مراجعات في كوميديا دانتي

2021-01-15

تمثال دانتي (أرشيفية)د. عز الدين عناية

عبْر كتاب «دانتي والإسلام» الصادر عن «دار ستوديوم» (روما 2019)، ومن بوابة الترجمة بين العربية واللاتينية، يُعيدنا المفكر الإيطالي ماسيمو كامبانيني، الراحل عن دنيانا في التاسع من أكتوبر الفائت عن عمر يناهز الرابعة والسبعين، إلى موضوع دانتي والموروث الإسلامي، من خلال استنتاجات مثيرة. يَستعرض كامبانيني في كتابه قائمة من المترجمين المشتغلين في طليطلة لنقل عيون المصنفات العربية والمترجَمة إلى العربية نحو اللاتينية. يَذكر على سبيل المثال دومينيكو غونديسالفي، ودانيال دي مورلاي، وهرمان الكارينثي، وجيراردو الكريموني، ولعلّ هذا الأخير، كما يتبيّن، أغزرهم إنتاجاً لتمحور اشتغاله حول نقل أعمال أفلاطون وبطليموس وإقليدس وأرسطو.
فما من شك أن الفترة المتراوحة بين سنوات 1120 و1160م قد عرفت ازدهار الترجمة من العربية إلى اللاتينية، وقد تركزت بالأساس على علوم الفلك والتنجيم والكونيات. شهدت الموجة تحول هرمان الكارينثي إلى الأندلس بحثاً عن «كتاب المجسطي» لبطليموس، على إثر رواج صدى شروحات أَلْباتينيوس (محمد بن جابر بن سنان البتّاني) وأَلْفَراغانوس (أحمد بن كثير الفرغاني). ولم تُغر فترة الإشعاع الأندلسي الرحالة والكتّاب والمترجمين فحسب، بل سبق أن أغوت رجال الدين أيضاً. الراهب جربرت دي أوريللاك، الذي سيعتلي السدة البابوية في مرحلة لاحقة (999 - 1003م) وسيغدو البابا سلفستر الثاني، كان من ضمن الوفود التي تردّدت على مجالس المسلمين في الأندلس. فقد كان العرب في تلك الفترة بمثابة القائمين على حفظ الذاكرة الإنسانية.
ما أراد ماسيمو كامبانيني قوله من خلال التطرق إلى موضوع الترجمة، بشأن دانتي أليغييري (1265 - 1321م)، أنّ الكوسمولوجيا الدانتية مستوحاة من فلسفة التصوّر الإسلامي للوجود الواردة عبر الترجمات. صحيح لم يَزر دانتي بلاد المسلمين، كما تكشف سيرته، ولم تطأ قدماه أرض صقلية في عهد النورمان، ولكن الرجل كان على إلمام بالأوضاع الثقافية التعددية إبّان حكم الإمبراطور فريدريك الثاني، ولعل ذلك ما حدا به إلى حشره ضمن الهراطقة في الكوميديا.
فليست المسألة، مع كامبانيني، في ما استوحاه دانتي من تصوّر أنطولوجي، وهو ما لا يخفى سوى عن غافل أو جاحد، ولكن في تفسير جذور الموقف السلبي من الإسلام واليهودية على حدّ سواء. يرى كامبانيني أنّ دانتي ليس بوسعه أن يخرج عن إطار عصره، المحكوم بالموقف المهرطِق للإسلام من قِبل الكنيسة. وأن أي كاتب عمومي، بمفهومنا الحديث، هو عرضة لتقريع محاكم التفتيش ما حاد عن السياق العام، ولذلك من الطبيعي أن يظلّ دانتي حذراً من كلّ ما لا يمتّ بصلة للتصور اللاهوتي المسيحي. ففي ثلاثية دانتي الرئيسة: «المأدبة» و«الكوميديا الإلهية» و«المملكة» ثمّة حضور بارز للتصور الكوني الإسلامي، ولكن هذا الحضور يأتي محوَّراً ومكيَّفاً وفق المنظور اللاهوتي المسيحي. بل يعتبر كامبانيني أنّ معلومات دانتي عن التصورات الكونية الإسلامية، هي متأتية أساساً من الإرث المعرفي لجامعتيْ بولونيا وفلورنسا، فضلاً عن استقاء معلومات إضافية إبّان الرحلة إلى باريس.
يذهب كامبانيني بعيداً في تحديد معالم البناء الكوسمولوجي الدانتي، معتبراً ذلك المنظور مستوحى رأساً من الاطّلاع على أعمال ابن سينا والفارابي وابن رشد المنقولة إلى اللاتينية. في مقابل ذلك يخلص كامبانيني إلى محدودية اطّلاع دانتي على البناء العَقَدي الفقهي، وأنّ ما كان يغريه أساساً هو البعد التصوري للوجود والمعاد. ومن هذا المأتى لم يغو صاحب الكوميديا النسق التشريعيّ، بل البعد الأنطولوجي، وذلك لطبيعة تكوينه كشاعر وصاحب رؤية لاهوتية في الوجود. كان العقل الدانتي يميّز بين البعد الديني الصرف والبعد العقلي في المعرفة، وعلى هذا الأساس بوّأَ ابن رشد موضعاً مكرَّماً في البرزخ بين عظماء البشرية، واحتفظ لِما دونه من رموز التصور الديني بمكان في الجحيم. وعلى ما يخلص إليه كامبانيني، كان دانتي انتقائياً في تعامله مع التصور الوجودي الإسلامي. فما من شك أنّ الرجل كان على دراية بتفاصيل قصة الإسراء والمعراج، واطلاع على «كتاب المعراج» للقشيري، الذي أمر ملك قشتالة ألفونس العاشر، سنة 1264م، بترجمته، فالتقابس جليّ بين الرجلين.
لكن كيف يفسّر ماسيمو كامبانيني التغاضي اللاحق، الحاصل في المخيال الإيطالي، عن استلهام دانتي مقولة من مرجعية دينية خارجية، وعدم أخذ الأمر على محمل الجد، بل يحضر في مقابل ذلك كلفٌ بالعبقرية الدانتية ترفعه إلى مقامٍ عليّ؟ ثمة وقائع مهمّة يجليها كامبانيني تتمثّل في طغيان هواجس «الإسقاط» و«التناسي» و«التغافل» في الفلسفة الغربية، عن البعد العربي في المكونات العميقة للفكر الغربي. وهي بمثابة قطيعة رسّختها الرؤية الوسيطة منذ الحروب الصليبية، بما خلّفته من تمايز بين الشرق والغرب. ما يماثل التعميد التطهري بقصد التملّص من أية جذور تربط الفكر الأوروبي بالموروث الديني المناوئ، سواء تأتّى ذلك من الأندلس، أو صقلية، أو ما اكتملت دعائمه لاحقاً مع الحقبة العثمانية. فقد جرى نفيُ التواصل الفعلي وطمس التراث المشترك بين الحضارة العربية والحضارة الغربية بقوة، على مستوى سياسي وعلى مستوى معرفي. يتساءل الكاتب الأميركي ريتشارد و. بوليي، أستاذ التاريخ الإسلامي، في كتاب «الحضارة الإسلامية المسيحية» (لاتيرسا، روما 2005): كيف يمكن نفي وحدة التراث المسيحيّ الإسلاميّ وأربع عشرة دولة من جملة أربع وثلاثين تشكّل الفضاء الجغرافيّ الأوروبيّ اليوم، كانت جزئيّاً أو كليّاً يسيّرها مسلمون لفترة لا تقلّ عن قرن؟
من جانب آخر، يذهب كامبانيني إلى أن أسْطَرة الإبداع الدانتي في إيطاليا الحديثة يأتي حرصاً على إيجاد عنصر فاعل تنهل منه الثقافة الجامعة وتلتفّ حوله الشخصية الإيطالية. لم ينحصر الأمر بنسبة اللغة الإيطالية إلى دانتي، على ما في ذلك من مبالغة وشطط، ولكن بالبحث عن أصول للثقافة المشتركة مستوحاة من دانتي. بالفعل، يضعنا كتاب ماسيمو كامبانيني أمام إعادة اكتشاف لصاحب الكوميديا، وأمام محاولة جريئة في نزع الأسْطرة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي