مصر لا تغضب من حماس.. مهما تباعدت المسافات
2020-09-03
محمد أبو الفضل
محمد أبو الفضل

تتحكم في العلاقة بين مصر وحركة حماس الفلسطينية مجموعة من الضوابط الاستراتيجية لا تسمح لأي منهما بالخصام السياسي وتحويله إلى صراع، ثم نقل الصراع إلى مستوى أعلى ويحوله إلى أزمة حقيقية، لأن كل طرف يحتاج إلى الآخر الآن مهما تباعدت المسافات أو تقطعت السبل بينهما.

تعلم القاهرة أن حماس جزء من جماعة الإخوان المسلمين، حتى لو عدلت ميثاقها الأساسي، وادعت أنها مستقلة أو فصيل مقاوم وكفى، وتعلم الأخيرة أن النظام المصري يقف موقفا صارما من تيار الإسلام السياسي، ولا يفرق بين متشددين ومعتدلين، مع ذلك هناك تفاهمات وقواسم مشتركة تظهر من وقت إلى آخر.

تخيم على العلاقة سحب قاتمة بعد التصعيد العسكري بين حماس وإسرائيل، وقيام قطر بدور ملموس في فرملته، على خلاف كل مرة كانت القاهرة هي التي تلعب الدور الرئيسي في الوساطة وتنجح في وقف التصعيد، ما جعل البعض يعتقد أن الدوحة ستضاعف نفوذها في قطاع غزة على حساب القاهرة.

تعلم حماس أن المسافة التي تتحرك فيها قطر، أو تركيا، أو غيرهما، من الصعوبة أن تخصم من رصيد مصر، لأن غزة، والقضية الفلسطينية عموما، تندرج في إطار الأمن القومي، ولا يمكن التهاون مع ما يجري هناك من تطورات وتفاصيل.

ليست هذه المرة الأولى التي يتردد فيها الحديث عن نفوذ ما للدوحة ومحاولات تقوية شوكتها، ولن تكون الأخيرة، في ظل العلاقة القوية التي تربطها بحماس، والمناورات التي تجيدها الحركة، ورغبتها المستترة في عدم وضع العطاء كله في جعبة مصر، وحرصها على تنويع أوراق اللعب على الطاولة.

هي لعبة قديمة أجادتها الكثير من الفصائل عندما كانت الأجواء العربية مليئة بالتنقل بين المحاور، وتحاول قطر وتركيا وإيران إعادة إنتاج اللعبة على مقاس كل منها، وظهرت تجلياتها خلال السنوات الماضية في الحرب والسلام، ولم تفلح في هز القواعد التاريخية، وأخفق العبث بثوابت الجغرافيا السياسية في إحداث التغيير المنشود.

لم تغضب القاهرة من مثل هذه الألاعيب الصغيرة، فالدولة التي تستوعب حماس بكل ما قامت به من تجاوزات بحق أمنها القومي في مرحلة سابقة، لن تنفعل مع تصرفات تعلم أسبابها ودوافعها والمرامي التي تريد تحقيقها حاليا.

جرى غض الطرف عن الدعم الذي قدمته الحركة للمتشددين في سيناء، وتعاملت مصر مع اختراقات الحدود بطريقة أمنية، وسدت المنافذ التي تستغلها حماس، وتخطت القاهرة ما ترتب من أضرار على الانتهاكات الصريحة التي قامت بها الحركة، غير أنها لم تغفر لها أو تسامحها، ووجدت أن الاحتواء أفضل من الصدام.

ترى القاهرة أن الخيارات المحدودة تفرض عليها التعاطي مع حماس وعدم قطع حبال الود معها، فأن تكون تحت أعينها حتى لو قامت بتصرفات تغضبها، خير من أن تتركها تماما لدول تعلم نواياها وأهدافها، وهو ما تعرفه الحركة، ويدفعها من وقت إلى آخر إلى تبني سياسات خبيثة من دون تجاوز الخطوط الحمراء.

تملك مصر مفاتيح عديدة لخنق حماس ولا تلجأ إليها، لأن الحركة ليست قطاع غزة، ولن يتم اختزال أهمية فلسطين فيها، فالمسألة أبعد ما يكون عن أوراق الدومينو التي إذا تهاوت إحداها يتهاوى الباقي منها تلقائيا، ومن المفيد أن تكون جميع الفصائل في الأراضي الفلسطينية صلبة ومتماسكة.

وكما أن الخطوط مفتوحة مع حماس من جانب مصر، على الرغم من تجاوزاتها، هناك خطوط موازية مع كل القوى الوطنية الفلسطينية، ولا يعني الخلاف مع إحداها حول ملف ما تحوله إلى أزمة ثنائية، وتؤكد حوارات المصالحة التي تمت في القاهرة على مدار عقود أن العلاقة لا تخضع للأهواء، ولن تتوقف على تباين التقديرات.

من الطبيعي امتصاص الضربات السياسية، مهما بلغت حدتها، لكن غير الطبيعي أن يفهم التسامح على أنه ضعف، أو الصبر قلة حيلة، فهناك الكثير من أدوات الضغط التي يمكن تفعيلها لإجبار حماس على الانصياع، وهي تعلم حدودها جيدا، لذلك تحرص دائما على عدم التفريط في العلاقة، ولا تتعمد أن تصل إلى مستوى الجفاء.

يفرض الواقع الفلسطيني والتطورات الإقليمية المتلاحقة، التمسك بشعرة معاوية، ومنع وصولها إلى مرحلة القطع النهائي، الذي لن يفيد مصر أو حماس، فالحبل السري الذي يربط بين سيناء وغزة وانعكاسه على الأمن المصري يمنع التضحية بهذه الشعرة، لأن النتائج المترتبة عليها مضرة ولن تفيد الجانبين.

تحفل الساحة الفلسطينية بانقسامات حادة، مكنت إسرائيل من ضم مساحات كبيرة من الأراضي المحتلة، وساعدت حماس على استمرار سيطرتها على غزة، وهناك تفاهمات ضمنية بينهما على استمرار هذه الحالة المفيدة لكليهما، ولذلك تخشى مصر أن يتخطى التدهور مستوى الصراع المزمن ويصبح أزمة ممتدة تقضي على ما تبقى من بصيص أمل لحل القضية الفلسطينية.

تواجه القاهرة تحديات على الجبهة الغربية مع ليبيا، وفي ملف سد النهضة الإثيوبي، ولا تريد أن تتحول غزة إلى بؤرة أشد إزعاجا تعيد النشاط إلى الإرهابيين الكامنين في سيناء، وهو ما يجعلها أكثر صبرا على توجهات حماس ولو أغضبتها.

تتسم العلاقة في العلن بالشجون، وإخفاء ما يعتريها من مطبات عملية تتعرض لها وهي ليست بالهينة، وكل طرف يعلم فحواها وأماكنها، ويحاول تفادي الانزلاق فيها ولو بتصريحات وبيانات دبلوماسية، لأن المردود السلبي قد يصعب احتواء تداعياته.

تستغل الحركة انشغالات مصر أحيانا، وتسعى للاستفادة من طموحات بعض القوى، وترغب في توصيل رسائل سياسية معينة أو جس النبض، وربما تريد استثمار فائض التريث المصري وتختبر حدود التحمل، وتوظيف الهامش المسموح به للحركة، وتلجأ إلى المناورات بحجة أن لدى الحركة صقورا وحمائم.

تطفو هذه اللعبة على السطح بشكل كبير مع إسرائيل لتبرير إجراءات معينة، وتعلم مصر أكثر من غيرها أن حماس كحركة عقائدية قد تعمل بمبدأ التقية وتوزيع الأدوار، لكنها لا تسمح باختلاف الرؤى، ولا تظهر ذلك في وجه القاهرة، التي تعلم ما يدور بداخلها، وتترك لها مساحة للحركة طالما تنطوي على جدوى للقضية الفلسطينية.

إذا تجاوزت في الاشتباك أو تمادت في عبور هذه المساحة هناك عوامل ردع عديدة وعقوبات مختلفة، يمكن اللجوء إليها في حالة وقوع أضرار مباشرة، ومن هنا سيكون الغضب المصري من حماس مكلفا، الأمر الذي يعيدها إلى مربعها الأول.


*كاتب مصري



مقالات أخرى للكاتب

  • المؤامرة على مصر مرة أخرى
  • التنمية قبل السياسة في مصر
  • إخفاقات تقاسم السلطة العربية.. عرض مستمر





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي