هل انتهى ترامب ؟
2021-02-16
أحمد شحيمط
أحمد شحيمط

تبرئة دونالد ترامب من الإدانة الخاصة بالتحريض والإساءة للديمقراطية الأمريكية في اقتحام مبنى الكابيتول ، جاءت التبرئة بعد نقاشات وصراعات سياسية بين الجمهوريين والديمقراطيين، أو لنقل بين مجموعات متناقضة الرؤى والأهداف، تبرئة الرئيس السابق اعتبره البعض انتصارا للديمقراطية، وإعادة تصويب السياسة وما ينسجم والمستقبل البعيد حتى لا تنزلق الأمور نحو العنف والفوضى، ويتخذ المشهد السياسي بعدا جديدا في مسار الصراع المجتمعي، ذكاء الدفاع وانقسام الكونغرس في التصويت، لم يصل للنصاب الأوفر والعتبة المحددة في الإدانة، بقيت الأصوات تتموقع بين الإدانة والتبرئة، مساءلته يمكن إدراجها ضمن الانتقام السياسي، وإجراء غير عادل ولا دستوري كما يقول أنصاره والمتعاطفين معه، إذا كانت الوقائع لا تستند على حجة دامغة تتعلق بالعصيان والتحريض، فالأمل محدود في التحقق من التهم المنسوبة إليه.
لكن التوجه للكونغرس بالذات، لا يعني غياب لأي مضمون للمحاكمة، لأن التغريدات والخطب القصيرة لترامب كانت كافية لمحاكمته، هناك شواهد مادية دالة على التحريض، وهناك كما من الحقائق رآها العالم وسمعها من خطاب ترامب عن اتهامه الطرف الآخر بتزوير الانتخابات، أما تبرئته يمكن اعتبارها كذلك، انتصارا لروح القانون، ومحاولة انتشال البلد من الاحتقان السياسي، وإعادة النظر في سياسة الحزب الجمهوري ، ولا نعتقد أنها انتصارا للشعبوية، ففي أول تعليق له، خرج ترامب كعادته للتعبير عن توجهات البعض في محاربة المخالفين في الفكر والرأي، ترامب يعتقد الصواب في منهجه وطرق تفكيره، وأنه بالفعل يريد لأمريكا أن تكون كما يريدها قوية أكثر، لا ترتوي من سياسة النخب التقليدية، ودبلوماسية الديمقراطيين المفرطة في الليونة على حساب المصالح العليا للبلد، تبرئته تلقي العديد من الأسئلة عن مستقبله، ومستوى حظوظ الحزب الجمهوري في قيادة أمريكا مستقبلا، وإمكانية العودة للمشهد السياسي قويا، يعيد الحزب ترميم ذاته، وينكشف السقوط أمام العالم عندما اقتحم مجموعة من الناس الكونغرس، بدافع الأفكار التي استلهمها هؤلاء من ترامب.
تنصله لا يعني التحريض العلني الواضح، لكن الخطاب السياسي الموجه للرئيس الجديد، والاتهام المباشر بالتلاعب بالنتائج أنتج هذا التدافع والاحتقان، وليس جديدا هذا الاتهام، بل سبق للحزب الديمقراطي اتهام الجمهوريين وروسيا بمساندة ترامب على الفوز بالانتخابات السابقة، بوادر الأزمة السياسية يمكن أن تلوح في الأفق، مصداقية الانتخابات يمكن أن تنتهي لتبادل الشتائم، ونهاية الثقة بين الطرفين، واللعبة السياسية القائمة على التداول السلمي للسلطة تتحول لمزيد من الاستقطاب والتعبئة، والخاسر الأكبر الشعب الأمريكي وهيبة أمريكا الراعية للقيم الديمقراطية في العالم .
يمكن أن تتحول الأزمة السياسية إلى عصيان مدني، وتنقسم أمريكا إلى تيارات متباينة الرؤى والأهداف، وتتحول الديمقراطية عن مسارها المرسوم، وينتج عن ذلك تمزقا في الهوية وشرخا في الذات، أعتقد أن الحكماء من ذوي النظرة البعيدة المدى أدركوا بالفعل تبعات المحاكمة، عندما تتحول لإدانة مباشرة، يمكن أن تصير فيها الأمور نحو وجهة أخرى وبعواقب شتى، فكانت اللعبة محبوكة وتخريج عام للمخرج الذي يمكن أن يتحول لمنزلق خطير، يستشري العنف في أمريكا، ويتبادل الحزبين الشتائم، ويتجه الفعل السياسي نحو تقويض أسس البناء الديمقراطي، وتصبح أمريكا ونظامها عرضة للسخرية من قبل العالم، يعني نواقص الديمقراطية يحول أمريكا لإدانة العالم الآخر عن التناقض بين الخطاب والفعل، يدعوها الخصوم لإعادة النظر في بيتها الداخلي، والكف عن خطاب الأوهام وتسويق الحقائق المزيفة عن الآخر
تبرئة ترامب دليل آخر على استقرار الديمقراطية الأمريكية، ومؤشر جديد على نواقصها كذلك ، هشاشتها وقوتها من الداخل، وليس من الخارج، حضورها في العالم ودفاعها عن قيم الحرية أدخلها في مساءلة ذاتها قبل محاسبة غيرها ، هناك دروس وعبر يجب على المشرعين والفاعلين والنخب السياسية في الولايات المتحدة إعادة النظر فيها، أمريكا مقبلة على ظروف يمكن أن تعجل بنهايتها كزعيمة للعالم الحر، وقائدة سياسة العولمة في العالم، وهذا يمكنه إنهاء الليبرالية والتمهيد لنظام سياسي واقتصادي عالمي كعودة للاشتراكية في طبيعتها الاجتماعية ، لا نعتقد أن هذا التحول سيأتي دفعة واحدة من دولة رأسمالية زعيمة العالم، لكن الصراع يمكن أن يتخذ طابعا هوياتيا وقيميا ، ضد المهاجرين والعابرين والفارين من غير الجنس الأبيض.
هذا الخوف على أمريكا من الصراع الداخلي تمليه التحليلات السياسية والمناظرات العامة عن القيم الأصيلة في الثقافة الأمريكية ، يعتقد الديمقراطيون أن سياسة ترامب أساءت لصورة أمريكا في الداخل والخارج، تنصله من الاتفاقات الدولية، ومن الشراكة الإستراتيجية مع الإتحاد الأوروبي، في التشديد على المنتجات، وعدم الإنصات لصوت العقل والتاريخ المشترك، ناهيك عن عدم التعامل الجدي مع فيروس كورونا، والتماطل في التصدي للعنصرية اتجاه السود، وكل ما وقع من أحداث عند مقتل جورج فلويد، وتهديد الشعب بتدخل الجيش لقمع المظاهرات السلمية والانسحاب من بعض المنظمات الدولية .
تركة ترامب السياسية تعيد الاعتبار لأمريكا كأنها أمة خاصة بالرجل الأبيض، أصولها كما قال "هنتغتون" تعود للقرون السابقة عندما تشكلت أولى المستعمرات البريطانية، وتغير ألوانها وقيمها مردها للزحف والهجرة، والخوف من الاستبدال الكبير الذي يمكن أن يصيبها من جراء تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين من أصول مختلفة، الزحف من المكسيك واللغة الاسبانية، والزحف من آسيا وانتشار الأديان في أمريكا، صراع الأقليات والاثنيات تهديد واقعي للوحدة والقيم، وعندما يرفع ترامب الإنجيل، فهي إشارة للانجيليون الجدد المناصرين لترامب وسياسته، ولأغلب رؤساء الحزب الجمهوري، ومنهم جورج بوش الابن.
وتدعيم فكرة المحافظون الجدد الذي غالبا ما يكون خطابهم السياسي ملفوفا بالكلام عن القيم والحذر من الآخر، هم الذين كرسوا الحرب على ما يسمى الإرهاب ورسخوا فكرة الاسلاموفوبيا ، والحرب التجارية على الصين، وتقسيم العالم بين محور الخير ومحور الشر، تركة ترامب السياسة أعتقد أنها لن تمحى بسهولة من خلال ولاية بايدن، تستمر "الفكرة الترامبية"، وينتشر المعتنقون لأفكاره وأهدافه، الشعبوية في أوضح صورها لا تؤمن بكل ما تقدمه السياسة والنخب السياسية من أصحاب الكفاءة والخبرة، ولا تركن للخطب الرنانة والدبلوماسية الهادفة، أمريكا أولا شعار ترامب، المصلحة والجهر بالعداء، جو بايدن على خطى "باراك أوباما" في تصحيح الأخطاء الخاصة بالجمهوريين، من حرب العراق وأفغانستان، وتشتيت القوة في دول الصراع، وإعادة تهدئة السياسة عبر دبلوماسية براغماتية، تحتوي الآخر دون المواجهة المباشرة .
ملفات يعاد تعديلها، وقرارات يتم تفنيدها وتصحيحها، ولازالت سياسية جو بايدن غير واضحة المعالم، لكن نعتقد أنها تسترشد بالدبلوماسية والنهج التصالحي مع الداخل والخارج، معالم السياسة لا تغفل الملفات الشائكة في الشرق الأوسط، من البرنامج النووي الإيراني والعلاقات الأمريكية العربية، إنهاء الحروب والدخول في مفاوضات شاملة بين الأطراف المتصارعة ، قرارات أخرى لازال في طي الكتمان أو لم يفصح عنها حتى الآن .
تركة ترامب تعني فلسفته في القيادة، وخطابه الأقرب للشعبوية، ومناهضة النخب المتمرسة، وما يتعلق بالدبلوماسية المرنة ، خطابه الحماسي القوي المفعم بالصراحة والوقاحة أحيانا يغطي على الضعف في المردودية، نوع من الاستمالة للكثير من أنصاره من البيض، وذوي والميولات الخاصة بالتفوق العرقي، والقيم الراسخة التي يعتبرونها الأصل الذي أقيمت عليها سياسة أمريكا من البداية ، شرارة الصراع القيمي والديني سيكون لا محالة موضوعا في السنوات القادمة ، سيعود ترامب من جديد للتغريد والتعبير من خلال تويتر وفايسبوك ، حملاته في الخطاب الموجه للنخب يلقي قبولا من قبل فئات عريضة في المجتمع، عند أولئك الذين سئموا من الرسمي، ومن الدبلوماسية بدون أفعال واضحة .
الحركة التصحيحية الآن إن صح هذا التعبير، يمكن أن تأتي بنتائج حسنة، وسرعان ما يعود الناخب مرة أخرى للبحث عما يشفي غليله في السياسة الجديدة، وميلاد فلسفة ترامب مرة أخرى، بداية لجعل أمريكا عظيمة كما يتكرر على لسانه، تلك الكلمات التي يرددها ترامب كل مرة، هذا الهوس والزيادة في الشعور بالعظمة أن أمريكا لم تعرف في تاريخها نموذجا أو مثلا للرئيس الأنسب مثل ترامب، بل حتى الشعب الأمريكي لم يضع الثقة في النخب الحالية، ولا في الإعلام المفعم بالأكاذيب والافتراء، شعار قديم استهلك من فرط استعماله لدى بعض الرؤساء حتى أضحى مكررا ولأهداف انتخابية وسياسية، من يتأمل المشهد السياسي، وتصويت الناس على ترامب يدرك لا محالة قدرته في الاستمالة والإقناع، لكنه في النهاية اقتنع بوجود قوة خفية تعمل عملها، وهي الدولة العميقة .
الترامبية ليست هنا فلسفة على غرار البرغماتية الخاصة بوليام جيمس وجون ديوي، ولا تعني ميكيافيلية في الحكم والقيادة لأنها لا تستهدف الأمير بمواصفات معينة في الحفاظ على السلطة ودوامها، بل إنها خطة جديدة في عالم السياسة اليومية، تستمد من الشعبوية والخطاب المفعم بالعاطفة، والوعود السخية، ومن قوة القيم الراسخة في المجتمع الأمريكي، ولا تعني أنها خاوية من التأطير والتأثير، بل ما يرسمه الفكر السياسي اليوم في عودة أمريكا لأحضان الفكرة الدينية الخاصة بالبروتستانتية والقومية العرقية الخاصة بالبيض، تنهل الترامبية من الأفكار العامة، ومن حاجة الجمهور لرجل لا يجيد الدبلوماسية المفرطة في النعومة .
هوس الناس بالخطاب الترامبي مرده للخطب الرنانة بلغة بسيطة، والعداء الواضح للمهاجرين، والرغبة في التنصل من كل الالتزامات، لا يستمد أصول أفكاره دائما من أدبيات الحزب الجمهوري، تمرسه في العمل الاقتصادي، وفي ابتزاز الدول الأخرى الحليفة وغير الحليفة أمر واضح، ما يجعل الصراع في أمريكا بعد خسارة ترامب منقسم بين فريقين ، الترامبية وأنصارها، والفكر التعددي القائم على تنوع المكونات العرقية والدينية والسياسية في المجتمع الأمريكي، ولعل السنوات القادمة ستظهر للعالم الوجه الآخر لأمريكا طالما بدأت الفكرة وأخذت في الانتشار، انتهى ترامب سياسيا بهزيمته في الانتخابات، انتصر في المحاكمة الأخيرة، استمال الجمهوريين، والقلة منهم صوتت ضده ، أظهر أمريكا بتناقضاتها، لاح الانقسام والتشرذم الظاهر والكامن، ساهم في إشعال شرارة الخلاف، وأظهر نواقص في الديمقراطية الأمريكية، والأفكار كما نعلم لا تموت، بل تعود من جديد . ويبقى السؤال معلقا .

 

*كاتب من المغرب

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • الحرب وحق المقاومة
  • يقظة أفريقيا
  • مونديال قطر 2022





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي