ثلاثية شوبنهاور للحياة والناس.. هل ثمة فن للعيش الحكيم؟

2020-12-19

ينطلق الكاتب من منطقة التحرر من الارتهانات بأنواعها، والسعى وراء الحقيقة في ذاتها

حجاج نصار*

قِيل عن ثرفانتس إنه كتب عمله الخالد «دون كيخوتة» في سجن مزر، وكشف الياباني ياسوناري كاواباتا (1899 -1972) معنى الحياة من وقوفه على الخيط الرفيع بين الموت والحياة في العجوز إيغوشي وتأمله للجميلات النائمات.

فكيف لإنسان يعيش في وسط من الآلام والمعاناة والبؤس، أن يحول العالم وأحداثه وحياته الشاقة إلى رمزية جمالية عابرة للزمان والمكان؟ فثمة نموذج إذن أو نسق ذاتى قائم خلف إنتاج هذا الجمال الخالد الذي يصهر كل عبث العالم في مادة شجية لتأمل الحياة كلها، وإن كان هذا المبدأ يظهر متجسدا في الأعمال الأدبية أو الفكرية الخالدة، التي أنتجها هؤلاء وغيرهم، فإنه ينْظم أحداث الحياة الواقعية وحياة الناس فيها بشكل رئيسي.

وعلى مشارف هذه الظاهرة يأتي كتاب «فن العيش الحكيم.. تأملات في الحياة والناس» لشوبنهاور، ترجمة عبدالله زارو، الذي ينطلق كاتبه من منطقة التحرر من الارتهانات بأنواعها، والسعى وراء الحقيقة في ذاتها، فهو تمثل شوبنهاور للعالم والحياة، وإنزال فلسفته إلى الأرض، وتفعيل آثارها في منطقة مشتركة بين الجميع، وهي ميدان الحياة والإنسان كفاعل أوحد فيها، فيتأسس «فن العيش الحكيم» على أن مركزية تحويل الواقع هي الكينونة باعتبارها المدار الجواني، أو النواة التي تدرك كل شيء خارجها، وتتحدد حساسيتها وإرادتها على هذا الوعي، ومن ثم فإن سعادة الإنسان أو شقاءه أصبح رهنا لكينونته.

 فيؤكد أنه إذا كان الواقع الخارجي ناجزا ومطابقا لذاتيته، فالذات المدركة يتوقف عليها تحويل هذا الواقع إلى واقع مأساوي، أو إلى واقع جميل، فنشاهد في ذلك عملية إعادة إنتاج الموضوعي، من خلال ممكنات الذاتي، فالجو المعتدل والمشرق، وهو الجزء الموضوعي من الواقع، إذا مرّ على ذات متبلدة وسطحية فسيتحول إلى منظر جميل في وضع مناخي سيئ، أو مُشاهد من غرفة قاتمة، في مركز الذات، باعتبارها الأساس وموازينها تختلف من شخص لآخر، حتى لو جمعهم الوسط نفسه، فهي التي تحدد تأثيرات الخارج فيها.

ويتأسس ذلك على ثلاثية تُحكّم بنية هذه الفكرة الشاملة، وهي الكينونة والحيازة والتمثلات، وتتعاضد هذه الثلاثية في كلٍ مترابط وفق شروط النسق الفكري، الذي وضعه شوبنهاور في كتابه «العالم إرادة وتمثل» من الترابط العضوي والوحدة وكلية الفكرة.

ويمكن وصفه بأنه نسق من العمق والشمول بمكان، يتصل بحد نيتشه لعظمة شوبنهاور في «أنه وضع لوحة الحياة بكمالها، لكي يفسرها كاملة» وهو تحرر من إشكالية الفيل والعميان، التي تربك التخصص بشكل عام، ويتعالق ذلك مع رسم خريطة كلية كنموذج للعالم، كشرط لتدشين رحلة لبلوغ هدف ما، مقابل الإرباك والتيه في غياب الصورة الكبرى للحياة والوجود.

ومن هنا يقرر شوبنهاور أن الحياة البشرية محكومة عموما بهذا المثلث، فيُقيمه على تقسيم أرسطو للخيرات، إلى مادية وبدنية ومعنوية، وهو بمثابة المادة الخام أمام الإنسان، ومن ثم فالحياة البشرية محكومة بهذه الثلاثية، وهي الكينونة، أي «ما نحن إياه» ولها صلة بشخصية الإنسان بمعناها الشامل، والملكية وهي «ما نملكه من أشياء» والتمثلات هي ما «نمثله في أعين الآخرين وموازينهم، أو الطريقة التي يتمثلنا بها الآخرون» فتقوم الكينونة بالدور المركزي في تحويل العالم الخارجي، وتمثله وإعادة إنتاجه، إما إلى مادة تغذي الذات وما جبلت عليه من قدرات ذاتية، أو تعمل على استنفاذه، وطريق الكينونة هو الوعي، الذي يتوقف عليه ما عداه بما في ذلك الصور التي يتمثلها الإنسان من خلاله.

فيضع اللوحة الكلية للحياة البشرية في صورة التأرجح بين الألم والملل، فالألم يتأتى من الحاجة، والملل يتأتى من الرفاه، وكلما اقترب الإنسان من الأول يبتعد عن الثاني والعكس، فيقرر شوبنهاور أنه لا علاج لهذا البؤس إلا الثراء الداخلي، وعملية التوفيق المستمرة بين الذاتي والموضوعي، في تواز مع قول أرسطو «إن غاية الحكيم ليست حياة مترعة باللذة، بل خالية من الألم».

كمن أهمية هذه الثلاثية في رفدها الإنسان بوسيلة لحمايته من العبث المتراكم في عالم اليوم، الذي يتآكل فيه الفرد لصالح الكيانات الكبرى، وأن افتقاد التوازن في هذه الثلاثية، سيؤدي إلى خلل كبير ستكون عواقبه على الإنسان بالأساس.

 

كمن أهمية هذه الثلاثية في رفدها الإنسان بوسيلة لحمايته من العبث المتراكم في عالم اليوم، الذي يتآكل فيه الفرد لصالح الكيانات الكبرى، وأن افتقاد التوازن في هذه الثلاثية، سيؤدي إلى خلل كبير ستكون عواقبه على الإنسان بالأساس.

وتمثل الكينونة نقطة الارتكاز الأساسية في هذه المنظومة، لأنها هي التي تحدث المفارقة، فيحددها بأنها كل ما له صلة بشخصية الإنسان بمعناها الشامل، وتشمل الصحة والقوة والجمال، والمزاج والطبع الأخلاقي والذكاء، والاختلافات على هذا المستوى هي التي تشكل الاختلافات بين الأفراد بصفتهم أفرادا، وتأثيرها حاسم في سعادة الإنسان أو تعاسته، مقارنة بالمستوي الثانى والثالث، ويرجع شوبنهاور هذه الاختلافات في وعي الإنسان لحدث ما، إلى أن كل واقع أي كل حدث ناجز يتشكل من شقين، الذات والموضوع اللذين يتساويان في الأهمية، ويمتزجان امتزاج الأوكسجين بالهيدورجين في الماء، فإذا كان الموضوعي مطابقا دائما لذاته، فإن الذاتي مباين ويأتي دوما على نحو مختلف، وطبيعي أن يكون الواقع الذي يتمثله مختلفا.

 وذلك ما يفسر الاختلاف بين معايير ثرفانتيس لتمثل أحداث حياته وإخراج زهرتها الجميلة، ومعايير غيره، فثمة فرق بين أن يقع مركز جاذبية الإنسان داخله أو أن يقع خارجه.

 وعلى الرغم من أن شوبنهاور يرجع السعادة إلى عوامل أساسية مثل الطبع المرح والصحة، لكنه يوقفها على التمثل كشرط أساسي، فهناك الجيد الصحة ذو المزاج السوداوي الذي يُقبل على الانتحار، فتصبح هذه العوامـــل رئيســـية للســـعادة، لكن تأثيــــرها غير مباشر، فيبقــــى التأثيـــــر متوقفــــا على الإنسان وممكنات كينونته وتمثله للموضوعي من الواقع.

ويمثل وقت الفراغ أهمية كبيرة في «فن العيش الحكيم» على أساس أنه ثمرة الوجود بصفتنا أفرادا، وهو الثروة الحقيقية التي يمتلكها الإنسان. فإذا جاز اختزال الإنسان فإننا سنختزله إلى زمن؛ فحقيقة هو لا يملك سواه، وحياته هي عملية تبادل مستمر له حتى نهايتها. ومن هنا فوقت الفراغ ؛ وقت خارج إطار الزمن العادي وسلسلته المربوط بها أغلب البشر، وهذا ما عبر عنه أرسطو «أن السعادة تنال في أوقات الفراغ» فيمكن القول بأن أعظم إنتاج هو ما يأتي متحررا من أي ارتهانات.

وأسوأ إنتاج هو ما يأتي في مدار مقولة «أغني أغنية من آكل خبزه»

وإجمالا تكمن أهمية هذه الثلاثية في رفدها الإنسان بوسيلة لحمايته من العبث المتراكم في عالم اليوم، الذي يتآكل فيه الفرد لصالح الكيانات الكبرى، وأن افتقاد التوازن في هذه الثلاثية، سيؤدي إلى خلل كبير ستكون عواقبه على الإنسان بالأساس، فالإفراط في فكرة التملك كغاية يحول الإنسان إلى أداة لاستهلاكه، والرغبة في آراء الناس وتقديراتهم وجعل الإنسان من نفسه جهاز استشعار عالي الدقة لكل ما يقال عنه، يجعله عرضة لعبودية هذه الآراء وإدمانها، وهي دلالة النضوب الداخلي للمصدر الأساسي للتقدير والتحرك، واستيعاب العالم، وهي الكينونة، فيجب أن تصب هذه العلاقة العضوية في خدمة الكينونة وتنميتها، في ما جبلت عليه من قدرات ذاتية.

ويبقى أن نقول إن أهمية هذا التقسيم الثلاثي الذي قدمه شوبنهاور، تمتد إلى سياقات أوسع، وتشمل مجموعات إنسانية أكبر مثل العائلة والمجتمع والدول وغيرها، فإن مجتمعا ما يعمل على هذه الثلاثية هو مجتمع في الطريق الصحيح للإمساك بشروط الحياة وإمكاناتها، فالبشر هم كينونة المجتمعات، ومواردهم هي ما يملكون، والعلاقات مع الآخرين ومعاييرهم هي التمثلات، وفعالية ذلك تقوم على الإنسان ورحلته في الحياة، فالعالم سيبقى «إرادة وتمثلا.

 

  • كاتب مصري

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي