المفكر الفرنسي ميشيل مافيزولي: «دنيا المظاهر وحياة الأقنعة»

2021-03-21

 الفيلسوف دولوز

مهاب نصر  

أيهما تفضل؛ أن تكون شجرة أم عشبة؟ أن تكون ثابت الجذور محدد الإقامة، أم تنبت عفويا كما يحدث بعد زخات المطر بين الممرات ومنعطفات الطرق؟ في حوار طويل للفيلسوف الفرنسي جيل دولوز ركز الأخير على أهمية النظر للحياة الإنسانية بطريقة انبثاق العشب، ناعيا على الفكر الغربي كله سعيه إلى الأصالة في مقابل الصدفة، إلى التنظيم العقلاني الأحادي مقابل تعدد الوجوه والمشاعر الإنسانية في اللحظة الواحدة.

ربما كانت مشكلتنا مع الظروف التي نعيشها الآن والتي تتلاحق فيها التغيرات والصدمات الحادة من أوبئة وانهيارات اقتصادية وحياة مشتتة عبر مواقع التواصل هي أكبر حافز لتغيير وجهة النظر تجاه الحياة.

 وربما كانت معاناة الناس نابعة من النظر إلى أنفسهم كأشجار تبحث عن الجذور والامتداد والأصل، بينما يفرض علينا الزمن حياة برية كالأعشاب. 

في كتابه «دنيا المظاهر وحياة الأقنعة.. لأجل أخلاقيات جمالية» يدافع المفكر وعالم الاجتماع الفرنسي ميشيل مافيزولي بضراوة عن العرضية التي تتسم بها الحياة المعاصرة.

 يقف مافيزولي من البداية موقفا عدائيا ضد المفكرين والمنظرين الاجتماعيين النقديين قائلا «إن هناك بيننا من لا يزال يصر، وبعد معاينته للوقائع على الأرض، على حذف هذه وتجاهل تلك، مقابل انخراطه الجانح في التنظير المعياري والأخلاقي، التنظير لما يجب أن يكون ولما ينبغي أن تكونه الحياة الاجتماعية بمعزل عن المعاينة الباردة والواقع العنيد».

يفسر مافيزولي صاحب «مزايا العقل الحساس» موقف المثقفين المتشائمين من التغيرات الاجتماعية في نهايات القرن الماضي بأن الريبة والشك اقترنا بالفكر الغربي، وأن موروث الغرب الثقافي، الذي هو أساس العقلانية الحديثة «كان بمجمله قائما على اقتران المعرفة بالخطيئة والشر».

كذلك ينعى مافيزولي على المفكرين إنكار الجسد والتجربة الحسية وما يسميه «مجافاة الصور». ويؤكد من جهة أخرى استحالة اختزال المجتمع في نظام آلي من العلاقات الاقنصادية والاجتماعية والسياسية دون استحضار روابط تفاعلية أخرى قوامها انفعالات وأحاسيس ووجدانيات معجونة في الجسم الاجتماعي.

رأى مافيزولي، عبر مؤلفاته، أننا نتجه إلى عالم جماليّ عوضا عن العالم العقلاني الذي اتسمت به الحداثة ونتاجها المنظم. ولكنه يحذرنا في الوقت نفسه من الاستخفاف بالوازع الحسّي والجمالي للحاضرـ ومن تجاهل الثمن الذي على الفرد أن يدفعه من جراء دخول العاطفة إلى عالم الحساب والربح، وإحلال الصدفة محل التنظيم، والمتعة مكان الإنتاجية.

يشبه مافيزولي طبيعة الظواهر الاجتماعية الآخذة في النمو بالزخارف المعمارية الشرقية واليونانية والقوطية القديمة «إن هذه الحالة ذات وجاهة رفيعة، سوسيولوجيا، لجهة أهليتها لوصف وكشف الخلطات الثقافية المتكاثرة والمتنافرة التي هي السمة الغالبة في المجتمعات المعاصرة».

حياة جديدة

منذ نهايات القرن الماضي وحتى ما قبل جائحة «كورونا» زادت معدلات الأسفار والسياحة حول العالم، المهرجانات المنظمة والعفوية، واتخذت العلاقات الإنسانية طابعا احتفاليا عرضيا مختلفا عن الطابع التقليدي أو الرومانسي الذي اتسمت به الحداثة، حتى مجالات العمل والتوظيف اتخذت طابع عدم استقرار تأكّد مع انتشار البيئة الرقمية المتجاوزة للحدود والأقاليم. يرى مافيزولي إلى ذلك وغيره باعتبارها ظواهر مغايرة لبيئة الاستقرار المحافظة والحساب العقلاني للأرباح والخسائر.

وبعد أن كانت الجماليات والفنون هي خاصية نخبوية في الحداثة، اتسع نطاقها لتصبح سمة شعبية لمجمل النشاطات الإنسانية.

تساؤلات

هل كان مافيزولي متفائلا أكثر مما يجب؟ ربما تطلعنا السنوات العشر، التي تمثل العقد الثاني من القرن الحالي، على صورة أخرى.

فالعالم لم يكن بهذه الصورة الجمالية المتنوعة إلا في دول حققت استقرارا وفائضا عاليا، بينما كانت الفوضى والصراعات الأهلية آخذة في النمو ومتجهة إلى حافة الخطر في مناطق أخرى.

كما أظهر عالم المتعة والعناية بالجسد إغفال المؤسسات للأزمات والطوارئ المقبلة من تلك الجهات الأكثر اضطرابا في العالم، وكذلك إهمالها لمشكلات البيئة والإنفاق الحكومي على الرعاية الصحية.

بل أغفل مافيزولي أيضا كما لو عن عمد، دور النمط الجديد للرأسمالية في الترويج للمتع العابرة والعلاقات المؤقتة وعدم الاستقرار ليدفع عجلة النمو إلى حدها الأقصى.

 قد يكون صاحب «دنيا المظاهر» على حق في نقده لصرامة الحداثة واختزالها الحياة في العقل والنظام، بيد أن ما نعيشه الآن يكشف أيضا عن خطورة الجانب السائب والهش في حضارة قائمة على الأقنعة والاحتفال مغفلة اليد التي تحركها، والتي عجزت عن أن تمدها بالحياة في وقت الخطر.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي