فشل الرهان على مؤتمر دولي للسلام
2020-12-06
محمد أبو الفضل
محمد أبو الفضل

عادت فكرة عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط تراود كلا من مصر والأردن والسلطة الفلسطينية، باعتبارها وسيلة يمكن أن تتولى تفكيك العقد التي وضعتها صفقة القرن التي بشر بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونفذت إسرائيل جوانب منها دون التزام بمعايير الصفقة النظرية، ولم تتجاوب معها الحركات الفلسطينية.

ظل المؤتمر الدولي بوتقة تنصهر فيها أمنيات قوى مختلفة لأجل إيجاد مخرج سياسي للقضية الفلسطينية منذ انعقاد مؤتمر مدريد قبل حوالي ثلاثة عقود، وكلما تعثرت المفاوضات استدعى أحد الأطراف الفكرة أو لوح بها دون أن تشهد تجاوبا كما شهدته في المرة الأولى، في مدريد، وبقيت حلما بعيد المنال، لكنها مطروحة على الساحة.

تعتقد الجهات التي تريد تجديد دماء الفكرة حاليا أن نجاح المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الأميركية يساعد على فتح طاقة نور لمؤتمر بقي بعيد المنال، نادت به روسيا وفرنسا ودول عربية في أوقات كانت تتطلب الدعوة إليه، وفقا لمصالح كل دولة، ولأنه قد يكون الوسيلة الناعمة لتسوية القضية الفلسطينية.

وأراد هؤلاء نزع احتكار واشنطن، ووقف انتهاكات إسرائيل، والبحث عن مسار جاد لتسوية قضية كانت روافدها سببا في مشكلات كبيرة، استغلها كثيرون مطية لتحقيق أغراض سياسية، ووقتها بدا المؤتمر صيغة جذابة قادرة على تحريك الجمود في المنطقة، والإيحاء بأن المجتمع الدولي معني بالسلام.

ومع التحولات المتلاحقة التي جرت في الشرق الأوسط، توارى الكلام عن المؤتمر ولم يعد مطروحا على طاولة أي من القوى الرئيسية، فقد نشبت صراعات موازية، أرخت بظلالها على القضية الفلسطينية ومركزيتها في المنطقة.

وباتت الإشارة إليه ضربا من العبث في ظل هيمنة الانقسامات بين الفصائل على المشهد الداخلي، وغلبة حديث المصالحة الممتد على غيره من الأحاديث السياسية المتعلقة بمصير القضية الأم التي تاهت في خضم تجاذبات حركية متباينة.

يحتاج انعقاد مؤتمر إلى إرادة دولية، غائبة حتى الآن، وسط انشغالات بقضايا تمثل أولوية لدى الدول التي تملك مفاتيح الحل والعقد، كما أن الولايات المتحدة صاحبة اليد الطولى في القضية تراجع انخراطها على الساحتين الإقليمية والدولية، وعندما تتدخل يبدو تدخلها ملحا لأجل تنفيذ خطة معينة لصالح إسرائيل أو ردع قوى مناهضة.

ربما يكون الرهان منطقيا على إدارة بايدن بحكم ميله نحو العمل بطريقة تقليدية، لكن الرجل سوف يدخل البيت الأبيض في العشرين من يناير المقبل وهو محمل بهموم داخلية انحرفت عن مساراتها، ورغبة في ترميم ما أفسده الرئيس ترامب في جسم السياسة الخارجية، وقد تكون القضية الفلسطينية جزءا يسيرا منها.

تُوجد أزمات حادة بجوار هذه القضية، في سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا، وكلها بحاجة إلى مبادرات أميركية واضحة وعاجلة، تقلل من فرص الانخراط في مؤتمر خاص بحل الإشكاليات المتراكمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتي أصبحت هامشية، مقارنة بما يجري من صراعات محتدمة في فضاءات مجاورة.

أجهضت التوترات الكثيفة فكرة أن حل القضية الفلسطينية يقود إلى حل قضايا أخرى مستعصية، وأنهت الربط المستمر بين الجانبين، ما يؤثر على حظوظ المؤتمر الدولي كمدخل للتسوية، ويقلل من الدفاع عن الفكرة وبريقها المعتاد.

وأدت الصراعات التي تفجرت في أكثر من دولة إلى إيجاد بيئة خصبة للتدخلات الخارجية بأشكال وألوان متعددة، ونشوب خلافات حول النفوذ، وهو ما قاد إلى تصاعد حدة المناورات، وفشل المحاولات التي ذهبت إلى تبني تسويات للنزاعات.

إذا كانت التوترات الحديثة لم تستطع قوى كبرى وصغرى التفاهم حول آليات تسويتها، فما بالنا بالقضية الفلسطينية المزمنة، الأمر الذي أتاح إلغاء المؤتمر الجامع بشأنها، أو إزاحته من أجندة بعض الدول، وتقطيع أوصال التسوية.

من الصعوبة القبول بمؤتمر خاص بالقضية الفلسطينية والأجندة الدولية غائمة، ولم تعد الولايات المتحدة بمفردها صاحبة الأمر والنهي، فلدى كل من روسيا والصين تطلعات للمشاركة في هذا النوع من المؤتمرات، بعد أن تمكنتا من صياغة مجموعة من التصورات تتعلق بأدوارها في منطقة الشرق الأوسط مستقبلا، بمعنى لم تعد القضية الفلسطينية في القلب منه، ولم تعد واشنطن وحدها صاحبة قرار.

وعلاوة على تصدر الأزمة مع إيران جدول أعمال الكثير من القوى الفاعلة في المنطقة، انتظارا لما سيقوم به ترامب من حشد خشن ضدها في أواخر أيامه، أو انتظارا لمعرفة الطريق الذي يسلكه بايدن معها، وفي الحالتين أضحت ذات أولوية قصوى، تفرض الأوضاع الراهنة في المنطقة، تعديل زاوية الرؤية للقضية الفلسطينية، فعقد مؤتمر دولي لن يكون نهاية المطاف، وليس من المنطقي أن يصبح هدفا في حد ذاته، أو سعيا وراء فرملة توجهات بعض الدول العربية نحو التطبيع مع إسرائيل.

مهما تراجع دور واشنطن في المنطقة سوف يبقى اهتمامها منصبا على إسرائيل، ولن يعقد مؤتمر بدون الحصول على موافقة الإدارة الأميركية، أيا كان ساكن البيت الأبيض، جمهوريا أم ديمقراطيا، فهي الراعي الأول للتطبيع مع إسرائيل، التي تمثل الطرف الآخر في المعادلة، حيث تحتل الأرض الفلسطينية المطلوب التفاوض عليها.

يدفع الرئيس الفلسطيني محمود عباس نحو المؤتمر كمنقذ، وقد يجري جولات الفترة المقبلة لتهيئة المجال أمامه، بعيدا عما يجنيه منه بصورة عملية، لأنه يرى فيه سبيلا للتخلص من ورطة صفقة القرن، وعدم زيادة حمى التطبيع ووقف ما يترتب عنها من تصرفات، ويمنحه مساحة للتملص من التزاماته بشأن إجراء انتخابات عامة قريبا.

وتجد فيه مصر والأردن أداة للعودة إلى الصيغة النمطية لخطاب التسوية السياسية المعروف، خوفا على مكانتهما التاريخية وأهمية القضية الفلسطينية لأمنهما القومي، والذي يمكن أن يهتز مع التطورات المتسارعة في ملف التطبيع، ويعزز التلويح بالمؤتمر أنهما يملكان بعض الأوراق التي تقلل من فرص تقويض دورهما.

يوحي طرح عقد مؤتمر دولي في أجواء لا تزال تخيم عليها ملابسات كورونا، بأن أصحابه يريدون تحريك المياه الراكدة أكثر من التئامه فعليا، فالقوى المهتمة به أو يمكن أن تهتم به أولويتها محصورة في التعافي ومبارحة خندق كورونا في أقرب وقت ممكن، ولذلك فالمغزى وراء التفكير في المؤتمر أن الجهات التي تريد انعقاده تعلن رفضها لما يدور من ترتيبات في المنطقة على إثر التطبيع، وإذا وجدت وسيلة أخرى لن تتردد في تبنيها. وهو ما يجعل الرهان على مؤتمر حقيقي للسلام فاشلا.

 

  • كاتب مصري

       "العرب"

*المقال يعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا يعبر بالضرورة عن رأي الموقع



مقالات أخرى للكاتب

  • المؤامرة على مصر مرة أخرى
  • التنمية قبل السياسة في مصر
  • إخفاقات تقاسم السلطة العربية.. عرض مستمر





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي