هل يجب حرق نجيب محفوظ؟
2020-09-02
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها العالم العربي، يبدو من المفيد جداً ترهين بعض الأسئلة التي لا نعرف كيف نجابهها نظراً لتعقدها وحساسياتها: هل يجب مثلاً حرق نجيب محفوظ لأنه أيد اتفاقيات كامب ديفيد، التي حيدت مصر كقوة عربية فاعلة في الصراع العربي الإسرائيلي؟ هل يجب تغليب السياسي الطارئ، لأن نجيب محفوظ لم يدّع يوماً أنه محلل سياسي، فقد انتصر دوماً للروائي والمبدع والتخييل؟ أم يجب تغليب الصفة المتعالية، أي صفة الفنان والمبدع؟ فهو الرجل الذي أصل الفن الروائي ووطنه، مما جعل جائزة نوبل تلتفت لمنجزه الكبير؟ ماذا فعل نجيب محفوظ حتى قامت ضده زوبعة ألغت وجوده بجرة قلم؟ بالمقابل، هل ما فعله كان صحيحاً ومدروساً؟ لنقترب مما فعله أكثر.
لقد أيد اتفاقيات كامب ديفيد، بوضوح ومن دون خوف، ككاتب، ولكن أكثر من الكاتب، بسبب السلطة التي يمثلها عربياً. اتُّهِم بأنه لم يكتب عن قضية إنسانية كبيرة مثل القضية الفلسطينية. لا يمكن أن نكتب عن محنة الهنود الحمر، ولا نكتب عن قضية هي جزء من الوجدان الإنساني والعربي، ما يزال الكثير من أبطالها، من الطرفين، العربي والإسرائيلي، أحياء حتى اليوم، وشهاداتهم تجمع على تشريد شعب بكامله من أرضه، وإحلال شعب بشعب آخر، من خلال الهجرات اليهودية المكثفة التي لم يستفد منها اليهودي الفلسطيني الأصيل، الذي وجد نفسه مقهوراً ومعزولاً.
هناك بياض بالنسبة لنجيب محفوظ لا يمكن القفز فوقه، بل ضرورة فهمه. طبعاً، من الصعب مطالبة كاتب أن يكتب عن موضوعة محددة دون غيرها. يظل الروائي، وفق المنطق الإبداعي، حراً في خياراته، لكن المأخذ هو في وجهة النظر. الروائيان الإسرائيليان ديفيد غرسمان وألموس عوز مثلاً، لم يصمتا في اللحظات التاريخية المفصلية، فقد دافعا باستماتة عن حل الدولتين.
وكانا من المناصرين لإسحاق رابين قبل اغتياله وياسر عرفات. لكن هناك من ذهب من الكتاب الإسرائيليين إلى أبعد من ذلك.
في شهر ديسمــــــبر الماضي، غادر الكـــاتب إيتـــان برونشتاين Eitan Bronstein Aparicio إسرائيل، التي جاءها مهاجراً من الأرجنتين، برفقة والده، وعمره خمس سنوات.

وصديقته إليونوري ميرزا Éléonore Merza، وهي من أصول فرنسية، متخصصة في الانثروبولوجية السياسية، تركا إسرائيل بشكل نهائي احتجاجاً على الاعتداءات الإسرائيلية اليومية ضد الشعب الفلسطيني. أسس إيتان منظمة زوخروت Zochrot (تذكّر) في 2001، التي فضحت إسرائيل أيام النكبة.
ثم ألفا كتاباً مشركاً أعطياه عنوان: النكبة، وكشفا فيه ما تسميه إسرائيل التحرير. لم يستطيعا، وهذا كلامهما، تحمل الوضعية العسكرية والإيديولوجية والسياسية في إسرائيل. وجدت إليونوري وظيفة في بروكسل، فلم يترددا ثانية واحدة، سافرا واستقرا هناك.
رهانهما الكبير، كما يقول إيتان برونشتاين، هو إنقاذ ابنهما من ظلام نظام تربوي مُعسكر، في إسرائيل، بعد أن يئسا من أي إمكانية للسلام: «لا أرى أي أفق لسلام حقيقي». هناك أمثلة كثيرة أعلن أصحابها عن آرائهم تجاه المذابح التي ارتكبتها إسرائيل وترتكبها إلى اليوم في ظل نظام فاشي لا يؤمن إلا بالقوة. في السياق نفسه، حري بمثقف عربي كنجيب محفوظ، أن يكون له موقف الكاتب وليس السياسي.
وجهة نظره التي كررها كثيراً في الندوات والحصص التليفزيونية (مثلاً أمسية ثقافية لفاروق شوشة) هل هي كافية، وهي أنه أيد الاتفاق الإسرائيلي المصري من أجل فلسطين للخروج من وضعية اللاحرب واللاسلم المؤذية للشعب الفلسطيني لأنه هو من كان يموت. فقد قتل العرب من الفلسطينيين أكثر مما قتل الإسرائيليون (الكلام لنجيب محفوظ في حصة أمسية ثقافية)؟ وأنه لن يكتب عن فلسطين إلا الفلسطيني. ثم إن الرواية غير الشعر؛ الرواية عالم معقد يحتاج إلى معاشرة حقيقية للأحداث. هيمينغواي كتب عن أوروبا لأنه ارتحل نحوها في الحرب الأهلية الإسبانية، بينما بقي فولكنر في عالمه المغلق، ولهذا لم يكتب إلا عن مكانه. أكثر من هذا، فقد كتب نجيب محفوظ في 1978 في رسالة موجهة لناقد إسرائيلي البروفيسور سامسون سوميخ، درس عميقاً نجيب محفوظ: «كتابك عني يعتبر عملاً نقدياً عميقاً وعاماً وشاملاً، ويعتبر من أفضل ما كتب عني، إن لم يكن أفضلها جميعاً.

طبيعي أنني لمست فيه حبك للأدب العربي ولاجتهاداتي فيه، لا تحرياتك عن عقلية عدو، بل إن دراستك كانت غنية في المقام الأول وإنسانية بالمعني الشامل والدقيق…»، البروفيسور سوميخ يعتبر محفوظ الجسر الرابط بين الأدب العربي والأدب العبري من خلال رواياته المترجمة إلى العبرية، مثل زقاق المدق، وثرثرة فوق النيل، وميرامار، وأولاد حارتنا، وغيرها. بعد هذا كله، هل يجب حرق نجيب محفوظ لأنه لم يكتب عن فلسطين روايات ذات قيمة حقيقية؟ محفوظ رجل كبر في المؤسسة؛ يعني في الإدارة التي هي الدولة، مصغرة بكل نظمها الفارغة أحياناً، وانضباطها المفزع، الذي لا يمكن تجاوزه. فهو يحمل في أعماقه الكثير من أثقالها وأوهامها على الرغم من انتقاده لها نقداً لاذعاً. لقد عبر نجيب محفوظ زمناً طويلاً وصعباً، وعرف هذه المؤسسة بعمق، عن قرب، وكتب عنها. وبحث أحياناً عن رضاها وعدم الاصطدام بها، بشكل مباشر.

يعرف جيداً أنها طاحونة قاتلة، هو الذي انتقدها بعنف في كل كتاباته. وافق المؤسسة في صورتها المتعالية، يعني الدولة، عندما ذهبت نحو كامب ديفيد، واعتبرها مخرجاً. رفض أيضاً أن يصطدم بالأزهر وألح، بل وأوصى، بألا تنشر رواية «أولاد حارتنا» الإشكالية، إلا بمقدمة من شخصية مرموقة من الأزهر. وكان له ما أراد في النهاية. فقد صدرت الرواية في مصر بمقدمة من الكاتب الإسلامي أحمد كمال أبو المجد، مقدمة ظلت بعيدة عن عظمة الرواية. لكن ذلك كله لم يمنع نجيب محفوظ من انتقاد المؤسسة الدينية نقداً لاذعاً، في مختلف رواياته.

لقد فضل تمرير كل مواقفه الرافضة عبر الرواية التي تعتبر حرفته الأساسية، وظل كل ما هو سياسي عرضياً. انتصر نجيب محفوظ للرواية أولاً وأخيراً، كفعل حر ودائم يتخطى السياسي الطارئ. ومن يقرأه، بدون مسبقات سياسية جاهزة، لا يشك لحظة واحدة في جرأته وقوة نفاذ بصيرته. لهذا، من الصعب تقييم نجيب محفوظ من زاوية واحدة هي السياسي، دون أن يعني ذلك عدم قراءة مواقفه ونقدها، إذ لم تكن صائبة دائماً.
ما بقي اليوم من نجيب محفوظ هو الروائي ولا شيء آخر غير الروائي. الكاتب العظيم سيلين، أبو التجديد اللغوي والروائي في فرنسا، وصاحب رائعة «رحلة إلى منتهى الليل»، كتب مقالات معادية للسامية، مليئة بالأحقاد والضغائن، استعاد فيها صورة اليهودي في نهايات القرن التاسع عشر في أيام إيميل زولا، ومارسيل بروست وأناطول فرانس، لكن الذي بقي اليوم منه قوته الفنية والروائية الاستثنائية، بينما تحول الباقي إلى مادة تاريخية لا أكثر، يذهب نحوه المختصون وليس عشاق الرواية.



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي