية للرأسمالية أو منطق الحرية في الفلسفة الوجودية، ولا في رؤى لفلاسفة في تحرير الناس وجعلهم سواسية أمام القانون والمؤسسات، والحفاظ على تدخل الدولة في حماية الضعفاء من بطش الأقوياء، ومن التحالف المتين بين المال والسياسية من خلال نهج سياسة ضريبية تجعل الأغنياء ليس في مأمن من أداء مستحقات الأرباح في حق العمال والدولة، فمن الصعب فرض هذا النوع من الإستراتيجية على العالم، ومن الملاحظ أن العولمة التي كنا نعتقد أنها ستنهي الأزمات والصراعات والحروب في تقارب العالم، والربح للكل، تحولت هذه السياسة إلى فكرة حالمة ومثالية لأنها سياسة در الرماد في العيون، وفكرة موجهة من قبل القوى الرأسمالية في تصريف منتجاتها، والتقليل من هجرة الآخر نحوها، ولأنها لا تتناسب وسياسة الحمائية، وتدفق المهاجرين من العالم الثالث نحو الغرب الصناعي، وتبقى العولمة في البضائع والحرية في حركة تعميم منطق السوق ونقل الشركات العابرة للقارات .
قوانين العرض والطلب تعاد صياغتها وطرحها من قبل المتحكمين في الأسواق العالمية وليس من قل الحكومات، سلطة الحكومات في أدنى المستويات، والسؤال الذي يطرح هنا، ما الحاجة إلى حكومات ومؤسسات سياسية ؟ إذا كانت السياسة النقدية وفلسفة السوق الحرة وعدم تدخل الدولة في العرض والطلب فإن دور الحكومات هنا شكلي، ولا ينبع من سلطة الشعب والقوى الحية في المجتمعات، فخ الليبرالية الجديدة ومصيدة النوادي العالمية وآراء التكنوقراط والخبراء في مجال الاقتصاد والمال، والأمر هنا يزيد في شرارة الاحتقان الاجتماعي والقهر الممارس على الفئات العمالية والطبقات الاجتماعية الهشة، تسلل الشركات العملاقة يقضي بالدرجة الأولى عل الاقتصاد المحلي، وعلي يد الصانع المحلي الذي يجد بضاعته بأكثر الأثمان وأقل جودة، إغراء الأسواق بالمنتوج الأجنبي، تسريع العمال من المعامل، العالم الثالث يصير خزان لليد العاملة الرخيصة، ويتحول هذا العالم إلى بروليتاريا وعبيد للأسياد في العالم الصناعي، أما المبالغة في الحرية الفردية وربط الرأسمالية بالحرية، والانتعاش الإقتصادي من خطة ممنهجة من قبل دعاة هذه الخطة الاقتصادية هي مجرد أوهام، ومجرد آراء للتسويق ليس إلا، فالتجارب الاقتصادية في تشيلي والأرجنتين وأفريقيا وغيرها من دول العالم التي وقعت تحت تأثير مدرسة شيكاكو ظلت واضحة النتائج، والتطبيق العنيف لهذا الاختيار تحت وقع الصدمات والكوارث والإجتثات على حساب الفقراء والعمال أنتج سخطا عالميا من استغلال الكوارث وتدمير البيئة نحو ميلاد مشاريع جديدة، وخصخصة القطاعات العامة، وإرغام المزارعين على بيع أراضيهم للشركات الكبرى .
الأيام القادمة تندر بعودة اليسار العالمي، واقتناع الجماهير بضعف الرأسمالية في تدبير الأزمات مما يفسح المجال للبدائل في نظام اجتماعي يعيد الاعتبار للعلاقة المتوازنة بين الطبقات الاجتماعية، ويقلل من الصراع، لكن خبراء الليبرالية الجديدة يعتبرون الأزمات واشتدادها مهمة في تقوية الاقتصاد، وتنمية الرأس المال، وكل الموارد الموجودة في الطبيعة وجميع الأرباح هي للشركات العملاقة، ومن نصيب الأغنياء، والأرضية المناسبة لاستغلال الشعوب تبدأ من محاربة الأنظمة المضادة لليبرالية الجديدة، وتوظيف البعد السياسي والإيديولوجي في تصنيف البلدان، بين محور الخير ومحور الشر، والإبقاء على المصالح من خلال التحالف بين الرجعية والأنظمة الاستبدادية والقوى الضاغطة والمسيطرة على العالم .


 *كاتب من المغرب
*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

 



مقالات أخرى للكاتب

  • الحرب وحق المقاومة
  • يقظة أفريقيا
  • مونديال قطر 2022





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي