العنف جمع مؤنث
2019-11-18
 بروين حبيب
بروين حبيب

غير مفهوم تماما موقف المثقفين العرب من الخليج إلى المحيط تجاه العنف ضد النّساء، ففيما تهزنا جريمة الزوج الذي فقأ عيني زوجته في الأردن، ينشغل كتابنا بالكتابة عن الفضاءات المكانية أو الزمانية في النصوص الروائية، أو عن مستقبل الماركسية في العالم العربي، أو عن الثورات العربية من وجهة نظر سياسية محضة، وبخطاب غير مؤثّر إلى يومنا هذا في جحافل شعوب تتحرّك بدون بوصلة.

لا نسجل أي موقف واضح لكاتب تجاه ما تتعرّض له المرأة من تعنيف وتحرّش، مع ملاحظة أن المرأة حاضرة في حياة كل واحد منهم، سرّا وعلانية، لإبقاء مدفأة الكتابة مشتعلة.

هذا الجحود اللامفهوم، وهذا النكران لإنسانية المرأة، لا نجد له تبريرا، خاصة أن الموضوع برمته أصبح محصورا تحت باب النزاعات الزوجية الخاصة، التي تبث فيها المحاكم بعيدا عن الرأي العام، كما صنفت أكاديميا تحت باب الاختلافات الجندرية، وما ترتب عنها من تصنيف لقضايا المرأة بالقضايا النسوية، كمحاولة لتقزيم أوجاعهن ومصائبهن، بل إن أقسى ما وصل إليه البعض هو وصف كل حركة مناهضة للعنف ضد المرأة بأنها، حركة ممنهجة ضمن أجندة غربية استعمارية.

يبرر العنف ضد المرأة في مجتمعاتنا بأشكال متعدة تبلغ تهاون السلطة لمعاقبة المعنّف، وإصرار الحجج الدينية على شرعية هذا العنف، خاصة من الزوج تجاه زوجته.

حتى الثورات العربية ـ التي أضعها دائما بين قوسين ـ كشفت مدى استغلال صوت المرأة لتحقيق مآرب سياسية بعيدة الهدف تماما عن تغيير واقع المرأة نحو الأحسن، سجلت تحرشات يندى لها الجبين خلال المظاهرات المصرية، وغض الإعلام البصر تماما عن سبب إحراق البوعزيزي «رمز الثورة التونسية» لنفسه، وبأنه رفض صريح لأي سلطة نسائية في مجتمع تبرر أغلبيته تحرّش الذكور بالإناث، حتى إن كانت الأنثى «شرطية» ببذلتها الرّسمية، خلال وقت دوامها.

يختل ميزان قراءتنا للأحداث الثورية التي عمّت العالم العربي، كلما أمعنّا النّظر في كل ما حدث، فنحن لسنا أمام ثورة لتغيير الأنظمة السياسية، بل أمام ثورة لإنهاء عصر الأنظمة الذكورية، التي تمادت في ظلم شعوبها، وأمام حالة فشل ذريع للرجل العربي، لإدارة أموره ونصفه الآخر منكسر ومذلول، ومنكّل به.

ولنقل إن العدالة تبدأ أولا بنظرة عادلة نحو النساء، فما معنى أن يفقأ رجل عيني أم أولاده، ويكتفي القضاء بمعاقبته بثلاث سنوات سجنا؟

بدون أدنى تحرك مدني واضح، وبدون أي استنكار ولو ورقيا من طرف النخبة؟ لماذا يكتفي كتابنا وشعراؤنا بالتغزل بجسد الأنثى بدون أدنى جهد لحمايته؟ ألا تستحق هذه الأنثى حياة كريمة قبل التودد إليها والحصول على جسدها وعواطفها وخدماتها، التي في الغالب تقدمها المرأة بدون مقابل لمن تحب؟

نقف حائرين أمام الوحشية البشرية، التي يمارسها الرجل تجاه أنثاه، بحيث يتساوى المتعلم وغير المتعلم، العاشق والزوج والأب والأخ، تنبجس الحلول أمامه دائما لإنقاذ شرفه، أو عنفوانه، أو صورته أمام الغير، بتعنيف أو تصفية امرأته، هكذا تبدو الحلول مخالفة لأي منطق، لكن مع هذا تبارك في صمت من كل من يدعي المنطق.

في رواية قديمة لإيميل زولا تحمل هذا العنوان، الذي قفز إلى رأسي بالمناسبة، لا نجد مراجعة تلامس الحقيقة عبر عشرات من القراءات لروايته «الوحشية البشرية» لأنّها تحرص جميعها على الحديث بشكل عام عن قصة، درج نوعها في القرن التاسع عشر، عن مرض يشبه الجنون يصاب به رجل تتحرّك عنده الغرائز الجنسية مع رغبات غريبة للقتل بعدها، تذهب كل تلك القراءات إلى تحويل الرواية إلى عمل رمزي، لا يضع الأصبع على الجرح أبدا، بل يحوم حول قضية العنف ضد النساء من بعيد، بتمييع ذلك العنف ليصبح نقطة ضعف بشرية مشتركة، لا كجريمة يجب إدانتها.

في القرن العشرين اعتبرت الرواية صرخة في وجه كل ساكت أمام العنف ضد المرأة، لكنها لا تزال «قصة رعب» بلغة القراء العرب.

تكتب النساء نصوصا كثيرة حول الموضوع، لكنها تبقى حبيسة التصنيف الجندري السيئ للأعمال الأدبية والتوثيقية المهمة، في السودان مثلا نسي الناس سريعا حكاية لبنى أحمد الحسين التي وثقت حكايتها في كتاب بعنوان «أربعون جلدة بسبب بنطلون» قامت بكتابتها الصحافية الفرنسية جنان كاريه تاجر، واعتبر الكتاب مجرّد حكاية تشبع الغرور الغربي وفضوله. ورغم عودة لبنى إلى الواجهة الإعلامية خلال ثورة السودان، بدون غطاء رأس، إلا أن حضورها لم يعد «حارًّا» كما كان منذ عشر سنوات مضت، وكأنّ المطلوب هو أن تبقى تُجلد منذ تلك الأيام إلى يومنا هذا لتظلّ رمزا لقضية ما.

لن نفهم «وحشيتنا» الدفينة المختبئة في تلافيف صمت مقصود، حتى نعرف بالضبط ماذا نريد من المرأة العربية اليوم؟ إذ يبدو جليا أننا نريد امرأة أشبه بالروبوت، تُبرمج على نظام معين وتلتزم به مدى حياتها، وهذا ما يكشف لنا حقيقة مرعبة عن إصرار أغلب المجتمعات، خاصة المتخلفة، على سلب المرأة حريتها أولا وقبل كل شيء، لتسهيل تدجينها واستغلالها بشكل جيد.

في كتاب لإيلزا فاينر بعنوان «العنف، جمع مؤنث» نقف في مواجهة أنواع من العنف في كل أنحاء العالم، قد لا يخطر بعضها على بال: مئة مليون امرأة مفقودة في العالم، مليونا امرأة شوهت أعضاؤها التناسلية، 127 دولة متسامحة مع «جرائم الشرف» بموجب القانون، تموت النساء في العالم بسبب العنف الممارس ضدها من قبل الأقارب، أكثر من موتها في حوادث السير والأوبئة والأمراض الخطيرة مثل السرطان. لا تكتفي فاينر بتقريرها المدعوم بالأرقام، بل تعطينا المفاتيح لإيقاف هذه الكارثة.

كتاب بهذه الأهمية لا يدخل الفضاء العربي، إلا لمن يتقنون لغة أجنبية، ذلك أنه يضع العالم الغربي والعربي في كفة واحدة، وهذا يزيح عنا غطاء «العنصرية ضد العرب» الذي نتنكّر به، كلما قدمت جهات غربية أرقاما تمسنا في هذا الموضوع بالذات.

نتقبّل بسهولة أن 21% من النساء معنفات في سويسرا، و22% في الولايات المتحدة، و23% في كندا من طرف شركائهن، لكن – على سبيل المثال لا الحصر – حتما لن نصدق أن 34% من المصريات أو 50% بالنسبة للفلسطينيات معنفات، ذلك أن مفهوم العنف ضد المرأة مختلف تماما في مجتمعاتنا، لأسباب عديدة أهمها أن المرأة لا تصرّح به، أمام القانون إلا في الحالات الخطيرة، ولا في أدبها، خوفا من العواقب، وأغلبها اجتماعي تشوه سمعة المرأة، وتفتح النار عليها من جبهات عائلية تزيد من كمية العنف ضدها، كما يحدث للمطلّقات مثلا.

موضوع العنف ضد النساء بلغ أوجه في المجتمعات العربية، لكنه يبقى خارج المعالجة الأدبية الجادة له، باستثناء أقلام قليلة، منها الجزائرية فضيلة الفاروق لاشتغالها في ثلاثيتها على الاغتصاب وانتهاك جسد الأنثى بكل أنواعه، وإصرارها في نصوصها القصصية والشعرية على المضي في الخط، وأعتقد أن إبقاءها في الظلال سببه هذا الموضوع بالذات، كونه تكرر مع كتاب رجال سجلوا الموقف نفسه مثل الكاتب السوري الكردي سليم بركات، الذي اعتبرت روايته «سبايا سنجار» نصا ضعيفا، للتقليل من قيمته الإنسانية، بل إن الرواية لم تأخذ حقها كباقي أعماله، إذ صدرت وغابت كما غاب موضوع الإيزيديات عن المشهد الإعلامي.

ربما خلاصة ما يجب قوله هو أننا ضد العنف شرط أن نعترف بذلك وكأنه ليس قضيتنا، بل قضية مقيدة ضد مجهول!

 

  • شاعرة وإعلامية من البحرين

 

 



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي