ترامب وإرادة القوة
2025-03-01
أحمد شحيمط
أحمد شحيمط

رأيت الإمبراطور، روح العالم على حصان يتقدم إلى الأمام في خطوة مهمة نحو التقدم البشري، هكذا نظر الفيلسوف هيجل إلى نابليون وحملاته العسكرية، وكيف أن القائد أو الزعيم ينفذ إرادة التاريخ، بحيث اختارته العناية الإلهية لكي يسرع من حركية التاريخ، ويبعث روحا جديدة في الجسد الأوروبي والعالمي من خلال عملية قيصرية، وأدوات عملية لمحاربة الاستبداد، والتجاوز للأنظمة الرجعية، والأنظمة الشمولية الديكتاتورية، إيمانا من الفيلسوف بمبادئ الثورة الفرنسية، وفكرة بعث فكر تقدمي نابع من هذه المبادئ العامة في التغيير للتاريخ والواقع. حلم الفيلسوف في تحقق الفكرة وتجسيد الإرادة الفعلية التي تجعل من القيم الأخلاقية والعقلانية أداة في البناء وتحقيق الحرية، نابليون كصورة للقائد بوصفه روح العالم لم يكن بالمواصفات التي يحملها الفيلسوف أمام همجية الجيوش الفرنسية، وسلطوية نابليون بعيدا عن فكرة الحرية والمساواة والأخوة، وأشياء أخرى معقولة في مبادئ الثورة الفرنسية. الجيوش لا تحمل هم الحرية، ولا تتماهى مع الفعل الأخلاقي، بل للجيوش أدوات لتحقيق غاية الزعيم، ورغبات القادة في الهيمنة والسيطرة. الإعجاب بالقادة لا يدوم، والسياسة عالم آخر لمن يرغب في البقاء والخلود في السلطة، لمن يمتلك الدهاء والمكر في الاحتفاظ بسلطانه، والدفاع عنه بشتى الوسائل. الغاية تبرر الوسيلة فكرة ميكيافلية توحدت بالفلسفة البرغماتية اليوم، وأنتجت زعماء في العالم دافعوا عن حقهم في البقاء بعيدا عن إرادة الشعوب، لا تعني الإرادة سوى القدرة على فعل شيء معين. تستلزم تسطير الأهداف، وامتلاك الوسائل الممكنة . قوة الإرادة نابعة من التصميم والدهاء والذكاء على الفعل، وتقوية لكل النزوعات الذاتية، من رغبات وطموحات نحو الفعل والمكسب، وإرغام الذات على الاستجابة، وكذلك إلزام الآخر بالفعل بشتى الوسائل المتاحة، إنه الهوس بالسلطة وفقدانها يعني نهاية للزعيم .
الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" فريد ومتفرد في شخصيته، يطرح نفسه امبرطورا للعالم كما قال الرئيس البرازيلي دا سيلفا، لا يحترم سيادة الدول، ويرغب في السيطرة على الكيانات الأخرى، القريبة والبعيدة، منها كندا وجزيرة "غريلاند" التابعة للدنمارك، وقناة بنما، والسيطرة على غزة، وتهجير أهلها إلى صحراء سيناء والأردن ، ناهيك عن اتفاق المعادن النادرة مع أوكرانيا كشرط للتسوية والدعم، تبدو صراحة ترامب غريبة وقصدية، مباشرة ونفعية في الممارسة السياسية، يفرض المعادلات، ويقلل من الخصم، ويفرض السلام بالقوة، ويرغب في ترتيب العالم مرة أخرى بالانحياز لروسيا، ومحاولة فك الإرتبط مع الشركاء الأوربيين من خلال إعادة النظر في الاتفاقيات، والتلويح بالعقوبات والضرائب على الواردات، والانسحاب من بعض المنظمات العالمية. لو كان ترامب في الحكم لما وقعت حرب روسيا وأوكرانيا، لو كان ترامب في الحكم لما وقع السابع من أكتوبر. يعتقد ترامب أنه صاحب الفكرة في إنهاء الحرب على غزة بالتلويح والتهديد لكل من حماس وإسرائيل، لن تكون هناك حرب عالمية ثالثة، الحرب بدأت مع الصين على الريادة والزعامة، ولذلك يعيد ترامب ترتيب البيت الأمريكي، يولي أهمية للكفاءات والأحلام المستقبلية في غزو الفضاء، الوجه الآخر في السياسة الأمريكية، إيلون ماسك، مستشار الرئيس، مهمته قيادة وزارة تهتم بالكفاءة الحكومية، هدفها تفكيك البيروقراطية الحكومية، وتقليص الإجراءات التنظيمية المفرطة، والعمل على خفض النفقات، وإعادة هيكلة الوكالات الفيدرالية . صفوة من القادة العمليين في مجالات مختلفة، يرسمون الممكن والمستحيل في عودة أمريكا من جديد. العصر الذهبي بدأ بشكل رسمي، من ينقد بلده لا ينتهك القوانين، من يحمل شعلة التقدم والزيادة في جرعته لا بد أن يكون جديرا بالاحترام والتقدير. أمريكا تعاني الانهيار كما يفهم ترامب، ولا يمكن إنقاذها إلا بفعل سن سياسة الصدمات، والتلويح بخيار القوة كسبيل للسلام .
القوة العسكرية ليست وحدها كافية، القوة الناعمة والقدرة على إعادة ترتيب الأشياء والأولويات، ولا يمكن ذلك إلا من خلال شخص يتمتع بتفويض إلهي، الأمر يعود بنا للوراء إلى نظرية الحق الإلهي للملوك، ما قبل القرن السابع عشر الميلادي، وكيف انبرى الفلاسفة لنقد هذا الحق من خلال تقييد سلطة الحاكم والثورة عليه كلما تجاوز السلطة التشريعية، مثال ذلك مع بعض فلاسفة العقد الاجتماعي، ومنهم "جون لوك" في كتابه "في الحكم المدني"، العودة من أجل أمريكا وقيادة شعبها بعدما كادت تعصف الأزمات بسياستها في عهد بايدن . وبين الفينة والأخرى، يلوح ترامب بولاية جديدة في خرق للدستور الأمريكي، ذلك بمثابة محلال يقيس درجة الوعي الاجتماعي، وإمكانية تغيير بنود في الدستور حتى يتلاءم وطموحاته السياسية، وحتى لا يصطدم بالرأي السياسي والشعبي لإعادة انتخابه مرة جديدة على غرار السائد في الصين وروسيا . ترامب واللعب عل الوتر العاطفي، وعلى إعادة تشكيل الوعي الاجتماعي من خلال سياسة الصدمات أو نظرية الدخان والمرايا، والقدرة عل استخدام أساليب التضليل والخداع في توهيم الناس بالحقائق الوهمية والمزيفة، ونقل المستحيل إلى عالم الممكن. تطبيق هذه النظرية وتوجيه الرأي العام نحو الفكرة، وتدعيمها بالضغط أو التلويح باستعمال الأدوات غير الناعمة، كالحرمان من الدعم المالي، فرض العقوبات وتكبيل النشاط الاقتصادي، ونسف الاتفاقات العسكرية.
الطرف الآخر وقوة صلابته في التقبل أو الرفض، لكن ترامب يكون على يقين ودرجة عالية من الإرادة أن الأطراف ستقبل الفكرة، أن تكون كندا ولاية تابعة لأمريكا، تحويل خليج المكسيك إلى خليج أمريكا، الزيادة في السياج الأمني، ومنع عبور المهاجرين غير الشرعيين، وترحيل الكثير منهم بالقوة، والسيطرة على قناة بنما، وطرح الأفكار بشكل متكرر مما يجعل الناس يفكرون في الفكرة على أنها أمر واقع، ولو كانت ضربا من الاستحالة فالضجة الإعلامية تزيد في شرارة الأفكار وتطرحها للحوار والنقاش، وربما للتفاوض والإمكان، تلاعب استراتيجي، لساني وسياسي، مفعم بالتهديد والمنفعة، يعتمد على واقع مزيف وحقائق وهمية، يمكن أن تصير واقع فعلي أو على الأقل تقبل النقاش والتفاوض، وتتحول إلى سيناريوهات ممكنة وخيارات بديلة. ترامب تاجر وبائع في مجال العقارات، كل الأشياء قابلة البيع والشراء، كل الاحتمالات واردة في عالم الاقتصاد. سياسة العرض والطلب، وسياسة التلويح بالقوة، واليد الناعمة، إمكانيات وخيارات في عالم السياسة والاقتصاد من قبل الإمبراطور الذي لا يمكن لقوله أن يكون محل مزايدات، ولما يراه الزعيم من خير على الشعوب والعالم، زعيم على غرار أباطرة الرومان، ومن يحملون المبادئ والقيم الكونية التي ترفع العالم نحو الرخاء والسلام المنشود .
إرادة القوة على الطريقة الترامبية، وليس على الطريقة النيتشوية، تعني الزيادة في القدرة والفعل، والزيادة في الخطاب والقول، والتلويح بكل الخيرات الممكنة في سبيل أن تنعم أمريكا بالرخاء والريادة في المال والأعمال، أن ينعم الآخر بالسلام. التفاوض مع كوريا الشمالية، التخلي التدريجي عن أوربا، وفرض الرسوم عليها، إنهاء الشراكة السابقة التي لم تكن منصفة وعادلة بالنسبة لأمريكا. قطع المساعدات عن جنوب إفريقيا، الإيمان بإسرائيل الكبرى ورقعتها الجغرافية في حاجة للتمدد، إعادة النظر في ميزانية الحلف الأطلسي، واتهام "زيلنسكي" أنه رئيس ديكتاتور وغير منتخب، وعليه مغادرة السلطة وإلا تصير أوكرانيا بلدا روسيا . نهاية المساعدات والعطايا المجانية، نهاية تدفق الرأسمال الأمريكي، ونهاية كل من يستغل أمريكا، كذلك التلويح بضرب إيران، والحد من طموحها النووي، اعتبار الحوثيبن باليمن منظمة إرهابية تهدد الملاحة البحرية. مطالبة أفغانستان باستعادة المعدات التي تركها الجيش الأمريكي. هناك قرارات وخطاب لا يهدأ، مفعم بالوعد والوعيد، يستند على العصا والجزرة، ويعتمد على التشارك والرفض. مبدأ القوة حسب ترامب ينطبق على رغبته ومن معه من النخب السياسية على الظهور في الواجهة، وفي قلب الحدث بعيدا عن سلطة المؤسسات الدولية، وعندما تتحقق الفكرة، ويتم الالتفاف عليها بالتفاوض والإرغام يأتي دور مجلس الأمن للتصويت، فكرة الزعيم قائمة على التوازن بين الحكمة والصرامة، الانسجام بين الخطاب السياسي والممارسة، أمريكا أولا من أجل الإنقاذ والتجديد. إرادة القوة مبدأ نفسي وظاهرة كونية للتعبير، وشرط وجود الإنسان والعالم، عندما يسير العالم نحو الهاوية والانحطاط يكون من اللازم أن تكون هناك قوة متماسكة تتحمل المسؤولية في الحفاظ على توازنه، وما يفعله ترامب وفريقه نوع من الانقلاب في السياسة والمواقف اتجاه مجموعة من القوى والأطراف المتصارعة والمتحالفة .
إرادة القوة في الكشف عن اللعبة السياسية، وتعرية الخطاب المهيمن على الساحة قبل صعود ترامب، أمريكا تدعم أوكرانيا بسلاحها وأموالها، تستفيد أوروبا بدعم أوكرانيا بالسلاح والمال على شكل قروض، أمريكا تضخ في ميزانية الحلف الأطلسي أموالا، وعلى الأوربيون ضخ المزيد من الأموال كذلك، حقا لقد أرعب ترامب الأوربيين بإعادة النظر في جملة من الاتفاقات والعلاقات المشتركة من خلال الزيادة في الرسوم والتهديد بالانسحاب من المنظمات الدولية. إرادة القوة تعبر عن نفسها كمبدأ ذاتي في العبور بالعالم نحو السلام كما يتصوره ترامب وفريقه، إرادة مبنية على سياسة الإملاء والإرغام بطرق شتى، ولا يخلو هذا النوع من التوجه من صدمات وتحايل ومراوغة في سبيل نيل المكاسب المادية، واستعمال الأدوات الإعلامية للضغط والترهيب دون المراعاة لوحدة المجتمعات وسيادة الدول. إمبراطور جديد على صورة نابليون في قدرته على تغيير معالم الحياة الأوربية، في وضع مبادئ الفكر البرغماتي الجديد. العالم تحكمه روح جديدة، تلوح بالقوة من أجل السلام العالمي، دبلوماسية فريقه شبيهة بذر الرماد في العيون، دبلوماسية سحرية براقة، في ظاهرها نزوع نحو السلم والرخاء والقضاء على الحروب والنزاعات، وفي باطنها تخفي نزوع أمريكا إلى الهيمنة على العالم، يسيل لعابها للثروات الباطنية النفيسة، والنظر لما تمتلك الدول من سيولة في الاستثمار والتجارة، وعندما يتحرك ترامب لن يندفع إلا بناء على نزعة برغماتية، يزيح أوروبا من المفاوضات مع أوكرانيا، يجعل من السعودية محطة للتفاوض بين روسيا وأوكرانيا، يستبعد الطرف المحارب، ويلقي اللوم على الرئيس "زيلنسكي" الذي تلاعب بفكره بايدن والأوربيون، وما كانت لهذه الحرب أن تقع لو كان ترامب في السلطة .
الجهر بالكلمة، والخطاب المفعم بالدونية للرئيس السابق من خلال أخطائه وهفواته، وعدم القدرة على تدبير الشأن السياسي، جاء ترامب، وهو يعتقد في القدرة على حل مشكلات العالم، وبالمقابل انسحابه من المنظمات الدولية، والتشكيك في هيئة المم المتحدة دليل آخر على الشعبوية، والإيمان بقوة الصفوة، ونماذج من القادة الجدد، الزعيم من طينة ترامب في حاجة إلى خبراء في مجال التحليل النفسي، وخبراء في الذكاء، ومنظري المجال الاقتصادي والتجاري، يفهمون عقلية الرجل واندفاعه من جراء القرارات والإجراءات الكثيرة في عالم تحكمه دول وقيم مختلفة، في عالم يجتمع أهله في الجمعية العامة للأمم المتحدة لإبداء الرأي في العلاقات الدولية، وبالتالي الدعوة لحل الأزمات بالتفاوض والتنازل، حقا إن عالم ترامب غريب وعجيب، تكتيكات الرجل تنم عن صراحة القول في السياسة والرغبة في السيطرة، تاجر يركز على الربح من منطلق أمريكا الرابح الأكبر، من منطلق أن العالم للأقوياء وليس للضعفاء، إرادة القوة شرط للكائن الإنسائي، شرط الوجود الفعلي في عالم متوحش، عالم يصنعه الأقوياء من خلال موازين القوة اللامتكافئة.
يرغب ترامب في الابتزاز، ينقلب فجأة بغياب المصلحة والمنفعة، وتعلو صورة شخصية أو دولة معينة بمجرد أن تلوح في الأفق المصالح والأموال المتدفقة. أمر غريب أن تتجه السياسة إلى هذا النوع من القادة في الزمن السائل الذي يعرف تبدلا في المواقف والقيم. أهل غزة والعرب جميعا يعرفون أن قضية التهجير مستحيلة وغير واردة، وأنها لا تصلح للنقاش والدعاية المجانية الإعلامية، ومع ذلك يكررها ترامب إذا التمس الرفض المطلق من كل الأطراف، يقول قولا لينا باستعلاء، إنه يوصي بالفكرة، ولا يفرضها بالقوة. ونحن نعرف بالتمام أن القوة في أقل تعريفها هي القدرة على الفعل، ولكل فعل رد فعل في القوانين العلمية. لا بد أن يدرك العالم أن زمن الإمبراطوريات ولى، ولا أمل في انبثاق زعماء من طينة نابليون وهتلر، من طينة أباطرة الرومان القدماء، من طينة الأكاسرة، لأن التاريخ يتحرك إلى الأمام، ومكر التاريخ يجعل الزعماء والأبطال مجرد أدوات في خدمة حركية التاريخ ودينامية المجتمعات، وإذا انحرفت السياسية عن مبادئها، يمكن للعالم أن يثور، والبداية من الشعب الأمريكي، من خلال عودته إلى أصول الحكم الديمقراطي، كما وضع معالمه المشرعون في القانون، وأصحاب الضمائر الطيبة، وذوي الحكمة في سن القوانين العادلة والمنصفة للتعايش وإحلال السلام في العالم .


*باحث وكاتب مغربي - الامة برس
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس

 

 



مقالات أخرى للكاتب

  • خطاب ترامب عن الحرب والسلام
  • زمن الجماهير
  • الحرب وحق المقاومة







  • شخصية العام

    كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي