تحتل الدراسات الهيجيلية في الفلسفة الحديثة مكانة معتبرة ومتميزة وخاصة في الجامعات الغربية. وفي السنوات الأخيرة، وعلى نحو أكثر تميزا، بدأت الدراسات الثقافية، والسياسية تهتم اهتماما بالغا بفكر الفيلسوف هيجل.
ومن بين المحاولات التي بذلت لاستدعاء هذا الفيلسوف ليساعد على فهم سقوط الأنظمة الشمولية محاولة فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ؟". وفي الآونة الأخيرة أيضا بدأ الاهتمام العربي بفلسفة هيجل يبرز هنا وهناك على أيدي مصطفى صفوان، وناجي العونلي، وإبراهيم فتحي وغيرهم.
أبرز الدارسين المتخصصين في فلسفة هيجل هو الأستاذ ش. س. هارس الذي يعلم الفلسفة بجامعة يورك ببريطانيا. وللتوضيح فإن الفكر العربي المعاصر لا يزال في حاجة إلى إقامة حوار مع فلسفة هيجل بشكل استيعابي ونقدي. وفيما يلي الجزء الأول من نص الأستاذ هارس:
أين وكيف بدأت الدهشة؟
"قد زعم أرسطو بأن الفلسفة تبدأ من الدهشة. فهو قد كان دون شك على صواب، ولكن هذا الزعم ليس نهائيا. فالذي بدأ من الدهشة "قبل انبعاث الفلسفة" هو صنع الأسطورة حول جذور العالم والمخلوقات التي توجد فيه، وخاصة نحن البشر.
قد كانت الفلسفة نمطا جديدا من سرد الحكاية حول هذه الموضوعات. فالأساطير كانت هناك مسبقا، والفلاسفة الأوائل "على الأقل في التقليد الغربي" قد أخذوا بعض افتراضاتها ولكن عدلوا في شكلها.
إنه بسبب اهتمامهم بنظرية نشوء الكون وطبيعته، كان أولئك الفلاسفة الأوائل "نسقيين"، فهم قد بدأوا من مفهوم "الكل"، وحاولوا أن يطوروه باستمرار بالارتباط مع ملاحظاتهم المتشظية الى بعض الأجزاء.
ولكن التأمل الفلسفي العملي حول "كيف ينبغي" علينا أن نعيش في العالم قد بدأ، على الأقل، مبكرا وفي الوقت الذي بدأ فيه هذا التنظير لنشوء الكون وطبيعته، وقد كان أقل "نسقية" لأنه كان منشغلا بإمكانياتنا الإنسانية المحدودة، وبتوقعاتنا. إن بعض مفهوم العالم ككل كان مطلوبا للتأمل الأخلاقي.
ولكن الأسطوري يمكن أن يعمل على نحو تام كإطار لنظرية الفعل. فالفلسفة النقدية يمكن أن تكون قد بدأت مباشرة من الأساطير أيضا، وكان الدافع النقدي بالتأكيد منخرطا في انبعاث التأمل الكوني وربما منخرطا غالبا تقريبا في المناقشات الأخلاقية.
ولكن الفكر النقدي قد وجد مكانه اللائق تقريبا في الطيف الفلسفي كإدراك للهوة الكبيرة الفاصلة بين نظرية الكل وبين التجربة الحقيقية للأجزاء، وفي الوعي المقارن للآراء الأخلاقية غير المتوافقة، والتي ليست بقادرة على أن تهزم، أو تحول، بعضها البعض.
من عملية الفكر النقدي قد نما نوع آخر من التأمل الفلسفي البناء، والذي ندعوه عرفيا بالإمبيريقي "تجريبي"، فالفلاسفة التجريبيون يعملون تدريجيا وغير مكترثين بشأن مفهوم "الكل"، ولكنهم قد قبلوا ببعض سياق الافتراضات المؤسس وهم في حالة بحث عن حل للمشكلات المعينة، أو للصعوبات التي برزت داخل ذلك السياق.
نحن نستطيع أن نقسم على نحو معقول النمط الفلسفي التجريبي إلى فلسفة علمية، وفلسفة الحس المشترك. فالفلسفة العلمية تهدف إلى التنظيم المنطقي، والازدياد المنهجي في المعرفة النظرية التي نشتقها من تجربتنا المتشظية للعالم.
إنها تعيدنا إلى الدافع الكوزمولوجي الأصلي، وذلك بسبب أنها يجب أن تتبنى عن وعي بعض مفهوم العالم ككل. ولكن، الإفتراضات المضادة ممكنة إلى حد ما.
إن مقاربة الحس المشترك لا تقوم مطلقا بأية افتراضات، ولكنها ببساطة تقبل السياق المفهومي الذي يبدو طبيعيا للمشكل الذي سيحل "والذي يمكن أن يكون إما قضية للسلوك العملي للحياة أو مسألة نظرية". إنه من الأهمية بمكان إدراك أن كل هذه التقاليد في البحث الفلسفي قد بقيت جوهريا غير ملموسة من طرف زعم هيجل أنه قد حدد ووجد حلا للمشكل المطلق لتقليدنا الفلسفي.
إن نظريته في المعرفة المطلقة هي تصور لما ينبغي أن تكونه المعرفة الفلسفية. فالبحث يبدأ من المستوى المنطقي الأعلى بدلا من أنماط الفلسفة هذه التي من الدرجة الأولى "أو من الدرجة الثانية كما في حالة الفلسفة النقدية".
إنه يضعها كلها في أماكنها المنطقية في المنظور الخاص بها والأكثر عمومية، ويعرضها كلها باعتدال للنقد الراديكالي من أجل تأسيس الحاجة الى ذلك المنظور الأعلى على نحو منطقي.
لكن النقد لا يبطل أيا منها، وبالعكس فإنه يبررها ويمنحها الصلاحية. بعد أن يكون قد انتهى فإنها تكون جميعا حرة في أن تنطلق أكثر من دي قبل. وإذا اتخذت النقد المنطقي والتوضيح إلى القلب، فإنها ستكون قادرة أفضل على أن لا تقف في طريق أحدهما، وأن تحفظ من الجدل الضائع والعقيم. ولكن فجر "المعرفة المطلقة" لا يمنع مواصلة المعرفة النهائية في أي من أشكالها سواء كانت تجريبية "إمبريقية" أو فلسفية.
مشكل هيجل الفلسفي
لا يختار المفكر الأصيل فلسفته، وإنما تكبر فيه ومن خلال المشكلات التي تبرز تلقائيا في حياته. لا مشكل، ولا حل، يمكن ربما أن يغير "أو يؤثر بجدية على" مدى الانشغالات الجدية التي يمكن أن تشغل مفكرين آخرين. كل تنوعات هذه الفلسفة التي قمت بتعدادها كانت قائمة عندما كان هيجل في المدرسة، وكلها واصلت الازدهار.
فهو قد كان نسبيا مميزا لأنه أراد أن يضعها كلها في أماكنها في نسقه الخاص به. فهو قد كان نمطا جديدا من الفيلسوف النسقي، لأنه لم يكن منشغلا كثيرا بالعالم، انما كان منشغلا بتنوعات تجربتنا به.
إن "معرفته المطلقة" هي الفهم الواضح لما ينبغي أن تكون عليه المعرفة الإنسانية. إن حل هذا المشكل- إذا افترضنا أنه قد حله- لا يؤثر على أي شيء آخر والذي يمكن أن نريد أن نعرفه بخصوص العالم، وفي الأغلب فإنه سيوفر لنا منظورا لإشباع فضولنا.
بطبيعة الحال، اعتقد هيجل أن مشكلته كانت مشكل "المطلق" للفلسفة- المشكل الذي كان الفلاسفة يكافحونه عن وعي تقريبا منذ البداية. فهو قد تحصل على تعليمه العالي من معهد اللاهوت، بعد حصوله على التدريب في الكلاسيكيات في السنوات المبكرة. ولذلك، فهو قد عرف كل ما له صلة بالأساطير ما قبل المسيحية. فالإنجيل المسيحي قد أصبح بالنسبة اليه ميثولوجيا مجتمعه التي كان يجب أن تحول إلى فلسفة. إن معرفتنا بالله كانت المشكل المطلق للفلسفة.
من خلال كانط كان قد أصبح هذا المشكل اللاهوتي مشكلا للمعرفة الإنسانية بشكل عام. لقد نجح كانط في تأسيس المنظور النقدي كحكم لكل ما كان ممكنا في كل أنماط المبحث الفلسفي. من وجهة نظره هذه، يجب علينا أن نقبل مكانتنا النهائية كحد مطلق عند معرفتنا النظرية.
إن المعرفة الفلسفية الأكثر سموا والتي يمكن أن نحققها هي فهم المقولات التي من خلالها نبين تجربتنا المتشظية في عالمنا الذي نشترك فيه كلنا. نحن لا نملك معرفة فيما إذا كان "المطلق" موجودا أم لا. نحن نستطيع أن نوقف الحكم بخصوص هذا، لأن وحدة عالمنا تبرز من بنية وعملية عقولنا المجربة.
ففي علاقتنا ببعضنا البعض، نحن نملك، على كل حال، بعض المعرفة المطلقة لـ"كيف" يجب أن نسلك "أو هكذا اعتقد كانط"، ولذلك فإننا جديرون بأن نصنع بعض المصادرات حول وجود الله وعلاقتنا به. بالنسبة الى "هيجل" هذا التنازل أخذ فيه "الإيمان العقلاني" مكان "المعرفة المطلقة"، وهو مستحيل نظريا، فقد أصبح بالتدريج غير مقبول.
فهو قد قبل من كانط النظرة النقدية، أي يجب أن نبدأ في التحقيق فيما نعرفه فعلا، وكيف ولماذا نعرفه. ولكن هذا قد تسبب في توجيه إنتباهه بشكل متفتح الذهن، وعلى نحو نقدي، إلى مسألة كيف يدخل الإله إلى عالمنا كموضوع فعلي للتجربة.
ما هي معرفة المطلق؟ وماذا يمكن أن يعرف بشكل مطلق؟ قد صارا مسائل نقدية لـ"هيجل". فكانط قد حاجج بأن عدم توافقات الفلاسفة العلميين يبرهن أننا لا نملك عقلانيا المعرفة الحدسية للحقيقة النهائية، ولكن في هذه الحالة لماذا ينبغي أن نفترض أننا نملك الفهم الحدسي لماهية المعرفة على أية حال؟