العرب مجتمعات تعيش بلا أسئلة

2021-03-08

على الفرد أن يسأل (لوحة للفنان باسم دحدوح)

كاهنة عباس*

إذا ما سلّمنا جدلا بأن لا وجود لمعرفة مكتملة، أثبتت تطابقها التّام مع الواقع، سننتهي إلى القول إنّ كلّ معرفة مهما كان الحقل الذي تنتمي إليه علميّا أو فلسفيّا أو أدبيّا هي قابلة للمساءلة، أي لإعادة النّظر في ما وصلت إليه بطرح أسئلة جديدة.

لذلك، كانت الأسئلة هي المفتاح الأصليّ لكلّ بحث واكتشاف، إذ تكمن مهمّتها في زعزعة المسلّمات وتفكيك شبكة المعلومات السّائدة في عصر ما، قصدَ فهمها واكتشاف أسسها.

ومعنى ذلك، فإن التّفكير يبدأ بطرح سؤال أو عدّة أسئلة كنقطة بداية لكي يبني تصّوره للواقع، فليس من باب الصّدفة أن يكون سقراط أبًا للفلسفة اليونانيّة، وذلك لتوخّيه منهج طرح الأسئلة واستنباطه لطريقة من طرق البحث عن الحقيقة سميّت بتوليد الأفكار.

وتحتاج العلوم في شتّى الاختصاصات صحيحة كانت أم إنسانيّة إلى طرح جملة من الأسئلة، فعلى سبيل المثال، لا يمكن للطبيب أن يشخّص مرضا إذا لم يطرح على المريض جملة من الأسئلة، ولا للمؤرّخ أو عالم الاجتماع أو الطبيب النفسيّ أن يتحقّق من فرضيّة أو أن يصل إلى استنتاج أو أن يحيط بظاهرة نظريّة كانت أم واقعيّة في غياب طرح الأسئلة، وهي نفس الوسيلة التي يعتمدها الصحافيّ للتقصّي في واقعة ما، أو القاضي في مجال عمله للبتّ في نزاع أو الحكم بإدانة الجاني عند ارتكابه لجريمة.

  كما تساهم الأسئلة في النموّ الفكريّ للأشخاص، فإنّها تساهم أيضا في تطوّر الثقافات ونموّها لتحدث في مرحلة ما قطيعة معرفيّة، فالسّؤال هو الذي يفتح أفق البحث في ميدان معيّن

وتجدر الإشارة في هذا المضمار، إلى أنّ للأسئلة غايات مختلفة، فالسّؤال الّذي يرمي إلى فهم موضوع ما، ليس بسؤال الاستفسار ولا هو بسؤال الشّك ولا بسؤال الاستنكار، أما الفرق بينها جميعا فيكمن في مدى إعادة النّظر في الموضوع المطروح وكيفيّة تلقيه وقراءته.

ويبدو لنا سؤال الاستفسار على سبيل المثال ملحّا بل وضروريّا حتى وإن طرح خارج الحقل المعرفيّ، لأنّه يحدد علاقتنا بذواتنا عندما نتساءل ماذا نريد وما الّذي نسعى إلى تحقيقه وماذا ننتظر، كما يحدد أيضا علاقتنا بالآخر لمعرفة من يكون وما هي غايته من التّواصل معنا، وكذلك بالعالم من حولنا لمعرفة خفاياه وأسراره.

لذلك فإنّ النّمو النفسيّ والفكريّ للأطفال يبدأ بطرح الأسئلة فهي التي تساعدهم على اكتساب رؤية للعالم وللأشخاص المحيطين بهم.

ولا تقف أهميّة السّؤال عند لحظة طرحه بل تتجاوزها إلى غايته وكيفيته كما ذكرنا، لأنّهما يحددان طبيعة الأجوبة واتّجاهها وأسسها.

وكما تساهم الأسئلة في النموّ الفكريّ للأشخاص، فإنّها تساهم أيضا في تطوّر الثقافات ونموّها لتحدث في مرحلة ما قطيعة معرفيّة، فالسّؤال هو الذي يفتح أفق البحث في ميدان معيّن.

وعلى سبيل المثال، أدّى المنهج الديكارتي الذي اعتمد الشّك إلى اكتشاف الذّات المفكّرة أي الذّات التي مارست “فعل التّساؤل”، عندما أعاد ديكارت النّظر في كل المعارف والآراء الّتي تلقّاها وفي المعلومات التي كان يتقبّلها بواسطة حواسّه، بل وحتّى في وجوده الشخصيّ ليستنتج ما جاء بقولته الشهيرة “أنا أفكّر فأنا موجود” كي يقرّ بوجود “الكوجيتو”، المفهوم المؤسس للفرد مع ما أنتجه في مراحل تاريخيّة لاحقة من ظهور قيم وحقوق تعترف بذلك الفرد سياسيّا واجتماعيّا كذات مستقلّة عن العائلة والدولة والجماعة.

أما في مجتمعات العالم العربيّ، غالبا ما يقمع الفضول والرّغبة في الاكتشاف منذ السّنوات الأولى من نشأة الفرد، حيث تُؤسس مناهج التربية على التلقين والنّقل لا على التساؤل والبحث، لأنّ الهدف منها ليس تنمية ملكة الخلق والإبداع لدى الفرد بل تغليب الاتّباع والتقليد والخضوع للنّظام القائم وللسّلطة في جميع مظاهرها.

لذلك تهدر جميع قدرات الفرد وإمكانياته الفكريّة في أيّ بيئة كان، سواء في العائلة أو المدرسة أو الفضاء العموميّ وتقيّم رغبته في المعرفة الّتي يعبر عنها بواسطة التّساؤل على أنّها علامة عجزه عن الفهم والاستيعاب، لا على أنّها تنبع من حاجته الملّحة إلى الاستطلاع والاكتشاف، ممّا يفقده القدرة على بلورة أبسط الأفكار أو ممارسة الفكر النقديّ بإعمال العقل للتّثبت من صحّة أو زيف ما يتلقّى من معتقدات وآراء ومعلومات.

ففي مجتمعات تقليد السلف التي تغلب فيها النزعات الأبوية، يحاصر السّؤال داخل دائرة المحظورات، لأنّ الحقيقة ليست قيمة في حدّ ذاتها، إذ تدرس العلوم باعتبارها معطيات جاهزة للنّقل والتداول، لا باعتبارها مجموعة من الحقائق النسبيّة القابلة للشّك والتجربة، فالعالم في ثقافتنا معلوم معروف بواسطة النّقل ولا يحتاج إلى أن نكتشف حقائقه.

وهي من بين الأسباب التي جعلت العالم العربيّ لا ينتج مفاهيم فلسفيّة ولا علوم ولا معرفة رغم تاريخه العريق وإمكانياته الإنسانيّة والماديّة الضّخمة، بل إنّه لم ينتج بعد “حداثته”، لأنّه لم يواجه بعدُ لا تاريخه ولا العالم من حوله بجرأة وشجاعة، لكي يطرح على نفسه جملة من الأسئلة.

فلو رجعنا إلى بدايات القرن العشرين، إلى السّؤال الذي طرحه الكاتب شكيب أرسلان في كتابه بعنوان “لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟” لتبيّنا أن مثل ذلك الطّرح كان له تأثير بالغ في تحديد القضايا الفكريّة الكبرى خلال العقود اللاحقة، إذ تفرّعت عنه مسائل عديدة، منها: الأصالة والحداثة، الهويّة والآخر، علاقة المجتمع العربيّ الإسلاميّ بتراثه وماضيه.

وكان لتلك القضايا تأثير أيضا على طرح إشكاليات متعددة في مجالات أخرى سياسيّة واجتماعيّة وأدبيّة وفلسفيّة ذات علاقة بتلك المسائل، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: الدّراسات التي اهتمّت بالفتنة الكبرى في التّاريخ العربيّ الإسلاميّ بوصفها لحظة سياسيّة فارقة ما انفكّت تنتج صراعات عنيفة حول السّلطة، النّقاش الّذي لم ينقطع حول حقوق المرأة ومكانتها في المجتمع والأسرة وخروجها إلى الفضاء العام، على المستوى الأدبيّ: الخلافات التي أثيرت حول قصيدة الشّعر الحرّ ثّم حول قصيدة النّثر، أمّا بالنسبة إلى المستوى الفلسفيّ فملامح الفرد لم تحدد بعدُ، رغم ما يمتلكه من عقل ونفس ووجدان ولم تحسم ضرورة استقلاليته عن الجماعة والعائلة والدولة والطائفة، أي أنّ الإشكال يتعلّق بمسألة الاعتراف بوجوده وبحريته وبقدرته على الخلق والإبداع والتميّز.

لذلك أصبح من الضروريّ إعادة طرح أسئلة أخرى تخصّ علاقة مجتمعاتنا بالتّاريخ، بالإنسان، وبالعالم من وجهة نظر أخرى، فلا تضعنا في مواجهة مع الآخر من خلال تلك المعادلة التي فرضتها الحقبة الاستعماريّة بثنائياتها المتنافرة: نحن/ هم، تأخرنا/ تقدموا… بل في إطار أشمل وأوسع يتعلق بإعادة الاعتبار إلى الإنسان كقيمة في حدّ ذاته، لقدرته على التّغيير والفعل والانخراط في التّاريخ الإنسانيّ والمساهمة في تطوّره.

  • كاتبة تونسية






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي