المثقف العربي وورطة الأسئلة الصّعبة
2020-08-26
واسيني الأعرج
واسيني الأعرج

يعيش المثقف عموماً، والعربي بالخصوص، وضعاً لا يحسد عليه، وعصراً شديد التعقيد تواجهه فيه تحديات كبيرة، عليه أن يبلور إجابات لها، ليس بالمعنى الفردي فحسب، ولكن أيضاً بالمعنى الجماعي، وهو الأهم في المعادلة. كيف توفر هذه الإجابات فهماً حقيقياً لما يعتمل في المجتمع والعصر من تحولات قاسية، مرعبة أحياناً، وسبل تجاوز مخلفاتها التي ليست أمراً هيناً، وتوفير سبل التعامل مع الظرفيات الطارئة التي نتجت عنها. أتحدث ههنا عن المثقف المحفِّز، وليس المثقف المحبِط، الذي ليس أكثر من آلة تنفيذ، يقف دوماً خلف منتصر اللحظة، ولا دور لجهده أو لكلامه سوى التبرير لتسهيل مرور الخطاب الرسمي الذي يراد له أن يتسيّد، وأن يكون مسموعاً من بين كل الخطابات الممكنة. هذا النوع من المثقف تربى في الحاضنة ولا يمكنه إلا أن يفكر بمنطقها ووسائلها.

ما هي التحديات والرهانات التي تقف في وجهه اليوم؟ ثلاثة: النظام الدولي الجديد، والحروب، والانهيار العربي المتجسد في اللادولة.

منذ سنوات وهذا النظام الدولي الجديد يتجلى بشكل واضح في الرغبة في الهيمنة المطلقة على الخيرات الشرقية بالمعنى الجغرافي، وتحجيم الدول الصاعدة كالصين وكوريا وروسيا وغيرها، التي تشكل عائقاً في امتداده لأنها هي أيضاً تريد حقها من الكعكة، ومصالحها الاستراتيجية تقتضي ذلك.

هذه الحسابات جعلت من النفط العربي بالخصوص هدفاً أساسياً لها. النفط العربي الذي كان وراء الطفرة التي سمحت لبعض البلدان العربية بأن تتقوى، بعد أن ضمنت مستوى معاشياً عالياً لشعوبها، ومكنت الاستثمارات العربية من أن تبلغ درجة عليا من التطور والاتساع. فجأة، نزل النفط إلى حدود التكلفة، ما يعني الانهيار الاقتصادي الكلي إلى أمد غير مسمى إذا لم توجد حلول اقتصادية حقيقية.

كيف يمكن استيعاب المخزون المالي العربي الذي أصبح يهدد بالاستيلاء على الأسواق العالمية والتحكم فيها، وبالتالي التحكم في السياسات الدولية؟ إسرائيل لا ترى بعين الرضى لكل هذه التحولات الإيجابية التي يمكن أن تحد من غطرستها. خلق الفتن المرهقة الجانبية باسم قيم حقيقية ونبيلة كحقوق الإنسان، وحق الأقليات، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية وغيرها التي لا جدال في جدواها من الناحية النظرية على الأقل، كان واحداً من الخيارات الأكثر أهمية. الحروب عادة هي خير وسيلة لذلك. خلق العدو المفترض. مهما كانت نوايا إيران في سياق الحسابات الدولية، وجودها بتلك الصورة يخدم النظام الدولي الجديد من أجل إغراق العالم العربي بالأسلحة التي سيصدأ قسم كبير منها، ولن يستعمل. صفقات السلاح نشطت اللوبي الحربي الأمريكي، فكانت الحرب اليمينة المدمرة. عصفوران بحجر واحد.

بيع الأسلحة المدمرة لليمن الحضاري العريق، اليمن السعيد، وضع الخيرات الباطنية بين أيدي النظام الدولي الجديد، ويصبح البشر مجرد لحم يغذي الطاحونة الدموية، الإثنية والعرقية والطائفية وغيرها، التي تكبر كل يوم أكثر وتتأصل عميقاً في التربة، حتى عندما تزول الحروب، تبقى هي. لا شيء في النهاية سوى الاستيلاء على خيرات اليمين الذي حوله العرب أنفسهم إلى يمن بائس تأكله الأمراض اليومية والفقر وفقدان الماء والعودة المحمومة نحو الأنظمة القبلية. يمن آخر هو اليوم بصدد التكوين، يمن اللادولة.

في المنطقة المغاربية، الخلاف الجزائري المغربي يشكل بؤرة صراع مستقبلي واضحة. من هنا تم تسليح البلدين الجارين استعداداً لحرب مدمرة تدخل في سياق فرض النظام الدولي الجديد وكسر كل الدول المارقة. جزء من الخزينة الجزائرية يذهب نحو التسليح الروسي، بينما توجه المغرب نحو الحلفاء التقليديين للتسلح أيضاً. ينام البلدان المغاربيان اللذان يفترض أن يكونا قاطرة الاتحاد المغاربي، على ترسانة من الأسلحة يمكن أن تتحرك في أية لحظة.

ليبيا اليوم في وضع اللادولة، وهذا وفر كل سبل الفوضى الخلاقة؟ أي المزيد من التدمير والإفناء الذي فكك الدولة وحول ليبيا إلى مساحات قبلية تترسخ فيها الصراعات الإثنية والعرقية والجهوية، وتكوّن خرائط محلية جديدة قد تكون نواة دول أو مشيخات قادمة. وكأن كل رهانات النظام الدولي الجديد هو محو قرابة القرن من الدولة الوطنية، كيفما كانت نقائصها وضعفها، لكنها كانت تحمي البلاد والعباد حتى لو انزلقت من حين لآخر، بسبب جذورها القبلية، لكن وجود الدولة كناظم كان يخفف من مخاطرها على الوحدة الوطنية.

بعد تفكك جزء مهم من سوريا، واستيلاء تركيا وأمريكا على كثير من مناطقها النفطية الحيوية تحت مختلف الغطاءات، يلوح اليوم في الأفق خطر كبير وهو جزء من سياسة النظام الجديد.. حرب الماء. هل بدأت من عطش الحسكة الذي فرض عليها؟ ولا ندري كيف يحمي قانون قيصر السوريين وهو يسلط عليهم المجاعات والبؤس الشعبي المعمم؟ لم يكن العراق أكثر حظاً، وهو أكبر وأغنى دول المنطقة. المراحل الثلاث التي مر عبرها أنهته كقوة فاعلة: تدمير الآلة العسكرية والاحتلال، وتنشيط البعد الطائفي، وتفكيك الدولة وإنتاج ثلاث مجموعات متناحرة مبنية على أساس إثني وطائفي وديني: المجموعة الكردية، السنية والشيعية، بعد أن تم إنهاء الأقليات اليهودية والمسيحية كوجود.

يضاف إلى هذه المعضلات جائحة الكورونا التي وضعت العالم كله وغطرسته في دائرة السؤال: ماذا تساوي كل هذه الترسانة العسكرية بأسلحتها التقليدية الفتاكة والنووية أمام فيروس يدمي العالم بلا حسابات للتقدم والتخلف؟ يحتاج المثقف العربي تحديداً إلى كثير من العمى السياسي ليقنع نفسه بأن ما يحدث أمام عينيه يومياً لا يخضع لاستراتيجية عامة يراد ترسيخها بالقوة، ولا يهم إذ مات ملايين من البشر العرب تحديداً جراء هذه الاستراتيجية، فهم لحم المدافع أو بشر من درجة دنيا. الضعف العربي الكبير هو أصلاً في الاستراتيجية الحيوية الغائبة. لم يستثمر العرب قط في مجالات حماية أنفسهم.

هناك مال كبير أهدر في الأسلحة، لكن ما جدوى ذلك في سماء أصبح يملكها غيرهم؟ هل للعرب قمر صناعي عسكري واحد يحمي سماءهم ويوفر لهم المعلومات الكافية لتفادي الضربات الاستباقية في محيط عدواني شرس يريد فناءهم؟ هل للعرب، على الرغم من قوتهم المالية التي بدأت تتبخر، الحق في شراء الأسلحة الأمريكية المتطورة؟ طبعاً لا، فإذا وقفت إسرائيل ضد أية صفقة، سيستجيب لها الكونغرس؟ لكن النظام الأمريكي براغماتي في جوهره، لو وجد أمامه قوة عربية موحدة، سيذهب نحو مصلحته مهما كانت الضغوطات الإسرائيلية وتأثيرات اللوبي اليهودي.

كل الحلول العربية فردية، مع غياب كلي لأية استراتيجية حيوية جماعية. لا يمكن أن يكون كل ما حدث في العشرين سنة الأخيرة هو محض صدفة. الصدفة لا مكان لها في الصراعات الدولية.



مقالات أخرى للكاتب

  • المَرْأة و«الجندر» وألمُ الكتَابَة والاعْتِراف
  • كيف خرجوا من معطف الرئيس؟
  • عزلة حتى التَّلاشي.. وفاة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي