أنس الحجي

نظرة سريعة إلى كل سياسات الطاقة التي تبنتها الدول المتقدمة نجد أن فيها خطوطاً مشتركة، وكأن كل من كتبها تخرّج من الجامعة نفسها، أو عمل في المؤسسة نفسها. ولا غرابة في ذلك، فكل هذه الدول أعضاء في وكالة الطاقة الدولية، والتي تسهم بطرق مباشرة أو غير مباشرة في رسم سياسات الطاقة في هذه الدول.

من أهم أعمدة سياسات الطاقة في كل هذه الدول تنويع مصادر واردات الطاقة وتنويع الطاقة نفسها! لكن الواقع أن هاتين الفكرتين لا علاقة لهما بوكالة الطاقة الدولية أو كون هناك تآمر أو تبادل للمعلومات بين هذه الدول. هاتان الفكرتان يصل إليهما أي عاقل يفكر بمستقبل بلده وأمنه.

تنويع مصادر الطاقة مهم اقتصادياً وسياسياً، ليس لأنه يحقق نوعاً من الاستقرار فحسب، بل يمكّن القطاع الخاص من إيجاد الفترة الزمنية الكافية لتحقيق الاستخدام الأمثل للموارد وتحقيق الكفاءة وتخفيض التكاليف.

سياسياً، يحقق تنويع مصادر الطاقة والواردات وفورات كبيرة، ويخفف من حدة التقلبات أو التغيرات السياسية. تخفيض آثار أزمات الطاقة أو إنهاؤها يتطلبان وقتاً وأموالاً كثيرة تنفق في مجالات أفضل لزيادة رفاهية شعوب الدول، وتخفض من الغضب الشعبي ومن تقلبات المناصب الحكومية.

الحقيقة أن منافع تنويع مصادر الطاقة ووارداتها عديدة وتحتاج إلى أكثر من مقال لشرحها، إلا أن الفكرة واضحة: التنوع مفيد للقادة وللشعب، للشركات والأفراد.

المشكلة أن هناك وباءً انتشر في بعض الدول، والحديث هنا، ليس عن فيروس كورونا. الحديث عن وباء "الاقتناع بكهربة كل شيء!".

كهربة كل شيء في حياتنا، بما في ذلك قطاع المواصلات، يعني مخالفة أبسط قواعد سياسات أمن الطاقة: تنويع مصادر الطاقة. فإذا توقفت الكهرباء لسبب ما، توقف كل شيء معها. حتى الأفراد يدركون ذلك، إذ أحد مزايا كثير من البيوت عند البيع في الولايات المتحدة، اعتمادها على الكهرباء والغاز، ويتحاشى الناس شراء منزل يعمل بالكهرباء فقط. ويصرّ كثيرون على أن يعمل الفرن على الغاز، ليس لتفضيلهم الطهي فقط، بل ليستطيعوا تقديم وجبات ساخنة إذا انقطعت الكهرباء. وهنا لا بد من التذكير أن كاليفورنيا، خامس أكبر اقتصاد في العالم لو كانت دولة مستقلة، والولاية التي تحتوي على وادي السليكون، عانت من انقطاع الكهرباء في الصيف الماضي وكأنها من دول العالم الثالث. ومنذ أيام اكتشفت وكالة التحقيقات الفيدرالية الأميركية (إف بي آي) شبكة من العنصريين البيض كانت تخطط لتفجير محطات الكهرباء في شمال شرقي الولايات المتحدة.

أمن الطاقة لا يتجزأ من الأمن القومي لأي دولة، بما فيها المنتجة للنفط. يقوم على دعائم عدة، لا يتحقق من دونها. فالاعتماد الكبير على قطاع الكهرباء يعني التضحية بالدعائم الأخرى، وبالتالي يعرض أمن الطاقة للخطر.

ما يتجاهله أنصار البيئة والسياسيون التابعون لهم هو أن الاعتماد الكامل أو شبه الكامل على الكهرباء في الحياة اليومية، يعني أن تصبح عصب الحياة، ومن ثم فإن محطاتها تكون هدفاً رئيساً للإرهابيين، وللهجمات الإلكترونية (السيبرانية)، وللدمار أثناء الحروب، التي يقول البعض إنه نادر الحدوث. لكن الهجمات الإلكترونية تحصل بشكل مستمر حول العالم، لأسباب مختلفة، وتتضمن محطات نووية.

لا شك في هجمات سيبرانية على محطات كهرباء أشهر من أخرى، إلا أن أهميتها أمنياً تعني أن هجمات كثيرة لا نعرف عنها شيئاً. ما نعرفه حصل في إسرائيل وأوروبا وروسيا وكاليفورنيا وأوكرانيا وكوريا الجنوبية. إلا أن هناك عشرات أخرى فشلت، بعضها تم الإعلان عنها.

في الشهر الماضي، أعلنت إيران مسؤوليتها عن انقطاع الكهرباء في إسرائيل بعد نجاح هجماتها السيبرانية على بعض المحطات. تل أبيب اعترفت بانقطاع الكهرباء، لكنها أنكرت الهجوم السيبراني الإيراني. مراكز البحوث، بما في ذلك الأميركية، تعاملت مع الأمر على أنه حقيقة، على الرغم من النفي الإسرائيلي.

منذ شهرين تعرضت شركة كهرباء باكستانية لديها قرابة 2.5 مليون عميل، لهجوم سيبراني، وطالب المهاجمون بفدية قدرها أربعة ملايين دولار تدفع على شكل "بتكوين". لم تنقطع الكهرباء لكنهم منعوا العملاء من فتح حساباتهم على موقع الشركة.

في أبريل (نيسان) الماضي، تعرض نظام "سكادا" لطاقة الرياح في أذربيجان إلى هجوم سيبراني أيضاً.

في مارس (آذار) الماضي هوجمت مجموعة توزيع كهرباء أوروبية (إنتسو-إي) تتضمن 42 نظاماً مترابطاً في 35 دولة. ورفضت الإدارة إعطاء أي معلومات عما حصل.

في يونيو (حزيران) 2019، ذكرت صحيفة "النيويورك تايمز" في تقرير لها، أن خبراء في الجيش الأميركي هاجموا شبكات الكهرباء الروسية إلكترونياً بهدف تخريبها، "انتقاماً للتدخل الروسي الإلكتروني في انتخابات 2018". وعلى الرغم من نفي الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترمب للعملية، إلا أن القانون الذي تم تبنيه في عام 2018 يسمح للجيش الأميركي بشن هجمات إلكترونية سرية على الدول العدوة متى يراها مناسبة.

وفي ديسمبر (كانون الأول) 2017 تم إغلاق محطة كهرباء في كاليفورنيا بعد هجوم سيبراني من خلال برنامج صممته شركة "شنايدر إلكتريك".

وفي ديسمبر 2016 توقفت الكهرباء في جزء من أوكرانيا بعد نجاح هجمة سيبرانية في وقف نظام الكهرباء هناك. ولم يعرف المصدر، وإن كان الجميع يشك في الروس. الأمر نفسه حصل في عام سابق وانقطعت الكهرباء.

وفي عام 2014 سيطر المهاجمون على أنظمة شركة طاقة في كوريا الجنوبية تنتج الكهرباء من محطتين، إحداهما نووية، والأخرى كهرومائية. وتم لوم كوريا الشمالية حينها.

ونظراً لأهمية الموضوع، شكلت وزارة الطاقة الأميركية قسماً مستقلاً يحتوي على مجموعة من الخبراء لحماية منشآت الطاقة الأميركية.

ومنذ أسبوعين، أعلنت وزارة الطاقة الأميركية عن هجوم سيبراني على أقسامها المتعلقة بمصدر متجدد لتوليد الكهرباء، ويبدو أن الأثر اقتصر على المكاتب، وتم ضبط الأمر قبل وصوله إلى البنية التحتية أو منشآت أخرى. ونظراً لحساسية الموضوع لم يتم الإفصاح عن التفاصيل.

تاريخياً، نجحت هجمات سيبرانية على مختبرات محطات نووية، شملت تخريب برنامج سوريا النووي عام 2006، وإيران في 2010، والولايات المتحدة وفرنسا سنة 2011، اليابان 2014 و2015، وألمانيا واليابان في 2016.

كما كان العديد من الهجمات من الموظفين أنفسهم في بعض المحطات لأسباب انتقامية أو بسبب الإهمال، لا مجال لذكرها هنا.

حصول كارثة بسبب الزيادة المستمرة في الاعتماد على قطاع الكهرباء مسألة وقت فحسب... وكهربة قطاع المواصلات تعني أن الكارثة أكبر مما يتوقع الناس، ولنا في القصص المريعة لتوقف القطارات في بعض المطارات عبرة. انقطاع الكهرباء لأيام عدة يعني توقف حركة السير، حتى لو كان التحول إلى السيارات الكهربائية جزئياً، لأن عدداً منها سيقف في منتصف الطرق، ويغلقها، فيمنع حتى العاملة بالديزل والبنزين من الحركة. كما أن توقف القطارات الكهربائية يعني منع الأخرى من الحركة. توقف حركة نقل البضائع سيشل الاقتصاد في المنطقة، كما سيوقف سيارات الأسعاف، ويؤخر توزيع الأدوية.

أنصار السيارات الكهربائية يقولون إن الكارثة لن تحصل لأن توليد الطاقة في المستقبل سيكون محلياً من الطاقة الشمسية والرياح. هذا الكلام صحيح جزئياً، لأنه يتجاهل أن ما يتكلمون عنه لن يحصل في المدن الكبيرة ذات العمارات العالية. وما يتكلمون عنه في ضواحي المدن والأرياف مرهون بتوافر تكنولوجيا متقدمة للبطاريات غير متوافرة حالياً بشكل تجاري.

عندما اختارت البشرية النفط كمصدر للوقود في السيارات، لم يكن ذلك نتيجة حظ أو مؤامرة، إنما لصفات خاصة لمنتج ليس له بديل. إذا كانت هناك مشاكل بيئية في استخدام البنزين والديزل، فيجب تركيز الجهد والمال في بحوث تخفيض أو إنهاء الانبعاثات منها، وليس استخدام بديل ينقلنا من كارثة إلى أخرى من نوع آخر.

 تنويع مصادر الطاقة مفيد للبشرية، وتركيزها في الكهرباء مضر بها، وتحويل كل نظم المواصلات الأرضية إلى كهربائية كارثة محققة. أمن الطاقة يتطلب تعدد مصادر الوقود، ويتضمن السيارات الكهربائية، لكن بنسبة معقولة تضمن تحقيق أمن الطاقة، بما في ذلك الجانب البيئي.

خلاصة القول، إن وجود السيارات الكربهائية كجزء من نظام المواصلات يتناسب مع فكرة تعزيز أمن الطاقة، إلى حدّ معين. وإذا زادت نسبتها فلن يعظّم أمنها. أما زيادتها بشكل كبير فتهديد فظيع.

*الاندبندنت عربية

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع