«76 يومًا».. وثائقي يروي تفاصيل تفشي كورونا في ووهان

76 Days’ Turns the Wuhan Outbreak Into Bleak Poetry
2021-02-11

كتبت الروائية جانيت نج مقالًا نشرته مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، سلَّطت فيه الضوء على فيلم وثائقي يروي إحدى أكثر اللحظات قتامة في تاريخ البشرية الحديث، مُوضحةً كيف استطاعت الصين وتحديدًا مدينة ووهان القضاء على جائحة كوفيد-19 خلال 76 يومًا من الإغلاق التام الذي فُرض على مدينة ووهان الصينية، التي تضم أكثر من 11 مليون نسمة.

المشاهد أمام مسارين!

في بداية مقالها، تقول الكاتبة إن مشاهدة فيلم «76 يومًا»، الفيلم الوثائقي الجديد الذي يروي بداية تفشي فيروس كورونا المستجد في مدينة ووهان الصينية، وأخرجه المخرج الأمريكي الصيني هاو وو، تُشبه إلى حد كبير مطالعة قصائد الشعر.

إذ أدَّى رفض صناع الفيلم القاطع لتقديم سياق أكبر للأحداث، أو حتى تقديم تفسيرات مبسَّطة لما يحدث، إلى ترك المشاهد أمام مسارين: إما أن يُشاهد تفصيليًّا كل مشهد من محتوى الفيلم وينتقد كل لقطاتِه ويتصيد لها الأخطاء، وإما أن يترك نفسه للفيلم يغمره بسلسلة من الأحداث الشديدة الحميميَّة لكنها في الوقت نفسه مبهمة وغير مألوفة، بداية من مشهد توبيخ الابن لوالده عبر الهاتف لكون الأخير مصدر إزعاج للفرق الطبية، ووصولًا إلى مشهد الممارسين الصحيين الذين يعقِّمون متعلقات المرضى الذين ماتوا مؤخرًا من جراء الإصابة بالفيروس قبل أن يُعيدوها إلى ذويهم.

وتُوضح الكاتبة أن عنوان الفيلم يرمز إلى مدة فرض الإغلاق التام في مدينة ووهان، التي يُعتقد أن فيروس كورونا المستجد نشأ فيها. وهذا يعني أن الفيلم تدور أحداثه حول الإغلاق نفسه، لكنه في الحقيقة ليس كذلك. ويعرض الفيلم الوثائقي المُصمم على طراز «fly on the wall» (أحد أساليب صناعة الأفلام الوثائقية المستخدمة في الإنتاج السينمائي والتلفزيوني وفكرته أن الأحداث تُعرض بوضوح، كما تُرى الذبابة على الحائط) مقتطفات من داخل إحدى مناطق احتواء تفشي المرض في أحد مستشفيات مدينة ووهان، حيث ظهرت أسوأ بداية لتفشي الجائحة.

وتُضيف الكاتبة أن فيلم «76 يومًا» لا يُعلَّق على أحداثه بصوت هادئ أو تُجرى خلاله مقابلات لشرح ما يحدث، أو تُقدم استنتاجات أو تعقيب على الأحداث. كما أنه لا ينتمي إلى نوعية الأفلام الوثائقية التي تعتمد على الرسوم البيانية والأرقام والاتجاهات، أو نوعية الأفلام التي تعرض الفضائح الماجنة.

بل إنه حتى لا ينتمي إلى أنواع الأفلام التي تسرد قصة شخصية يمكنك من خلالها أن تستخلص العِبر والعظات على مدار حياة الشخصية التي تدور حولها القصة لأنها تسرد بدقة متناهية مجريات الأيام المعتادة. لكن فيلم «76 يومًا»، بدلًا من ذلك، يعرض سلسلة من المشاهد المنفصلة التي تروي كيف تسير حياة الأطباء والمرضى والسكان العاديين في مدينة ووهان خلال تفشي الجائحة.

الوثائقي الذي يُشبه قصائد الشعر

وتستطرد الكاتبة قائلة: ولا يُقدم الفيلم إجابات لكثير من التساؤلات ولا يؤدي إلى التنفيس الوجداني أو التطهير (مصطلح في الفن الدرامي يصف تأثير المأساة أو الكوميديا في الجمهور)، وعلى غرار قصائد الشعر، يقدم الفيلم قدرًا من المعاني التي يستنبطها المشاهد من الأحداث كما يستنبط الشخص الذي يطالع قصائد الشعر المعاني التي يرمي إليها الشاعر.

وكما أنني على يقين بأن بعض المشاهدين سيخرجون من هذا الفيلم الوثائقي يشعرون، على الأرجح، بالبهجة والنصر عند رؤية مدينة ووهان تنبض بالحياة من جديد ويتزايد إقبال الناس عليها مع حلول فصل الربيع، فإنني واثقة تمامًا أن بعضهم سينظرون إلى سلسلة أعداد الموتى التي ذكرتها إحدى العاملات في الفريق الطبي خلال اتصالها هاتفيًّا بأقاربهم الذين ما زالوا على قيد الحياة على أنها لائحة اتهام لاذعة.

وأكاد أجد غضاضة إن قلتُ إن فيلم «76 يومًا» غني بالمعلومات ومليء بالاستفادة. لكن الأمر يتعلق بأنني، على الرغم من أن هذا ينقصه التفسير، على دراية تامة بما يحدث. وظلت الجائحة معنا طيلة عام كامل وما زالت مستمرة. وخلال هذا الوقت، كان حالي كحال الكثيرين، لم أقرأ من الكتب الكثير.

وتابعت الكاتبة قائلة: لذلك بينما يناقش الفريق الطبي في المستشفى إمكانية إجراء الأشعة المقطعية لتشخيص الإصابة بالفيروس، أتذكر أن الطريقة الأساسية التي كانت متَّبعة، قبل التوصل إلى إجراء اختبار تفاعل البوليمراز المتسلسل (بي سي آر) الدقيق، لتشخيص مرضى كوفيد-19 هي من خلال ظهور بقع سوداء في فحوصات الرئة، وظلت هذه البقع وظهورها جزءًا مهمًّا من ضرورة تلقي الرعاية الطبية.

وتساءلت ما الذي يكتبه الأطباء من شخبطة على بدلاتهم الخاصة، ثم تذكرت عديدًا من المقالات التي قرأتها عن الفرق الطبية التي تخصص ملابسهم الرسمية الباهتة لكتابة الأسماء ونقش رسومات عبثية عليها. ولاحظتُ وجود كثير من المرضى من كبار السن قبل أن أتذكر أن كوفيد-19 هو المرض الأكثر فتكًا بكبار السن.

ولا يقدم فيلم «76 يومًا» شرحًا لأعراض مرض كوفيد-19 أو تطوره أو علاجه. ولا يذكر أي شيء بشأن حالة عدم اليقين التي انتابت الأطباء أو التدهور المفاجئ للحالة الصحية للمرضى الذي كانوا بخير، كما أن الفيلم لم يتطرق لأي شيء خاص بالاكتشافات الطبية أو بروتوكول العلاج المتغير، أو أي شيء يتعلق بأعضاء الفريق الطبي الذين أُصيبوا بالمرض وبحاجَتهم إلى الذهاب إلى الحجر الصحي.

ولم يسرد الفيلم مطلقًا أي تفاصيل دقيقة عن إجراءات الإغلاق أو مبرراته. وفي مرات عديدة، أجد نفسي أطرح تساؤلات وأدرك أنني أمتلك الإجابة عنها بالفعل، لأنني قرأت مقالًا بشأن هذا الموضوع في وقتٍ ما خلال العام الماضي.

انتشار الجائحة في ووهان.. حبكة فضفاضة

ونوَّهت الكاتبة إلى أن الفيلم يُقدم حبكة واسعة وفضفاضة حول مشاهد دخول المرضى إلى المستشفيات عند بداية الفيلم ومغادرتهم للمستشفيات عند نهايته. وتبدأ أحداث الفيلم في أقسى أيام الشتاء وفي ذروة الإغلاق، وتنتهي مع حلول فصل الربيع وقد امتلأت شوارع المدينة بالناس من جديد.

وبدأ الفيلم بمشهد عدد من الأطباء الملثمين بالكامل وهم يحاولون التعامل مع المرضى اليائسين الذين لا يتوقفون عن طرق أبوابهم، ولا يجد الأطباء سبيلًا لمعالجتهم سوى بنقلهم إلى المستشفى في مجموعات صغيرة. وفي نهاية الفيلم نشاهد عنابر المستشفيات فارغة من المرضى، بينما تتخلص الفرق الطبية أخيرًا من ملابسهم الواقية التي لم تفارق أجسادهم طوال مدة انتشار الجائحة.

وصحيحٌ أنه من السهل بالنسبة لي أن أشرح لك هذا بعد وقوع الحدث – بحسب الكاتبة – لكنني شعرتُ، وسط كل هذا، بأنني ريشة في مهب الريح تمامًا، أحاول التعرف إلى الوجوه والأسماء، وأحاول تجميع خيوط الفيلم لأخرج منه بحبكة متماسكة. وفي ظل أنوار المستشفى التي أضيئت متوهجة بصورة لم تحدث من قبل، لم يعد للزمن أي قيمة أو معنى.

الفيلم مفكك زمنيًّا

وتستدرك الكاتبة قائلة: ومع أن فيلم «76 يومًا» صوَّر مشاهد متكررة لساعات الحائط، فإنه يبدو مفككًا وغير واضح المعالم من حيث التوقيت والزمن. وكانت الأحداث تمضي في شكل ومضات فوضوية وموجات كبيرة من النشاط وسط تبادل مقتضب للأدوار. وتتمثل إحدى أعظم نقاط القوة في الفيلم في تصويره هذا الخلود الغريب للجائحة.

إنه شعور يبدو لي مألوفًا بصورة مؤلمة وهو الشعور نفسه الذي تحدث آخرون عنه كثيرًا. وهو شعور أستطيع أن أشعر به يسري في جوانحي وأنا أشاهد الأبواب تُفتح وتُغلق. وأنا أشاهد ذلك الرجل الطاعن في السن المصاب بالخِرف وهو يتجول في أروقة المستشفى بلا هدف أو وجهة وهو لا يدري هل جَنَّ عليه الليل أم لا. وتضوي الفوانيس في الشوارع الواسعة الفارغة، وتتراكم الدراجات المهجورة في الأزقة. ويشير التقويم إلى أن الأيام تمضي، لكن لا شيء يتغير حتى تتغير الأمور مرة واحدة ويحل الربيع.

وبينما تشاهد فيلم «76 يومًا»، ستشعر أنه كان مُحددًا ومقيدًا تقريبًا بالتركيز على إبراز ما بُذل من مجهودات شاقة ومرهقة للغاية والخسارة المستمرة في أرواح البشر. أو أن الفيلم، على أقل تقدير، لا يُسهب في سرد روايات البطولة المتفانية أو التضحيات المضنية. وركَّز الفيلم ببساطة على أن هناك مزيدًا من العمل الذي كان يتعين القيام به، وقد أُنجز بالفعل.

بيد أن هناك ثُلة من التفاصيل ما زالت عالقة في ذهني: منها البخار الذي تكثَّف على إحدى النظارات الوقائية، والوجه المبتسم المرسوم على القفازات المنتفخة التي ترتديها الأيادي الممتدة لتثبيت أنابيب التنفس، فضلًا عن أيدي أحد العاملين من الفرق الطبية وهي تمتد إلى سيدة حانيةً عليها وحاجزةً لها والأخيرة تصرخ حزنًا بعد أن رأت جثمان والدها.

وما يلقيه أحد المرضى اليائسين من اتهامات جُزافية غاضبة للفرق الطبية بالتقصير في علاجه، إلى جانب الصندوق الذي يوضع فيه هواتف المرضى الذين فارقوا الحياة. وبدا أن أحد هذه الهواتف، على وجه التحديد، مزود بأزرار كبيرة – ربما يخص شخصًا كبير السن – وكان يرن ويرن ولكن دون مجيب.

شهادة على الأحداث

وأكدَّت الكاتبة أن كلمة «شاهد» هي الكلمة التي تُركِّز عليها، قائلة إنها هي التي تجعلني أجرؤ على القول إن فيلم «76 يومًا» يُقدِّم شهادة على الأحداث، وومضات زمنية من هذه المدة الضبابية الشاقة المرهقة التي استمرت لشهور، ولحظات وجيزة من الإخلاص والتفاني متجسدةً في الأطقم الطبية المتَّشحة بالملابس البلاستيكية الواقية، فضلًا عن تصوير رسومات عبثية من زهور الكرز على ظهر إحدى البدل الطبية الواقية، وقليل من المزاح حول الأطعمة المفضلة وأطباق المأكولات المحلية.

وهناك مشهد آخر يصور أمًّا جديدة (وضعت طفلتها حديثًا) تمكنت أخيرًا من رؤية طفلتها بعد انتهاء مدة الحجر الصحي وقد غمرتها السعادة والسرور لأن المولودة ورثت منها الجفون المزدوجة.

وفي الختام، خلُصت الكاتبة إلى أن الفيلم لا يُقدِّم للمشاهد ولا يمكنه أن يُقدم أي دلالة على المعاناة التي مررنا بها. لكنها رأت أن الفيلم كان صادقًا جدًّا في فعل ذلك.

تقول الكاتبة: وفي النهاية، استطاع الفيلم ببساطة أن يتركني ولديَّ معرفة وإدراك بأن هذا هو ما حدث. وهو ما يحدث الآن في مستشفيات لوس أنجلوس ونورث داكوتا وطوكيو، وما يزال يحدث في كل مكان حول العالم، وربما يكون هذا القدر من المعرفة هو ما يُريده أي شخص من أي فيلم.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي