مفهوم العالم مطلوب للتأمل الأخلاقي - ترجمة: أزراج عمر - (1/2)‏

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-05-20

تحتل الدراسات الهيجيلية في الفلسفة الحديثة مكانة معتبرة ومتميزة وخاصة في الجامعات الغربية. ‏وفي السنوات الأخيرة، وعلى نحو أكثر تميزا، بدأت الدراسات الثقافية، والسياسية تهتم اهتماما ‏بالغا بفكر الفيلسوف هيجل.

ومن بين المحاولات التي بذلت لاستدعاء هذا الفيلسوف ليساعد على ‏فهم سقوط الأنظمة الشمولية محاولة فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ؟". وفي الآونة ‏الأخيرة أيضا بدأ الاهتمام العربي بفلسفة هيجل يبرز هنا وهناك على أيدي مصطفى صفوان، ‏وناجي العونلي، وإبراهيم فتحي وغيرهم.‏

أبرز الدارسين المتخصصين في فلسفة هيجل هو الأستاذ ش. س. هارس الذي يعلم الفلسفة ‏بجامعة يورك ببريطانيا. وللتوضيح فإن الفكر العربي المعاصر لا يزال في حاجة إلى إقامة حوار ‏مع فلسفة هيجل بشكل استيعابي ونقدي. وفيما يلي الجزء الأول من نص الأستاذ هارس:‏
أين وكيف بدأت الدهشة؟

‏"قد زعم أرسطو بأن الفلسفة تبدأ من الدهشة. فهو قد كان دون شك على صواب، ولكن هذا ‏الزعم ليس نهائيا. فالذي بدأ من الدهشة "قبل انبعاث الفلسفة" هو صنع الأسطورة حول جذور ‏العالم والمخلوقات التي توجد فيه، وخاصة نحن البشر.

قد كانت الفلسفة نمطا جديدا من سرد ‏الحكاية حول هذه الموضوعات. فالأساطير كانت هناك مسبقا، والفلاسفة الأوائل "على الأقل في ‏التقليد الغربي" قد أخذوا بعض افتراضاتها ولكن عدلوا في شكلها.‏

إنه بسبب اهتمامهم بنظرية نشوء الكون وطبيعته، كان أولئك الفلاسفة الأوائل "نسقيين"، فهم قد ‏بدأوا من مفهوم "الكل"، وحاولوا أن يطوروه باستمرار بالارتباط مع ملاحظاتهم المتشظية الى ‏بعض الأجزاء.

ولكن التأمل الفلسفي العملي حول "كيف ينبغي" علينا أن نعيش في العالم قد بدأ، ‏على الأقل، مبكرا وفي الوقت الذي بدأ فيه هذا التنظير لنشوء الكون وطبيعته، وقد كان أقل ‏‏"نسقية" لأنه كان منشغلا بإمكانياتنا الإنسانية المحدودة، وبتوقعاتنا. إن بعض مفهوم العالم ككل ‏كان مطلوبا للتأمل الأخلاقي.

ولكن الأسطوري يمكن أن يعمل على نحو تام كإطار لنظرية الفعل. ‏فالفلسفة النقدية يمكن أن تكون قد بدأت مباشرة من الأساطير أيضا، وكان الدافع النقدي بالتأكيد ‏منخرطا في انبعاث التأمل الكوني وربما منخرطا غالبا تقريبا في المناقشات الأخلاقية.

ولكن الفكر ‏النقدي قد وجد مكانه اللائق تقريبا في الطيف الفلسفي كإدراك للهوة الكبيرة الفاصلة بين نظرية ‏الكل وبين التجربة الحقيقية للأجزاء، وفي الوعي المقارن للآراء الأخلاقية غير المتوافقة، والتي ‏ليست بقادرة على أن تهزم، أو تحول، بعضها البعض.‏

من عملية الفكر النقدي قد نما نوع آخر من التأمل الفلسفي البناء، والذي ندعوه عرفيا بالإمبيريقي ‏‏"تجريبي"، فالفلاسفة التجريبيون يعملون تدريجيا وغير مكترثين بشأن مفهوم "الكل"، ولكنهم قد ‏قبلوا ببعض سياق الافتراضات المؤسس وهم في حالة بحث عن حل للمشكلات المعينة، أو ‏للصعوبات التي برزت داخل ذلك السياق.‏

نحن نستطيع أن نقسم على نحو معقول النمط الفلسفي التجريبي إلى فلسفة علمية، وفلسفة الحس ‏المشترك. فالفلسفة العلمية تهدف إلى التنظيم المنطقي، والازدياد المنهجي في المعرفة النظرية ‏التي نشتقها من تجربتنا المتشظية للعالم.

إنها تعيدنا إلى الدافع الكوزمولوجي الأصلي، وذلك ‏بسبب أنها يجب أن تتبنى عن وعي بعض مفهوم العالم ككل. ولكن، الإفتراضات المضادة ممكنة ‏إلى حد ما.‏

إن مقاربة الحس المشترك لا تقوم مطلقا بأية افتراضات، ولكنها ببساطة تقبل السياق المفهومي ‏الذي يبدو طبيعيا للمشكل الذي سيحل "والذي يمكن أن يكون إما قضية للسلوك العملي للحياة أو ‏مسألة نظرية". إنه من الأهمية بمكان إدراك أن كل هذه التقاليد في البحث الفلسفي قد بقيت ‏جوهريا غير ملموسة من طرف زعم هيجل أنه قد حدد ووجد حلا للمشكل المطلق لتقليدنا ‏الفلسفي.‏

إن نظريته في المعرفة المطلقة هي تصور لما ينبغي أن تكونه المعرفة الفلسفية. فالبحث يبدأ من ‏المستوى المنطقي الأعلى بدلا من أنماط الفلسفة هذه التي من الدرجة الأولى "أو من الدرجة ‏الثانية كما في حالة الفلسفة النقدية".

إنه يضعها كلها في أماكنها المنطقية في المنظور الخاص بها ‏والأكثر عمومية، ويعرضها كلها باعتدال للنقد الراديكالي من أجل تأسيس الحاجة الى ذلك ‏المنظور الأعلى على نحو منطقي.‏

لكن النقد لا يبطل أيا منها، وبالعكس فإنه يبررها ويمنحها الصلاحية. بعد أن يكون قد انتهى فإنها ‏تكون جميعا حرة في أن تنطلق أكثر من دي قبل. وإذا اتخذت النقد المنطقي والتوضيح إلى القلب، ‏فإنها ستكون قادرة أفضل على أن لا تقف في طريق أحدهما، وأن تحفظ من الجدل الضائع ‏والعقيم. ولكن فجر "المعرفة المطلقة" لا يمنع مواصلة المعرفة النهائية في أي من أشكالها سواء ‏كانت تجريبية "إمبريقية" أو فلسفية.‏

مشكل هيجل الفلسفي
لا يختار المفكر الأصيل فلسفته، وإنما تكبر فيه ومن خلال المشكلات التي تبرز تلقائيا في حياته. ‏لا مشكل، ولا حل، يمكن ربما أن يغير "أو يؤثر بجدية على" مدى الانشغالات الجدية التي يمكن ‏أن تشغل مفكرين آخرين. كل تنوعات هذه الفلسفة التي قمت بتعدادها كانت قائمة عندما كان ‏هيجل في المدرسة، وكلها واصلت الازدهار.

فهو قد كان نسبيا مميزا لأنه أراد أن يضعها كلها ‏في أماكنها في نسقه الخاص به. فهو قد كان نمطا جديدا من الفيلسوف النسقي، لأنه لم يكن ‏منشغلا كثيرا بالعالم، انما كان منشغلا بتنوعات تجربتنا به.

إن "معرفته المطلقة" هي الفهم ‏الواضح لما ينبغي أن تكون عليه المعرفة الإنسانية. إن حل هذا المشكل- إذا افترضنا أنه قد ‏حله- لا يؤثر على أي شيء آخر والذي يمكن أن نريد أن نعرفه بخصوص العالم، وفي الأغلب ‏فإنه سيوفر لنا منظورا لإشباع فضولنا.‏

بطبيعة الحال، اعتقد هيجل أن مشكلته كانت مشكل "المطلق" للفلسفة- المشكل الذي كان الفلاسفة ‏يكافحونه عن وعي تقريبا منذ البداية. فهو قد تحصل على تعليمه العالي من معهد اللاهوت، بعد ‏حصوله على التدريب في الكلاسيكيات في السنوات المبكرة. ولذلك، فهو قد عرف كل ما له صلة ‏بالأساطير ما قبل المسيحية. فالإنجيل المسيحي قد أصبح بالنسبة اليه ميثولوجيا مجتمعه التي كان ‏يجب أن تحول إلى فلسفة. إن معرفتنا بالله كانت المشكل المطلق للفلسفة.‏

من خلال كانط كان قد أصبح هذا المشكل اللاهوتي مشكلا للمعرفة الإنسانية بشكل عام. لقد نجح ‏كانط في تأسيس المنظور النقدي كحكم لكل ما كان ممكنا في كل أنماط المبحث الفلسفي. من ‏وجهة نظره هذه، يجب علينا أن نقبل مكانتنا النهائية كحد مطلق عند معرفتنا النظرية.‏

إن المعرفة الفلسفية الأكثر سموا والتي يمكن أن نحققها هي فهم المقولات التي من خلالها نبين ‏تجربتنا المتشظية في عالمنا الذي نشترك فيه كلنا. نحن لا نملك معرفة فيما إذا كان "المطلق" ‏موجودا أم لا. نحن نستطيع أن نوقف الحكم بخصوص هذا، لأن وحدة عالمنا تبرز من بنية ‏وعملية عقولنا المجربة.‏

ففي علاقتنا ببعضنا البعض، نحن نملك، على كل حال، بعض المعرفة المطلقة لـ"كيف" يجب ‏أن نسلك "أو هكذا اعتقد كانط"، ولذلك فإننا جديرون بأن نصنع بعض المصادرات حول وجود الله ‏وعلاقتنا به. بالنسبة الى "هيجل" هذا التنازل أخذ فيه "الإيمان العقلاني" مكان "المعرفة ‏المطلقة"، وهو مستحيل نظريا، فقد أصبح بالتدريج غير مقبول.

فهو قد قبل من كانط النظرة ‏النقدية، أي يجب أن نبدأ في التحقيق فيما نعرفه فعلا، وكيف ولماذا نعرفه. ولكن هذا قد تسبب في ‏توجيه إنتباهه بشكل متفتح الذهن، وعلى نحو نقدي، إلى مسألة كيف يدخل الإله إلى عالمنا ‏كموضوع فعلي للتجربة.‏

ما هي معرفة المطلق؟ وماذا يمكن أن يعرف بشكل مطلق؟ قد صارا مسائل نقدية لـ"هيجل". ‏فكانط قد حاجج بأن عدم توافقات الفلاسفة العلميين يبرهن أننا لا نملك عقلانيا المعرفة الحدسية ‏للحقيقة النهائية، ولكن في هذه الحالة لماذا ينبغي أن نفترض أننا نملك الفهم الحدسي لماهية ‏المعرفة على أية حال؟

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي