أما يزال شبح الإمبريالية يخيم على السياسات العالمية؟

How the Dead Hand of Imperialism Continues to Influence World Politics
2021-03-18

نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية مقالًا لفريد زكريا، مؤلف كتاب «عشرة دروس لعالم ما بعد الجائحة»، قدَّم فيه قراءة شاملة لكتاب «ظلال الإمبريالية: كيف يشكِّل التاريخ الإمبريالي عالمنا؟» لسمير بوري، المهتم بشؤون الصراعات والأمن والتاريخ والسياسة. كما تناول الكاتب الحديث عن دور الإمبريالية في سياسات البلاد في الوقت الحالي، مشيرًا إلى تاريخ الحركة في الدول العظمى.

في بداية مقاله، يشير الكاتب إلى ما كتبه سمير بوري (الزميل الأقدم المتخصص في الأمن الحضري والحرب الهجينة في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في سنغافورة) من أننا نعيش جميعًا في خضم خذلان متمثِّل في «الخذلان الإمبريالي العظيم»؛ إذ يوضح بوري في كتابه «ظلال الإمبريالية» أننا نعيش في «أول ألفية خالية من الإمبراطورية» في التاريخ، ومع ذلك، لا يزال إرث هذه الإمبراطوريات يشكِّل ملامح عصرنا بقوة.

ويري الكاتب أن بوري يدرك فكرة الإمبراطوريات الرسمية ولكنَّه يقدِّم حُجَّة قوية مفادها أنه كان هناك شيء مميز وملحوظ بشأن الإمبراطوريات السابقة، التي ظهرت منذ عصر أقدم الحضارات الإنسانية حتى عام 1991، عندما انهار الاتحاد السوفيتي. وتمثِّل هذه المقاربة؛ أي الإرث الإمبريالي في عالم ما بعد الإمبريالية، فكرة مثيرة للاهتمام تثبت أن هناك جهازَ تحسسٍ بارعًا يمكن أن ننظر من خلاله إلى العالم.

ويضرب ضَمُّ روسيا لشبه جزيرة القرم، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعمليات الانهيار في العراق وسوريا، بجذورٍ عميقة في الماضي الإمبريالي الذي لا يزال يُلقي بظلاله على الحاضر الذي نعيشه.

يقول الكاتب: وبمجرد أن تبدأ في التفكير على هذا المنوال، سترى ظلال الإمبراطوريات في كل مكان. وفي اليوم الذي بدأتُ فيه قراءة كتاب بوري، كنتُ أقرأ عن موضوع لا يناقشه بوري ولكنه مثال آخر على أطروحته، وهو: الجدل المُحتدِم حول ما يجب فعله مع مئات الآلاف من القطع الأثرية التي نُهِبت، على مر قرون، من جميع أنحاء العالم وتُعرض الآن بفخر في المتاحف الغربية الكبرى.

وفي التاريخ الحديث، ونظرًا إلى النفوذ الذي تتمتع به القوة الغربية، تصرَّفت معظم البلدان بوصفها إمبريالية أو أنها وجدت نفسها خاضعة، وفي كلتا الحالتين، شكَّلت الخبرة هوياتها الوطنية إلى حدٍ بعيد. ويقول بوري إن الولايات المتحدة تأثرت أيضًا بالإمبريالية تأثرًا شديدًا، زاعمًا أن العبودية الأمريكية كانت فكرة مستوردة من الإمبراطوريات الأوروبية وكانت «المظهر الأخير للاستعمار، وليس استعمار الأرض، بل استعمار البشر».

وفي الحقيقة، وصف كريس هايز، المذيع في شبكة «إم إس إن بي سي»، الظروف التاريخية للأمريكيين الأفارقة بأنها «مستعمرة داخل دولة».

ويشير بوري، الخبير في مجال النزاع المسلَّح والذي عمل في وزارة الخارجية البريطانية، إلى أن القرارين المحوريين اللذين اتخذتهما بريطانيا على مدى العقود الماضية، وهما الانضمام إلى الولايات المتحدة في حرب العراق والخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، تأثَّرا بصورة بالغة بالخذلان الإمبريالي للبلاد.

وبعد أن كانت بريطانيا ذات يوم أعظم قوة إمبريالية في العالم، تشبثت بفكرة أنها كانت تتمتع بالقوة العسكرية والمهارة الدبلوماسية، وقبل كل شيء الطموح الرامي إلى تشكيل أجزاءٍ نائية من العالم. وبالإضافة إلى ذلك، كان العراق في العصر الحديث صناعة بريطانية، إذ تشكَّل في عام 1920 من أصل ثلاث محافظات تابعة للإمبراطورية العثمانية المنهارة. ويمكن أن تقرر لندن مصير بغداد مرةً أخرى.

ويؤكد الكاتب أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حرَّكته وجهة نظر تفيد بأن بريطانيا لم تكن دولة تشتهر بقربها من أوروبا. وفي الحقيقة، كان انفصال القومية البريطانية عن القارة هو ما ميَّزها في غالب الأحيان. وفي مسرحية «ريتشارد الثاني» التي ألَّفها شيكسبير.

(يعبِّر جون جاونت عن القومية الإنجليزية الضاربة بجذورها العميقة عندما يصف الدولة الجُزرية قائلًا: «هذا الحجر الثمين القائم في البحر الفضي/ حيث يمثل له هذا البحر حائط صدٍ بنَته يد القدرة/ أو يمثل له خندقًا مائيًّا يقف موقف الحارس الأمين للمنزل/ ضد حسد الحاسدين الذين يعيشون في الأراضي الأقل سعادة، هذه البقعة المباركة، هذه الأرض، هذه المملكة، هذه إنجلترا).

ولطالما تحدَّث كبار مؤيدي البريكست، بمن في فيهم رئيس الوزراء الحالي، بوريس جونسون، عن «بريطانيا العالمية»، والاستمرار في مهمتها التاريخية في جميع أنحاء العالم، وإقامة علاقات أوثق بصفة خاصة مع مستعمراتها وممتلكاتها القديمة بداية من كندا، ومرورًا بالهند، ووصولًا إلى أستراليا.

ويرى الكاتب أن الحالة الروسية أسهل في بعض نواحيها؛ إذ يشير بوري إلى أن «تطوُّر روسيا كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بتوسُّعها، لدرجة أنه بات من غير الواضح هل صنعت روسيا إمبراطورية أم أن الإمبريالية هي التي صنعت روسيا». ويؤرخ بوري لبداية الإمبراطورية الروسية التي تواجه أوروبا مع مملكة كييف روس (التي بلغت ذروة نشاطها في القرن الحادي عشر وتضاربت الآراء حول مؤسسها)، التي بدأت في القرن التاسع في مدينة كييف؛ عاصمة أوكرانيا في الوقت الحالي.

ونشأت من تلك البدايات المتواضعة إمبراطورية امتدت في أوج ازدهارها، بعد انتصار الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، إلى 11 منطقة زمنية وضمَّت نحو 200 مليون نَسَمَة.

وعندما تنظر إلى هذا التاريخ، يبدو تعليق فلاديمير بوتين الذي أوضح فيه أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان يمثِّل «كارثة جيوسياسية كبرى في هذا القرن» منطقيًّا، لا سيما إذا استمعتَ إلى ما قاله بعد ذلك مباشرة: «وجد عشرات الملايين من شركائنا في الوطن ومحبيه أنفسهم خارج الأراضي الروسية. وعلاوةً على ذلك، ضرب وباء التفكك روسيا نفسها». وتساعد هذه العلاقات الإمبريالية العميقة مع أوكرانيا في تفسير سبب الشعبية الجارفة التي حظيت بها العملية الوقحة لضم شبه جزيرة القرم تحت إشراف بوتين.

ويلفت الكاتب إلى أننا ندخل القرن الحادي والعشرين بعد الإمبراطورية بقوة محرِّكة جيوسياسية غير عادية. وتستمد القوتان الرَّائدتان على هذا الكوكب، وهما الولايات المتحدة والصين، قدرًا كبيرًا من شرعيتهما وهدفهما الداخلي من فكرة أنهما دولتان مناهضتان للإمبريالية. وفي حالة أمريكا، ترتبط هويتها بقصة نشأتها المتمثلة في التمرد ضد الإمبراطورية البريطانية. وفي حالة الصين، يتعلم كل تلميذ أن تاريخ البلاد الحديث بدأ مع إهانة الإمبريالية الغربية للمملكة الوسطى (أي المملكة المصرية التي استمرت من حوالي 2050 إلى 1710 قبل الميلاد) وتشويهها لأكثر من قرن.

ومع ذلك، يمتلك البَلَدان إمبراطوريتين غير رسميتين على حدٍ سواء. وتتمثَّل الإمبراطورية الأمريكية في شبكة واسعة من التحالفات الاقتصادية والقواعد العسكرية المنتشرة في جميع أنحاء العالم. ومن جانبها، تحاول الصين تطوير شيء مشابه تمامًا لمبادرة الحزام والطريق الضخمة خاصتها، التي قد تصل إلى عشرة أضعاف حجم خطة مارشال (وهي مشروع اقتصادي وضعه الجنرال الأمريكي الأسبق، جورج مارشال، بهدف إعادة تعمير أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية).

ويطرح الكاتب سؤالين: كيف ستتفاعل هاتان القوتان العظميان المميزتان فيما بعد الإمبراطورية في القرن الحادي والعشرين؟ وما التداعيات التي ستلقيها ظلال الإمبريالية في هذا العصر الثنائي القطب الناشئ الجديد؟

ويجيب: لسوء الحظ، ليس لدى بوري الكثير ليقوله عن أيٍّ من هاتين القضيتين. وبعد أن قدَّم منظورًا جديدًا لجميع القضايا التي أثارها الكاتب أعلاه، يقدِّم بوري تكهُّنات موجزة وذكية، ولكنه غالبًا ما يَشرَع في سرد التاريخ الإمبريالي للدول الكبرى أو أجزاء من العالم.

وفي الختام، يؤكد الكاتب أن كثيرًا من هذا التاريخ مكتوب وشامل وحكيم بصورة جيدة، ولكنه لا يزال تاريخًا مختصرًا. وبعد أن قدَّم بوري موضوعًا رائعًا، يرفض أن ينخرط ليستكشف أطروحته بصورة كاملة. ويبدو أنه يُلمِح ببساطة إلى أن هذه المهمَّة متروكة للقارئ، ولكن ذلك يضع على أكتافنا عبئًا ثقيلًا، ويمكِّن مؤلف هذا الكتاب المحفِّز من إخلاء مسؤوليته بسهولة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي