من مدن الشغف
2019-12-02
 بروين حبيب
بروين حبيب

 

■ خلال زيارتي الأخيرة لأذربيجان، لم يعرف المرشد السياحي أين يقع متحف الكتب الصغيرة، ولا السائق الذي أردت أن يقلني إليه، وبدل أن يرشداني إلى المكان، قدتهما أنا إليه، حيث يتواجد في مدينة باكو القديمة، فلطالما قرأت عن أشياء في الروايات وكتب كثيرة مختلفة، عن أمور يجهلها حتى أهل البلاد التي أزورها.

قرأت عن المتحف منذ سنوات، وبقيت تفاصيله لصيقة بذاكرتي، تماما كما الكم الهائل من قصص الأطفال العجيبة التي قرأت، والروايات التي اخترقت روحي إلى الأبد، والقصائد التي أصبحت جزءا مني.. أنا كائن معجون بالقصص، وحيثما أذهب أبحث عن قصصي، لأراها متجسِّدة أمامي.. قصة المتحف طريفة مثل صاحبتها السيدة «ظريفة» التي عكفت على جمع ذلك الكم من الكتب الصغيرة، والجميل أنها هي التي تستقبل السيّاح وتشرح لهم حكاية مجموعتها النّادرة تلك، والأجمل أن فكرتها وجدت الدعم من الرئيس شخصيا، ليصبح المكان معلما سياحيا تقصده نخب العالم.

سحر المكان يكمن في أنه المتحف الوحيد في العالم المكرس لطبعات الكتب المصغرة. مكتبة الكتب الصغيرة في المتحف هي نتاج مجموعة خاصة من ظريفة صلاحوفا، وقد تم جمعها على مدار أكثر من 30 عامًا. في عام 2002، عندما فتحت المتحف، شاركت أخيرًا مجموعتها مع الجمهور. جزء كبير من الكتب أيضًا هو من تبرع جامع أوكراني، قدّم كتبه الصغيرة إلى صلاحوفا عام 2001. يحتوي المتحف على عدة آلاف من الكتب ذات الحجم الخيالي، بما في ذلك الطبعات المصغرة لأعمال بوشكين ودوستويفسكي وغوغول، وتشوكوفسكي وشكسبير وأمهات الكتب التي نعرفها، وقد اقتنيت كتاب «جيفارا»، وحين أغلقت عليه كفي شعرت بأنني امتلكت العالم، يا للشعور اللذيذ.

منشأ الكتب من جميع أنحاء العالم (ست وستون دولة)، وهي مكتوبة بلغات عديدة، بما في ذلك اللغة الأذرية والروسية والإنكليزية والألمانية. أقدم كتاب في المتحف هو نسخة مصغرة من القرآن، يرجع تاريخها إلى القرن السابع عشر، في حين أن أصغر تومي (6 مم × 9 مم) هو الكتاب الروسي «الشيء الأكثر معجزة»، والذي لا يمكن قراءته إلا باستخدام عدسة مكبرة .

دخل المتحف موسوعة غينيس لهذا استغربت كيف لم يعرفه المرشد السياحي، لكنني تذكرت متاحف أخرى يجهلها مرشدو السياحة، لا لأنها ليست مشهورة، بل لأن جمهورها مختلف، والطلب لزيارتها قليل، مثل متحف هانس كريستيان أندرسون في أودنسا في الدنمارك، وهو واحد من تلك الأماكن التي ما إن يدخلها الشخص حتى يشعر بأنه سافر عبر الزمن إلى طفولته، وهذا بالضبط ما أبحث عنه ربما، وأنا أزور هذه الأماكن الفريدة، حيث أنسى عمري، وتستيقظ في داخلي الطفلة التي كانت تدهشها القصص والرسومات الجميلة، وتتأثر بالكلمات، وتبكي مع أبطالها، وتعتقد أنها كائنات حقيقية، لا تكتفي بمحبتهم خلال فترة القراءة بل ستحبهم إلى الأبد.

كل ما عرفته عن ثقافة أذربيجان عن تعايش الثقافات وتلاقحها، هو في الحقيقة خليط يختلف عنّا، ولكنه يقترب منا أيضا، وهو نموذج لجماليات اختلاط الأنساب وتوالد الجديد بكل ما يحمله من دهشة. لقد وقفت أمام متحف حيدر علييف في باكو، آخر إنجاز للمهندسة العراقية العالمية زها حديد، وتأكدت أن الثقافات التي تتميز هي تلك التي تأخذ من غيرها لتتجدّد، فلا تلك التي تنغلق على نفسها تصمد أمام عجلة التطور، ولا تلك التي تنسلخ عن جلدها وتحاول ارتداء عباءة غيرها، تجد مكانا لها بين ما هو جديد.

فكرة زها حديد لإنشاء مبنى المتحف فكرة مدهشة، تقوم على مبدأ المنحنيات، ولا توجد فيه أي زاوية حادّة، وهذا مبدأ الحرف العربي وحروف الشرق عموما، وبالنسبة لي الحرف في حد ذاته يحمل أسرار ثقافة بأكملها، أما اكتشافها فلا يتحقق إلا لمتأمل حقيقي لتلك الطاقات الخفية للأشياء. تشبه باكو مدن القصص القديمة التي قرأتها، فبمجرّد أن وطأت قدماي أرضها حتى شعرت بأنني دخلت قصة من قصص الأطفال المفعمة بالرومانسية التي تملأ رأسي منذ بواكير عمري. ألقت ندف الثلج بسحرها على الأمكنة، وخيم الهدوء باكرا على المدينة، وبدا لي أن كل شيء أمامي يغذي الأغاني والقصائد والحكايات…

كل شيء في باكو يحمل لمسة العراقة والنضج، هندسة المباني والشوارع والأسواق، وأعمدة الكهرباء بأنوارها الساحرة، والأشجار والريح التي لا تتوقف عن سرد قصص الماضي. في باكو يستحيل أن لا نتذكر تفاصيل حكاية «علي ونينو»، فحتى العقائد تتعانق أمامنا في خشوع، ولعلّي لشدّة تأثري بهذه القصّة، وبتفاصيلها التي قرأتها مرة وشاهدتها مرة في فيلم، تراءى لي أن المدينة فضاء الممكنات كلها، خاصة ممكنات الحب. بلغتنا البسيطة رددت أكثر من مرة أن هذه المدينة «قاتلة» وهي تقتلع قلبي من مكانه، وتعبث به كما تشاء، حتى أنني في أكثر لحظاتي سعادة خُيِّل إليّ أنني أحلم، فما عشته كان أقرب للوهم منه إلى الحقيقة، أو أنّه كان أجمل من أن يصدّق.

لقد سافرت كثيرا، وتأثرت بمدن وأمكنة، وصادف أن قمت باكتشافاتي الخاصة لكل مكان أزوره، على خلفية قراءاتي، كوني لا أثق تماما في المحجّات السياحية التي يقصدها الجميع، لكنني هذه المرة وقعت أسيرة مكان انبثق من تراكمات تاريخية عظيمة، بحيث أمكنني سماع صهيل الأحصنة فيها، متقاطعا مع موسيقى أذربيجان الحزينة، أمكنني رؤية أنقاض الحروب، وما تصاعد منها من أبخرة وأدخنة… وكانت بهجتي أكبر من أي شعور آخر بسكينة السلام التي حلّت عليها لتصبح مدينة مسالمة، قد تصلح في هذا الزمن العاثر أن تكون مقصدا للعشاق وللباحثين عن معجزة الحب.

كيف تنهض مدن وتموت أخرى؟

هذا هو السؤال، الذي إن أوجدنا له الكثير من الأجوبة، فإنّما للهروب من مواجهة ذواتنا بالحقيقة الوحيدة التي تلخص قوة الحب والشغف، في جعل مدن تنهض من تحت الحطام، حتى تصبح مدهشة مثل بلورة الساحر، ففي الحقيقة كل ما نُحدِثه من خراب هو انعكاس لخرابنا الداخلي، حين تمتد شروخنا الداخلية نحو الخارج الذي لا يمكن أن يرمم بالإسمنت والمواد اللاصقة فيغطي كل ما حولنا بدون هوادة.

ثمة شيء مهم عدت به من باكو، في اللحظة التي خرجت فيها من متحف الكتب الصغيرة، وهو أن أحلامنا هي كل ما نملك حين نأتي للدنيا، فمن صدّق حلمه ومضى في أثره تحقق، ومن راوده الشك تجاه أحلامه فقد بوصلة نجاحه. حملت كتابي الصغير، ووضعته في حقيبتي، وفي طريق العودة، وأنا أحلّق فوق الغيوم، قرأت محتوياته الصغيرة، وتوقفت طويلا عند إحدى مقولات الثائر جيفارا: «كل عمل عظيم يتطلب شغفا، أما بالنسبة للثورة فيتطلب شغفا مع جرأة بجرعات عالية».

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

 



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي