نوبل الأسئلة الخطيرةا
2019-10-21
 بروين حبيب
بروين حبيب

لم تنل البولندية أولغا توكارتشوك ما ناله النمساوي بيتر هاندكه من اهتمام إعلامي، لقد لفت هاندكه انتباه المناهضين للحروب، ومص حبر أقلامهم وطاقاتهم، مع أن الجائزة أصبحت في حوزته، وهو بكل بروده المعهود لم يأبه لما كتب.
صحيح أن توكارتشوك نالت الجائزة هي أيضا، لكن ظلال هاندكه غطت عليها، فيما احتفل البولنديون على طريقتهم بكاتبتهم التي افتكت جائزتين دفعة واحدة، وشارك في الاحتفال حماة الطبيعة من «الحزب الأخضر» الذي تنتمي إليه، والذي لديه أتباع ومناصرون بشكل ضخم في كل العالم، فيما أهملها الرسميون بحكم معارضتها لليمين البولندي الحاكم.
يختلف الفائزان اللذان حكمت الظروف ليتزامن الإعلان على حصولهما على أكبر جائزة أدبية في العالم في أمور كثيرة، يجب الوقوف عندها لأسباب مهمة، تعيد طرح السؤال الخطير: «من يستحق نوبل للآداب؟» وما هي المقاييس التي تؤهل كاتبين مختلفين تماما مثل الليل والنهار لنيل الجائزة نفسها؟
عرف هاندكه بمناصرته لحرب الصرب، وظلّ محافظا على صداقته مع ميلوسيفيتش حتى وُري التراب، وقد ألقى كلمة في جنازته، رغم معرفته الأكيدة أن الإعلام لن يرحمه في هذا الأمر، وأن موقفه سيبقى وصمة عار في تاريخه، أما توكارتشوك فلديها أيضا مواقفها السياسية، ولكنها تقف في الخط المعاكس تماما لهاندكه، إنّها نسوية التوجه، وقد صنفت كتاباتها ضمن هذا الإطار، ولعلّ القائمين على منح نوبل للآداب لجأوا إليها لـ»تبييض» سمعة الجائزة، لما لحق بها من انتقادات، خاصة في السنة الماضية، حتى أن حجبها لم يرض سوى فئة قليلة، كونه مجرّد إخماد مؤقت لجمرة ستبقى متقدة في تاريخ نوبل إلى الأبد…
الأخصائية النفسية البولندية المفتونة بالاضطرابات العقلية، ما جعلها تتخصص فيها، تفرّغت للأدب، بدون أن تبتعد عن اختصاصها في نبش خفايا النفس الإنسانية، كما تفرّغت لممارسة هواياتها الإنسانية في مجملها، إذ عرفت بتكريس وقتها لكلِّ نضال يحمي كوكب الأرض، ويمنح الإنسان حياة صحية في بيئة نظيفة معافاة من التشوهات التي يلحقها البشر بها. وأن كانت شهرتها في بلدها ذات أهمية فإنها أيضا ترجمت إلى أكثر من خمس وعشرين لغة، وكانت سنة 2018 مباركة عليها فعلا من كل الجهات، بعد حصولها على جائزة فيمينا ومان بوكر، وختمتها بنوبل.
كل هذا جيد، فالسيدة النّباتية التي ترفض أن تأكل اللحوم، احتراما للحيوانات التي خلقت لتصنع توازن الطبيعة، تتساوى على منصّة نوبل مع النّمساوي – صديق السفاح كما كتبت بعض الصحف العالمية – وقد وصف بأن أعماله «مليئة بالإبداع اللغوي»، رغم تصريحه في إحدى مقابلاته الصادمة بأن «منح جائزة نوبل للكتاب مهزلة بشعة» فهل معنى ذلك أنه دخل المهزلة بقدميه؟ وإن اعتبرنا دخوله مهزلة فمن أي باب هي كذلك؟

لكن هذا العمى الأخلاقي لم يمنع أعضاء الأكاديمية العريقة من تتويجه بالجائزة، على أساس أنه لا يمكن محاسبة كاتب على أخلاقه.
وبالمناسبة صودفت عدة مواقف صارمة من أعضاء سابقين استقالوا بسبب إصرار أغلب أعضاء اللجنة على منح الجائزة لكتاب، حسب مواقفهم السياسية، أو إرضاء لصرعة فكرية ما، أو لسبب آخر بعيد عن التقييم الجيد لنتاجهم الأدبي، وهذا موضوع آخر خاضت فيه أقلام كثيرة على مدى سنوات.

 

لقد لفت هاندكه انتباه المناهضين للحروب، ومص حبر أقلامهم وطاقاتهم، مع أن الجائزة أصبحت في حوزته، وهو بكل بروده المعهود لم يأبه لما كتب.

لكن محطّتنا اليوم هي إيجاد تفسير لهذه الخلطة العجيبة التي ابتكرتها لجنة تكافئ امرأة تدافع عن حقوق النساء والإنسان والحيوان والأشجار، وفي الوقت نفسه تكافئ رجلا لا مانع لديه من التنكيل بالنساء واغتصابهن وإذلالهن وذبح الرجال والأطفال وحرق الأشجار وإبادة الحيوان وتأبين المجرم تأبينا محترما لأنه «إنسان بائس»؟ ألا يبدو الخلل صارخا في هذه الطبخة السويدية، وهي تخرج من عقلاء أشهر أكاديمية تدعي النزاهة والنبل والرقي؟
إن الحرب لا تعني جرائم القتل فقط، فالقتل رحيم جدا أمام جرائم الاغتصاب، وما يترتب عنها من جراح لا تبرأ أبدا، لقد ناقضت نوبل نفسها بعد صمت دام سنة، لتخرج إلينا ببندقية صوبتها مباشرة إلى قلوبنا نحن النساء، حتى إن نالت البولندية المناضلة الجائزة، فنحن نعيش في الشق الأسود من العالم، حيث الحروب لا تزال طازجة، وتنزف بدماء الجرحى والمعطوبين والمنكوبين.

إن المواقف التي صدرت عن بعض الكتاب العرب ـ وليس جميعهم ـ كانت سياسية إلى أبعد حد، كون الحرب المقصودة والمدانة حرب تصفية ضد مسلمي يوغوسلافيا سابقا، لكنها أبدا لم تشر إلى الحرب بتفاصيلها المرعبة، وإلى النقطة الحرجة التي غيّبت نوبل 2018 لتعود بعد هذا الغياب بوجه أكثر بشاعة من اللطخة التي لوثتها سابقا.
غير ذلك تتويج أولغا لم يكن ليخرس ألسنة النسويات في العالم، فنوبل جائزة ذكورية بامتياز، إذ على مدى قرن وثماني عشرة سنة فقط 15% من النساء المبدعات نلنها، أما هاندكه فيثير اشمئزازهن، إمّا دفاع أحد أعضاء الأكاديمية عنه قائلا، «لقد قرأنا كل أعماله، ولم نتطرق أبدا إلى مواقفه السياسية، كوننا نعرف سلفا أنه أحمق في السياسة، وأنه أسيء فهمه في موضوع يوغوسلافيا»، فقد زاد الطينة بلّة!
نعرف أن لهاندكه مأساته الخاصة، خاصة عند انتحار والدته، التي ألف عنها كتابا بعد صراع مرير مع اللغة، يتسم الرجل بالصمت ويميل إليه أغلب الوقت، ولهذا لم يعط تفسيرا عن جذوره الصربية، ولا عن رحلته إلى صربيا لمعرفة حقيقة ما حدث سنة 95، فقد نشر كتابا عن تلك الرحلة، لكنه بقي بعيدا عن القارئ الذي أدانه، عرف كيف يبتعد عن ضوضاء الأسئلة، ويقيم في كونه الصامت.
«مشكلة الرجل أعمق من أن يحاكم» يكتب أحدهم، «إنّه قادم من المأساة، بعاطفة مجنونة، ومنعطف مزاجي مثير للقلق، إننا لا نعرف متى يكون هادئا ومتى يكون غاضبا» فكــيف نحاكم رجلا محكم الإغلاق مثله؟ تقف الأسئلة في صف طويل، بدون أجوبة، فكل ما سيقال لن يخرج عن إطار التكهنات، أمام مساواة واهمة بين رجل وامرأة على ميزان أقوى جائزة أدبية في العالم.

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين



مقالات أخرى للكاتب

  • حين تصبح جسما غريبا!
  • مُحرّضات القراءة بين ما هو طويل وقصير
  • الحشيش.. عدو أم صديق للمبدعين؟





  • كاريكاتير

    إستطلاعات الرأي