مسرحية أشبه بلوحات فنية

“زوال المشهد” : وقفة تأملية للحياة بطلها رجل أصيب بإعاقة عقب عملية إرهابية.

2021-02-08

كل شيء في طريقه إلى التلاشيباريس - أبو بكر العيادي - للبلجيكي جان فيليب توسّان روايات تتميز بسرديات بسيطة، ليس للأشخاص والموجودات معنى غير معناها الخاص، وأسلوب يجمع بين الكآبة والسخرية، وعالمه منغلق يكاد ينحصر في التفاصيل الصغرى لأبطاله والفضاء الذي يتحركون فيه.

فاز بعدة جوائز أدبية كجائزة الكاتب الواعد عام 1986 عن روايته “غرفة الاستحمام”، وجائزة ميدسيس الفرنسية عن رواية “هروب” وهي أحد أجزاء رباعيته التي أسماها “حلقة ماري مادلين مارغريت دو مونتال”، والتي نشرها لاحقا في كتاب واحد تحت عنوان “م. م. م. م.”، وقام بإعدادها بنفسه للمسرح، مثلما حوّل بعض رواياته إلى السينما، مثل “سيّدي” و”الإشبيلية” و”غرفة الاستحمام”.

ومن اهتماماته أيضا رياضة كرة القدم، وقد نشر عنها كتابا يجمع بين المقالة والسرد، وكتابا عن نجم الكرة الفرنسية الأسبق زين الدين زيدان بعنوان “كآبة زيدان”. تمّ اختياره عام 2014 عضوا في الأكاديمية الملكية للغة الفرنسية وآدابها في بلجيكا، خلفا للكاتب هنري بوشو.

“زوال المشهد” أو تَواري المنظر الطبيعي رواية لا تختلف كثيرا عن أعماله السابقة، فبطلها رجل مقعد في غرفة ضيّقة ينظر من النافذة إلى عالم لا ينفكّ ينحسر.

وقد عهد توسّان بالمخطوطة إلى صديقه الممثل والمخرج الفرنسي المعروف دوني بوداليداس، الذي قال عنها إنها وقفة تأملية ينضح منها قلق كبير، هو قلقنا المشترك، ولكنه هنا يفقد اسمه وشكله وأبعاده، كلما ازداد، فيبدو إذ ينتشر كأنه يتبخّر، فيغدو عصيّا على الإمساك. والطريف أن توسّان أصرّ على عدم نشر روايته، وكان ألّفها عقب العملية الإرهابية التي ضربت بروكسل عام 2016، إلّا بعد إخراجها للمسرح.

هذه المهمة نهض بها أوريليان بوري، بينما اختار بوداليداس تقمّص دور الشخصية. فقد أحسّ منذ العنوان أن العمل وُضع له، لأنه مسكون بمسألة التواري، التي قال إنه يلاحقه في شتى أعماله، تواري الممثل، وتواري الفضاء…

وبقي السؤال: كيف يمكن عرض سيل من الأفكار والأحاسيس والاستذكار على الخشبة؟ ذلك أن العمل يتجاوز الفضاء ليهتمّ بالمناخ، بالجوّ السائد في غرفة. لأن الكاتب تخيّل بطله في أيامه الأخيرة، ينتظر الموت بعد أن تعرّض لعملية إرهابية، يتأمّل عبر نافذة غرفته شاطئ أوستند، حيث الماء والضوء يرمزان لأصل الحياة، فيما تبدو النافذة، كالمسرح، موضعا ينظر عبره الفرد إلى العالم.

وقد جعل المخرج بطله جالسا أمام نافذة وظهره إلى الجمهور، وطوال العرض يظل المتفرّج ينظر إلى شخص ينظر، كما هي الحال في عدة لوحات فنية.

والمفارقة أن عناصر المنظر الطبيعي تتوارى تدريجيا، بينما تتوارد الأسئلة تباعا حول التواري نفسه، بمعنييه الرمزي، أي الغياب، والملموس أي الموت، كلغز لم يفلح الإنسان في حلّه منذ أن وجد على الأرض، وحقيقة تحدّد سعيه وصيرورته.

جمهور ينظر إلى شخص ينظر

وما يشاهده لا يني يتغيّر ويتحوّل، حيث استقرت حظيرة بناء وبدأت تشيد عمارة تسدّ الأفق تدريجيا. ولكن المنظر ليس خارجيّا فقط، بل داخليٌّ أيضا، حيث يعمد الرجل المقعد كلما انحسر الأفق إلى النظر إلى أعماقه، واسترجاع ما مضى من حياته، وإعمال فكره في معنى وجوده ومعنى إصابته ومعنى فنائه المحتوم.

يقول بطل الرواية “قضّيت نقاهتي في أوستند. ممرضة لا تتكلم الفرنسية (لعلها لا تتكلم إلّا الهولندية) كانت تجيئني كل يوم، فتحملني إلى السرير في المساء، وتساعدني في القيام صباحا. ينتابني إحساس بأن لا وجود لانقطاع في حياتي. مضت الآن ثلاثة أسابيع وأنا جامد في هذا الكرسي المتحرك، والأيام تتوالى متشابهة، أمام نافذة هذه الشقة. كم ستدوم نقاهتي، لا أدري. لا أشعر بالبرد، ولا ينقصني شيء. ليس لي أيّ ذكرى عن الحادث. هل صدمتني سيّارة؟ أم أني وقعت على الأرض؟ وهل وقعت في السلّم؟ أم هو اعتداء؟ لا أدري؟”.

ويسترسل “لا أشعر بالألم، ولا بأوجاع جسدية، ولكن يسكنني ذهول، ذهول لا يريم. لا أتذكّر نفسي، ومن أكون، وبالأحرى من كنت. رغم أن وعيي بالحاضر لم تشُبهُ شائبة، بل إنه صار حادّا منذ الحادث، كأن إلزام مجمل ملكاتي الأخرى جعلني أدرك اللحظة بانتباه مضاعف، مشحوذ، باتر. مع أنّ المشهد هو نفسه الذي يقع عليه نظري منذ ثلاثة أسابيع. التغيرات بسيطة، رهينة ساعات النهار، وتعاقب حركتَي المدّ والجزر، والدورة الثابتة للشمس، التي تشرق خلف العمارة وتغرب في الأفق، ونثيث المطر الذي يغطي صفحة زجاج نافذتي ويحوّلها إلى غربال تتلألأ فيه قطرات دقيقة وضباب”.

كذلك يتحدّث، دون أن يتوجّه إلى الجمهور، لأنه يعيش محاولة لملمة ما تبقى من أفكاره وذكرياته بعد الحادث، والغاية ليست سردها لمن يسمع، بقدر ما هي غوص في أعماق الإنسان حين يصاب بمرض عضال أو حادث مؤلم، يجعل صاحبه ينظر إلى حياته، كما ينظر المرء عبر نافذة، وهي تنقرض يوما بعد يوم إلى أن تتوارى تماما. تلك اللحظات هي لحظات صدق يتقرّى فيها الإنسان ذاته، ويدرك ما لها وما عليها.

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي