عودة الحضارة للشرق ممكنة
2021-02-04
أحمد شحيمط
أحمد شحيمط

الحضارة عصارة الإنتاج المادي والروحي، نتاج للتفكير والتدبير والتخطيط الحضاري في الصمود والبقاء، في الاستمرارية والتراكم في التجارب والمعارف، عملية انصهار الأمم في حضارات واحدة، يطبعها التنوع والاختلاف، فالمؤرخ البريطاني أرنولد توينبي في دراسته للتاريخ والحضارات، وفي نظريته عن التحدي والاستجابة قام بتصنيف عدد من الحضارات في عملية التأريخ للنشوء والتقهقر، ولم يبق منها إلا القليل ، تصارع الوجود، وتثبت جدارتها بفعل ما تمتلك الحضارات من رواسب وأسس، منطق الحضارات قائم كما قال مالك بن نبي على الفكرة الدينية، تسمو هذه الفكرة نحو التجلي والنمو في الفرد والجماعة، وعندما تخمد الفكرة وتهيمن الغريزة على الروح تتراجع الحضارات، وتؤدي هذه الأسباب وغيرها لأفول الحضارات واندثارها حتى تفسح المجال لأخرى، وهكذا لا يعرف العالم استقرارا وسكونا بل الصراع من أجل الوجود الذي يطبع التاريخ، وانحلال الحضارات واختفائها يعود للعوامل الداخلية، والتشتت الذي يصيب وحدة الجماعة وتماسكها، وبعد ذلك تأتي العوامل الخارجية من حروب وصراعات تنكسر فيها أو تتراجع هيبتها، فتولد كيانات مضادة، تسدد ضربات قاسمة للمعتدي، وبالتالي تتراجع الحضارات بفعل الصدمات العنيفة التي تتعرض لها .
كما للحضارة دور وتسلسل، شروق وغروب ، نشأة وتقهقر ، دورة الحضارة تعني عملية التتالي والتتابع في انتقال الحضارات في إطار دورة كاملة، مثل ما يقع للكواكب في دورانها حول الشمس، إذا أشرقت الشمس في أمة معينة غابت عن امة أخرى، الحضارات تبدأ وتنمو ثم تتراجع وتتقهقر بناء على منطق خلدوني، تشبه الحضارة مسار الكائن الحي، تتقدم في الإنتاج الروحي والمادي معا، وتنتهي نحو الركود والتراجع ، فالحضارة الغربية مصيرها الزوال والتلاشي، والنظام الرأسمالي عندما يتحول من نظام معمم ومهيمن على الشعوب تحت دافع الاستغلال والسيطرة على الموارد الطبيعية، وجشع الشركات العملاقة فإن القوة عندما تبقى المعيار الوحيد في الهيمنة تجابه بالقوى الرافضة، حتى ولو كانت الأنظمة مغلفة بالقوة الناعمة وخطاب الحرية .
تعميم الأنماط السائدة في الثقافة والسياسة، وما يجعل الحضارات تنطفئ، هناك عوامل داخلية وفتور الفكرة الروحية، والتراجع في الهمم، وتشتت الجماعة المتراصة ، أو انطلاق الغرائز من عقالها، وتحويل الفكر عن مساره وانحراف القوة المعنوية عن أهدافها، خصوصا عندما تتغير الأفكار، ويتعمق الشرخ في المجتمعات، وتصاب الحضارة بالشيخوخة من خلال روح الاندفاع وتجسيد الفكرة في الواقع بالقوة .
العالم كما يصفه هيجل، ينتهي ويكتمل بالفكرة التي تتلون بألوان الدين، وتخرج الأفكار من الذات نحو الموضوعات الخارجية، وتنتقل الروح حاملة أسمى القيم الأخلاقية والفكرية، تعبر في حركة مستمرة من النمو والتطور نحو الاكتمال والتعين في الواقع، هيجل والقراءة الخطية للتاريخ الذي يبدأ من الشرق ويمر باليونان والرومان، وينتهي إلى الأمم الغربية وبالخصوص الشعوب الجرمانية ، وتنتقل الفكرة نحو أرض الأحلام ، أمريكا القوة الرأسمالية التي لا يمكن فصلها عن جوهر الحضارة الغربية ، لكن الشرق العجائبي والغرائبي الذي ينفلت من التحليل والتصنيف أحيانا، والذي خصص له الغرب الكثير من المراكز العلمية للدراسة، لا يمكنه أن يواكب حركة التطور، والسبب يعود إلى غياب الحرية والوعي بالذاتي، وهيمنة النمط الثقافي التقليدي السائد في الأسرة والعائلة والذي يمتد نحو السياسية ، الشرق كما وصفه هيجل والمستشرقون لا يحمل في ذاته منابع التقدم والتطور، وإن كانت الأسباب مختصرة في التقاليد وغياب الحرية وطغيان الحكم الفردي والاستبداد السياسي، فإن في القراءة الخطية نوع من الحتمية والحكم النهائي الذي يعني سيادة النزعة الذاتية وطغيان النزعة المركزية الغربية، وصياغة معطيات بناء على الرحلات والأسفار.

وما كتب عن الشرق بلغة الغرب، فالشرق غرب معكوس في ثقافته، يجمع بين البعد الروحي والمادي ، حضارات شرقية ضاربة جذورها في التاريخ ، وتاريخ الكيانات يعني أن الحضارة أشرقت من الشرق وبقيت مدة طويلة ، وفي دورة الحضارة، كان الانتقال من الصين والهند وبلاد فارس، وحضارات بلاد الرافدين، والحضارة الفرعونية، وانتقالها من جديد نحو اليونان والعبور نحو الرومان، ثم الأمم الغربية ، سنن الكون تقتضي التغير والتبدل في أحوال المجتمعات والجماعات، لا ينتهي التاريخ ولا يكتمل، لأنه سيرورة الحياة في تدفقها، وتنوع أنماط الثقافات يفرض على العالم الصمود في وجه الذوبان، ويقتضي من الحضارات أن تكون مبنية على الفكرة الدينية، وما هو روحي، كما تتقوى الحضارات بإنتاج ما هو مفيد ونافع للناس، كما يحافظ أهلها على صلابة الحكم واستمرارية الجماعة، ما يقوي الأمم وفق يشير لذلك أغلب المؤرخين والفلاسفة، التفاف الناس على الفكرة الدينية، والثبات على القيم والقواعد التي تضمن السلامة والاستمرارية، الصين في حكمة حكمائها اعتبروا الخروج عن حدودها يمكن أن يعجل بنهايتها، فكانت الأمة الصينية ثابتة في حدودها، لا يغريها الغزو والتوسع، بل أنها تعرضت لأكثر أشكال الغزو من الأمم القريبة والبعيدة .

عودة الحضارة للشرق أمر حتمي في الريادة والزعامة للعالم أو تنمو أطراف وأمم قوية تعيد النظر في سياسة الهيمنة والتوازن بين الغرب والشرق، نعتقد ذلك من منطلق التاريخ وفكرة الدورة الحضارية الكاملة، وما نأمله في النظرة التاريخية الخلدونية الخاصة بالنشوء والتطور والتراجع للأمم، ولا نؤمن بصراع الحضارات ، عودة الشرق من جديد في صعود القوى الكبرى من قبيل الصين والهند، تنامي أطراف صاعدة تعيد صياغة القوانين الدولية، وتعمل على خلق توازن سياسي في عالم متعدد الأقطاب، أو يمكنها قيادة العالم نحو عولمة إنسانية وأخلاقية ، عولمة في جانبها الاقتصادي أكثر من جانبها الإيديولوجي ، سؤال هل تنهار أوروبا وتتراجع ؟ وهل هناك تباشير نهاية القوة الأمريكية؟
يجيب الفيلسوف "ميشال أونفري" على ذلك بناء على نتائج السياسة الليبرالية غير العادلة، ونتيجة مخلفات فيروس كورونا ، هذا الفيروس كشف عن حقيقة العلاقات الأوروبية، وهشاشة الرعاية الصحية، وتنصل أمريكا والقوى الأخرى من المساعدة، وكشفت الوجه الآخر للقوة الصينية الصاعدة في التعامل الحكيم مع مواجهة الفيروس، وتصدير الأقنعة ومساندة الدول الأوربية وخصوصا ايطاليا، إضافة للغليان الشعبي الذي بدأت تعرفه بعض الأمم الغربية في إحساس الشعوب بتراجع الحريات، والزيادة في فرض الضرائب والقوانين غير المنصفة، وخروج الناس للمطالبة التي تتجه أحيانا للمواجهات الشاملة كما هو الشأن مع السترات الصفراء، انتشار الشعبوية وعودة المكبوت التاريخي من خلال الحركات الراديكالية المتطرفة، وزرع الشقاق والصراع في الشرق الأوسط، سفينة الغرب تتهاوى وتنحرف نحو الأسفل، أشبه بغرق التايتنيك.
والحضارة اليهودية المسيحية بدأت بوادرها في التراجع، يمكن أن يؤدي المستقبل إلى تفكيك الوحدة الأوربية، العالم يعج بالفقراء وكثرة الأغنياء ، الاقتصادي وفلسفة الربح والمنفعة الأحادية، ومنطق التسليع، وإبرام الصفقات تهيمن على العمل السياسي، ولا تفكير سوى الزيادة في الضرائب، وفي أرباح الأغنياء المسيطرون على الاقتصاد، ناهيك عن تحالف السياسي والاقتصادي ، المشكلة في أوروبا وفي حضارتها التي شاخت وهرمت، وتحتاج لخطاب جديد يعيد الاعتبار للمبادئ التي بنيت عليها الحضارة الغربية، نهاية المجتمعات كما يشير لذلك الفيلسوف "ألان تورين" يعني نهاية الحداثة والقيم العقلانية، والدولة الحديثة بأدبياتها، وكل ما في الواقع لا يخدم مصلحة الطبقات الاجتماعية سوى جعل الدولة في خدمة الأقوياء، وربما يشهد العالم الغربي تحولات جذرية، من الرأسمالية نحو الاشتراكية .
ملامح النهاية يعني تحقق الفكر الماركسي في تحليل أزمة الرأسمالية والحضارة الغربية ، والنيوليبرالية طوعت الإنسان بمواصفات السوق، هيمن المال وشعور الإنسان بالاغتراب والاستلاب، الإعلام في خدمة الطبقة المسيطرة، تصاعد الشعبوية، وبداية انهيار القيم الصلبة ، إشعال الحروب والصراعات في كل مكان، التهديد النووي والحرب الشاملة ، انتشار الاسلاموفوبيا ، أصيبت الحضارة بشلل فكري وروحي، فأصبحت غير قادرة على حل المشكلات والأزمات، بل إنها تمسك بخيوطها، وتعيد إنتاجها وتوزيعها والعمل على إطالتها، حتى الإبقاء على الهيمنة ، وبالتالي يعتقد المتتبعون أن الحضارة الغربية في طور النهاية، وأنها مطالبة بتعديل ذاتها والعودة للأصول التي انبثقت منها، أو تتحول هذه الحضارة تدريجيا من النظام الرأسمالي نحو النظام الاشتراكي . فالدورة الحضارية مسألة حتمية في نمو الكيانات الكبرى في الشرق وتنامي الأطراف كذلك، والعالم بدأ يتغير ويتجه نحو رسم عولمة متنوعة الثقافات، تلتقي في المشترك الإنساني، وتأخذ بمنطق الربح للجميع أما القوى النامية في الشرق كالصين والهند، منها بدأت الحضارة واليها تعود من جديدة، في العودة نهاية للقراءة الخطية الاتصالية التي تعتبر نهاية التاريخ في الفكر الليبرالي والأمم الغربية، وصراع الحضارات الذي يبشر بميلاد التهديد للقيم الغربية مجرد وهم وفرضية لا أساس لها من الصحة، الصراع هنا لن يكون إلا صراعا فكريا واقتصاديا ونوع من التنافس والتدافع ليس إلا . فلا مفر من الالتقاء في المثاقفة بين الشرق والغرب وإعادة النظر في النظام العالمي 

 

*كاتب من المغرب
*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع

 



مقالات أخرى للكاتب

  • الحرب وحق المقاومة
  • يقظة أفريقيا
  • مونديال قطر 2022





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي