خطوة إثيوبية لتبديد المخاوف الإقليمية لسد النهضة
2020-09-27
محمد أبو الفضل
محمد أبو الفضل

عادت إثيوبيا للمناورة بعد الضغوط الدبلوماسية عليها بشأن النيل، خاصة بعد كلمة الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أمام الجمعية العام للأمم المتحدة. رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد أطلق وعدا لفظيا جديدا في كلمته حين قال إن بلاده تعمل على التوصل إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف، ما اعتبر في السودان ومصر بمثابة استهلاك للوقت، وهو الأسلوب الذي يتقنه الإثيوبيون.

كسر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد حدة الصمت الذي خيّم على المفاوضات بين بلاده ومصر والسودان بشأن سد النهضة، عندما قال في كلمته أمام الأمم المتحدة، الجمعة، إن أديس أبابا تنوي التوصل إلى نتيجة مفيدة لجميع الأطراف في إطار عملية يقودها الاتحاد الأفريقي حاليا، ولا تريد إيقاع الضرر بالآخرين.

مثل هذا الوعد اللفظي ردّ غير مباشر على رسالة وجهها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في كلمته أيضا أمام المنظمة الدولية، الثلاثاء، وأكد فيها أن نهر النيل ليس حكرا على طرف، ومياهه لمصر ضرورة للبقاء دون انتقاص من حقوق الأشقاء، في إشارة إلى إثيوبيا، التي لا تمانع القاهرة في إقامة مشروعها لأغراض تنموية، شريطة تجنب تأثيره سلبا على حصتها من المياه.

أعادت كلمتا آبي أحمد والسيسي الجدل حول سد النهضة للواجهة، بعدما تصوّر كثيرون أن النسيان طواه خلال الأيام الماضية، فلم تتحدث جنوب أفريقيا التي تقود الوساطة الأفريقية عن المفاوضات، والمدى الحقيقي الذي وصلت إليه، حيث توقفت منذ شهر ولا أحد يعرف مصيرها بالتحديد وسط الغموض الذي أحاط بها عقب آخر جولة افتراضية جرت بينهم في نهاية أغسطس الماضي.

انشغلت الخرطوم بالسيول والفيضانات والروافد الإنسانية التي ترتبت عنهما، وبدا مشروع السد يمثل اهتماما ثانويا في خضم مشكلات عميقة وعاجلة، لكن ظل موقفها ثابتا حول ضرورة التوصل إلى اتفاق ملزم بخصوص الهنات الصغيرة التي جاء ذكره فيها.

اكتفت القاهرة بتحركات دبلوماسية تقوم بها في هدوء لشرح أبعاد القضية دوليا، تحسبا من تكرار نغمة المماطلات الإثيوبية المعروفة، والاستعداد لإثارة الملف في مجلس الأمن مرة ثانية، لأن الحوارات التي جرت في محطة جنوب أفريقيا ضاعفت من الهواجس العامة، وخلفت يقينا بأن أيّ جولة مقبلة سوف تحتاج المزيد من الجهود، وتفعيل دور القوى الإقليمية والدولية الفاعلة.

كما أن إثيوبيا انخرطت في همومها الداخلية وحاولت إعادة تصويب المسارات السياسية القلقة، بعد تنظيم التيغراي انتخابات منفردة، وسعت لمنع انتشار التظاهرات الضاغطة على كاهل الحكومة وإجبارها على إدخال إصلاحات عاجلة.

 تراجع تكتيكي

حققت الحكومة الإثيوبية هدفا مهما عندما نفّذت وعدها بالبدء في المرحلة الأولى لملء سد النهضة بصورة منفردة، في يوليو الماضي، ووضعت مصر والسودان أمام الأمر الواقع، وكسرت الكثير من المحرمات التي طالبتها بالشروع في الاتفاق أولا.

أدت هذه النتيجة إلى وفاء الحكومة بخطتها المبدئية في نظر قطاع كبير من المواطنين، وهو ما يتطلب تراجعا تكتيكا، لأن التمادي في الصلف ربما يجلب لها أزمات خارجية في غنى عنها، لأن التوافق الحاصل بين القاهرة والخرطوم يمكن أن يسفر عن تعاون وتنسيق واسعين، وقد يجبرها هذا الأمر على اتخاذ إجراءات صعبة.

مثّل قرار الإدارة الأميركية بخصم جزء من المساعدات التي تقدم إلى إثيوبيا، في بداية سبتمبر الجاري، نقلة نوعية في مسار الأزمة، وأصبح أول حجر ثقيل يُلقى في البئر العميقة لسد النهضة، لما تنطوي عليه الخطوة من دلالات سياسية، فهي أوحت بأن واشنطن يمكنها التحرك بفاعلية كبيرة، ولن تقف مكتوفة الأيدي في مسألة تنفيذ أديس أبابا مشروع السد دون اتفاق مسبق مع دولتي المصبّ.

ينبع اهتمام العديد من القوى بالأزمة من الهواجس التي صدّرتها القاهرة لكثيرين بأن الطريقة التي تدير بها إثيوبيا مفاوضاتها سوف تفضي لتوترات إقليمية، وتؤثر على مصالح دول مختلفة، وعلى الجميع تحمل مسؤوليته في هذه المسألة.

يفسّر المحدد الأميركي وروافده الدولية جانبا مهما من التغير الذي ظهرت علاماته في كلمة آبي أحمد في الأمم المتحدة، وتعد جزئية سد النهضة في الخطاب أشبه بالوثيقة الدولية لكل من مصر والسودان، إذا خالفت الإجراءات الإثيوبية التصورات المعلنة.

كانت هذه من المرات النادرة التي لم تتطرق فيها إثيوبيا لما أسمته بـ”حق التصرف الفردي”، و”النيل نيلنا”، أو عدم مشاركة آخرين في تحديد طرق استغلالها لمياه النيل الأزرق، وما إلى ذلك من أسطوانة عزف ألحانها عمدا بعض المسؤولين هناك، وتفيد بالتنصل من التوقيع على اتفاق مُلزم مع مصر والسودان.

يكشف تفكيك العبارات التي صاغها آبي أحمد بحنكة عن مناورة جديدة، فالرجل فعلا تعهّد بعدم الإضرار، ومواصلة المفاوضات عبر قناة الاتحاد الأفريقي، والاستعداد للتوصل إلى نتيجة إيجابية، ووعد بما يدغدغ مشاعر كثيرين.

لكن كلها عبارات مطاطة، يمكن أن تحمل تفسيرات متضاربة، طالما لم تصطحب معها التزامات أكثر تحديدا، ولا تبدّد مخاوف مصر والسودان بشكل كاف، فقط تبعث برسالة للقوى الدولية بأن إثيوبيا لا تمانع من التوقيع على اتفاق مُلزم بالصيغة المناسبة.

تعود هنا الحكومة الإثيوبية إلى الاحتماء بعنصر الوقت لتحقيق أقصى استفادة ممكنة، لأن كلمة آبي أحمد غرضها تخفيض مستوى المخاوف الدولية من الانعكاسات الإقليمية لمشروع سد النهضة، ونفي تأثيره على الأمن والسلم في المنطقة، وهو ما لوّحت به مصر عند اللجوء إلى مجلس الأمن، وتستخدمه في تنوير الكثير من البعثات الدبلوماسية المعتمدة في القاهرة.

استخدم آبي أحمد لغة مرنة أمام الأمم المتحدة لإزالة الآثار السلبية لجملة المواقف المصرية، وحاول الإيحاء بعدم صعوبة التوصل إلى اتفاق، ووضع الكرة في ملعب القاهرة، التي تستخدم دوما مفردات تشي بالغطرسة الإثيوبية في المفاوضات.

بالطبع لا تكفي الكلمات في المحافل الدولية لتبديد آثار سياسية متراكمة، غير أن النبرة التي حملها الخطاب الإثيوبي تتواءم مع طبيعة المنظمة الأممية كمحفل سنوي لعرض القضايا التي تحمل وجهة نظر أصحابها، ولا تخلو من معان تشي بالمجاملة.

تعديل التوجهات

عدّلت إثيوبيا الدفة السياسية ووضعت الحصان أمام العجلة، بما يتناسب مع الخطابين المصري والسوداني، ومنحت الوساطة الأفريقية فسحة جديدة من الوقت للأخذ والرد وإعادة ترتيب الطاولة، لعقد جولة أو جولات أخرى، طالما أنها سوف تقود إلى الحل.

اختارت التخلي عن العجرفة في مكان (الأمم المتحدة) وزمان (قبيل الانتخابات الأميركية) بالغي الحساسية، وتبدو كمن استجابت لضغوط الولايات المتحدة، وامتثلت لإرادة المجتمع الدولي، ولن تكون عائقا أمام الإخلال بقواعد الأمن والسلم الإقليميين.

ربحت الحكومة الإثيوبية برهة من الوقت في ملف سد النهضة قد تتمكن خلالها من ضبط جزء من أوضاعها الداخلية، والتوصل إلى تفاهمات وسط مع مصر والسودان، وإذا أخفقت تكون قد برّأت ذمّتها أمام العالم، لأنها في نظر قوى كثيرة تبدو راغبة في التسوية، من دون تحديد قواعدها آلياتها.

تحشد أديس أبابا بالتوازي مع هذه التحركات بعض جماعات الضغط للعمل لصالحها، وكلفت المحامي الأميركي كريغ بوركهارت للدفاع عن موقفها في ملف سد النهضة، والذي رأس رابطة المحامين التابعة للحزب الجمهوري في حملة الرئيس دونالد ترامب الانتخابية السابقة، على أمل أن تحقق إثيوبيا اختراقا يساعدها في الحد من أيّ ضغوط، إذا فشلت في التوصل إلى اتفاق يرضي طموحاتها.

تشير هذه المعطيات إلى أن الأزمة في طريقها إلى مسار آخر، وهذا ما يمكن أن يقودها إلى دروب ودهاليز من الصعوبة أن تلتقي عند نقطة تؤدي إلى التوقيع على اتفاق بالطريقة التي تريدها دولتا المصب، وبالتالي من المتوقع حدوث جولات جديدة من العض على الأصابع السياسية لكل طرف.

 

  • كاتب مصري


مقالات أخرى للكاتب

  • المؤامرة على مصر مرة أخرى
  • التنمية قبل السياسة في مصر
  • إخفاقات تقاسم السلطة العربية.. عرض مستمر





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي