هل يعوق تعدد الثقافات وحدة الجنس البشري؟

2021-03-14

الثقافة تمازج وتنافر (لوحة للفنان إبراهيم الحسون)

أبو بكر العيادي*

في رسالته عن الطبيعة البشرية لاحظ الأسكتلندي ديفيد هيوم أنه حين يسافر عبر أوروبا يعتبر الإنجليز أصدقاءه، وعندما يسافر إلى آسيا فأصدقاؤه هم الأوروبيون، ولو قُدّر له أن يسافر إلى القمر، فسوف يبحث عن سكان الأرض كي يتواصل معهم، أي أن الإنسان يميل بطبعه إلى من يشبهه في المقام الأول، فهل يعني ذلك أن تعدد الثقافات يقف حائلا أمام تواصل الجنس البشري؟

المقصود بالثقافة هو جِماع التقاليد التي تميز مجموعة بشرية، أي أن الثقافة لها معنى مخصوص ومتعدد قد يجعل علاقتها بوحدة الجنس البشريّ إشكالية.

حتى عبارة “الجنس البشري” نفسها ملتبسة، لأنها قد تعني وحدة النوع وتوحي بأصل مشترك له نفس الجينات، أو مصير مشترك يدفع البشرية إلى تحقيق ذاتها كوحدة عبر التاريخ.

وأيّا ما تكن التعريفات، فالغاية هي معرفة ما إذا كان تعدد الثقافات عاملا سلبيا في علاقة البشر بعضهم ببعض وتحقيق إنسانيتهم. وهل يمثل ذلك التعدد تهديدا للهوية الثقافية لشعب ما إلى درجة تدفعه إلى النأي بنفسه واختيار العزلة كي يحفظ خصوصيته، أم هي فرصة تبادل وإثراء مع ما قد ينجرّ عن ذلك من ذوبان الخصائص المميزة لهذه الثقافة أو تلك، ووقوفها في التوحّد والتماثل؟

عدوانية الثقافة

إن أسطورة تقسيم اللغات كما وردت في الكتب المقدسة، وخاصة في سفر التكوين، تذكرنا بأن تعدد الثقافات كان في البدء عقابا لنسل نوح حين بنوا برجا يجمعهم في مكان واحد فبلبل الله ألسنتهم، فتوقفوا عن العمل وانتشروا في الأرض، فنشأت عن ذلك التشتت أجناس ولغات مختلفة، وبذلك صارت غاية “بلبلة” اللغات جعْل توافقِ الشعوب عصيّة.

ومن ثمّ صار من لا يفهم لغة الآخر، يحمل عنه أفكارا مسبقة، وكلما تباعدت المسافات الجغرافية صار الآخر بربريا، شأن تعامل الأوروبيين مع الشعوب البعيدة، فقد كانوا يأنفون من ثقافتهم لجهلهم إياها، ومن جهل شيئا عاداه، ومن جهل قوما ارتاب منهم ووصمهم بما ليس فيهم، فالقوميات الألمانية في القرن التاسع عشر كانت عدوانية ترتكز على نظرية التطوّر لدى داروين كي تبرّر مقتها لغير البيض.

في كتاب “تدهور الحضارة الغربية”، يعتقد الفيلسوف الألماني أوسفالد شبنغلر (1880-1936) أن الثقافة لا يمكن أن يكتب لها البقاء والدوام إلا بالتوسع، أي أن الثقافة لديه عدوانية في جوهرها. وهو ما نجده اليوم بعد اختلاط الثقافات بسبب الهجرات المتتالية، حيث يعود الحديث عن ثقافة البلد المضيّف، وعن الليبرالية التي “شجعت على انتهاج سياسة استيعاب تناقض الاختلاف، وتؤدي إلى إفقار الجنس البشري” كما كتب الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور.

فهل يعني ذلك أنه يجب تثبيت الاختلافات الثقافية وجعل الإنسانية مثل مشجب تعلق فيه كل جماعة رداءها، أم ينبغي إيجاد تناغم وتناسق بين الثقافات؟

تعدد الثقافات

من المفكرين من يعتبر أن الاختلاف الثقافي ليس عدوانيا بالضرورة، على غرار ما أوضحه جان لوك في رسالته عن التسامح، وقد كان المنطلق حروب الدين التي اشتعلت بين الكاثوليك والبروتستانت خلال القرن السابع عشر، وأضرمت النار في أوروبا كلها، حيث دفعت إلى التأمّل في الغيرية، والتفكير في أدوات جديدة لنشر السلام، فكان “التسامح” الذي دعا إليه لوك وسواه من مفكري ذلك العصر محرضا على ضرورة فصل الكنيسة عن الدولة، وتعديل القانون الدولي على نحو يسمح لكل مجموعة بشرية بأن تجد مكانها داخل مصير مشترك.

هذا التحويل، الذي غيّر “العائق” إلى فرصة سانحة، نجده أيضا في فكر كانْت إذ يعتقد أن ثمة خطة مخفية للطبيعة تجعل من الخلاف وسيلة للوئام بين الشعوب، فمن وجهة نظر براغماتية، ينبغي على البشرية، كي تبلغ “سلطة القانون”، أن تمرّ بتجربة النزاع بين الشعوب، فهي في نظره عامل تسابق وتنافس حتى يكون النوع أكثر إتقانا ومهارة.

وسبق أن دافع عن فكرة النزاع الفرنسي بوفّون (1707-1788) في كتابه “التاريخ الطبيعي”، حين زعم أنه لا يمكن مساعدة الشعوب المغلوبة على أمرها إلا عبر فضيلة الأسياد، وأنه ينبغي التفكير في تحرير العبيد إذا صارت طبائعهم مهذبة. وذلك مثال آخر عن النزعة الأوروبية المركزية التي تزعم قيادَ البشرية إلى آفاق أرحب.

غير أن مفكرين آخرين يذهبون إلى القول إن احترام تعدّد الثقافات يحتاج إلى خطاب معتدل. فلكي نتجنّب الإثنية المركزية الغربية، ينبغي إيلاء الاختلافات الثقافية ما تستحق من قيمة، وهو ما عبّر عنه ليفي ستروس في “العرق والتاريخ” حين أدان أمام اليونسكو توحّد الثقافات بفعل الليبرالية الاقتصادية وإرهاصات العولمة، فالاختلاف في رأيه محرّك بينما التوحّد مَوات، إذ لا وجود في نظره لمتوحشين، بل ثمة فكر متوحّش منفلت عن المعايير الغربية.

 

هناك مفكرون يرفضون توحّد الثقافات بفعل الليبرالية والعولمة، معتبرين الاختلاف محرّكا بينما التوحّد مَوات

ولكن هذا النقد الذاتي للغرب لا ينسينا أن التاريخ يحمل معه كل الثقافات، ما يجعل المستقبل وليس الماضي هو الأجدر بالنظر في مثل هذه القضايا وتأمُّل أبعادها، فلئن كان من المشروع أن تسجل بعض الثقافات اسمها في الموروث الإنساني، فإن إدراجها في متحف يحيد بنا عن التطلّع إلى المستقبل، لأن الأمّة، كما قال إرنست رينان هي مشروع القيام بأشياء مشتركة موجّهة إلى المستقبل.

أي أن تعدد الثقافات لا يكون إثراء للجنس البشري إلا إذا ساهمت كل ثقافة في بناء عالم أفضل، ووضعت في حسبانها مصير الأجيال المقبلة، في ظرف يتسم بأزمات صحية وبيئية واقتصادية ومجتمعية، فالمهمّة، كما بيّن الألماني هانس يوناس في “مبدأ المسؤولية”، ملقاة على عاتق كل الشعوب وكل الثقافات، واحترام الاختلاف الثقافي ينبغي ألّا يحجب أهمية ما يمسّ الإنسانية قاطبة، لأن الوضع الذي تعيشه البشرية اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى توحيد القوى وتضافر الجهود بدل تشتيتها في ما لا ينفع.

وجملة القول إن الصراع ضدّ كل أشكال الاحتقار الثقافي، والعنصرية، والتعصب الديني، وإبادة الأقليات، ينبغي أن يمضي في تناسق وانسجام مع الصراع ضدّ ما يمكن أن يهدّد البشرية، بصرف النظر عن الفوارق الثقافية، لأن وحدة الجنس البشري من هذه الزاوية مقدَّمة على الدفاع عن الثقافات.

 

  • كاتب تونسي

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي