الرمزيـة السياسيـة والتاريخيـة لألـوان الأحـزاب اللبنانيـة

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-04-26
اللوحة للفرنسي إدوارد مانيه (١٨٣٢ ـ ١٨٨٣)

منيرة ابي زيد

اللون لغة عالمية تفهمها كل الشعوب. ربّما لهذا السبب، اعتمدت الأحزاب اللبنانية الألوان شعاراً لها قبل الكلمة. أزرق، أصفر، برتقالي... ألوان متعددة تحاكي خيالنا يومياً. لماذا تمّ اختيارها؟ وبماذا توحي للمواطن؟ الأجوبة متعددة. وهي ترتكز على تفسيرات علماء النفس والاجتماع والسياسة الذين يحاولون تحليل عناصر القوس القزح اللبناني.

تتكوّن المخيّلة الجماعية من أشكال وألوان مختلفة نراها في حياتنا اليومية. صور على الطرق، مشاهد على شاشات التلفزيون، خُطب سياسية، مظاهرات، ممثلات سينمائية... تتراكم كلها في مخيلة المواطن اللبناني وتتمازج مع لاوعيه الفردي الذي يتألّف من أحداث وانفعالات نابعة من حياته الخاصة؛ شجار مع الأصدقاء، فصل الخريف، أمومة، موضة، شعر، طفل يبكي على الرصيف... تختلط كل هذه الصور الفردية والجماعية لتنتج علاقة متحرّكة بين خيال الإنسان ومحيطه. كل صحافي، ناشط سياسي، فنان أو مجرّد مواطن يحاور صديقه في مقهى يشارك في تشكيل هذه المخيّلة الجماعية. إنما، من ضمن هذه الحركة المستمرة تترسّخ بعض الثوابت وتأخذ شكلاً نهائياً طيلة حقبة تاريخية معيّنة فتصبح رموزاً. إذاً، الرمز، الذي قد يكون لونا، كائنا بشريا، حيوانا أو تحفة فنية، هو أحدى أشكال الثبات في حركة الخيال الجماعية المستمرة.

الألوان هي جزء من عناصر هذه المخيّلة الجماعية، وهي تتميّز ببساطتها وبكونها لغة كونية لا ترتبط بشعب أو ثقافة معيّنة. إنما الألوان محيّرة، تختلف عن الكلمة بكونها لا تحصر المعنى في مجال ضيّق ونهائي. لكل كلمة معنى واحد، أما اللون فيتمتع باحتمالات عديدة وحيّز واسع من التفسيرات والتأويلات. قد تتبدّل رمزية اللون وتتغيّر تبعاً للظروف، وقد تكتسب بعداً ثقافياً، سياسياً، اجتماعياً أو دينياً. كما يجدر التوضيح أن تفسير معنى الألوان قد يختلف من مؤرّخ لآخر ومن عالم اجتماع لآخر أو حتى من مواطن لآخر. بالفعل، يمكن لبعض الألوان أن ترتبط في مخيّلة الفرد بحادث شخصي أو بذكريات لا تمت بصلة الى الحالة الجماعية. ولكن لا يمكننا أن ننكر بعض الثوابت على مستوى رمزية الألوان التي ترسّخت في المخيلة الجماعية في الفترة الحالية. فهل يمكن فصل اللون الأزرق من الآن وصاعداً عن الطائفة السنية في لبنان أو عن زعيمها الشهيد رفيق الحريري في المخيلة الجماعية؟ والأصفر؟ والبرتقالي؟ بلا شك، تقترن كل هذه الألوان بأحزاب وحركات وتغيّرات تجري يومياً على الساحة اللبنانية وهي تختلط مع أحلام الأفراد وأحزانهم ومشاكلهم فتنتج مزيجاً عجيباً، وهو ما يسمى بالحالة الإنسانية في لحظة تاريخية معيّنة. لا تختار الأحزاب والتيارات ألوانها بالصدفة. بالفعل، يدرس القيمون على وضع الشعارات الناحية النفسية لدى المواطن بهدف التأثير عميقاً على اللاوعي الجماعي والفردي. فمثلاً، يشير الجمع بين الأصفر والأسود الى محاولة المزج بين الحداد والسلام، أي الشهادة وصولاً الى السلام. هل تبلغ هذه الأحزاب هدفها بهذه الطريقة؟ وهل تنجح دائماً في التأثير على اللاوعي والخيال الفردي؟

يقول الطالب الجامعي طوني: »الأزرق لون السلام، لم يشارك تيار المستقبل في الحرب اللبنانية. فجاء لونه ليرمز الى نزعته السلمية. الأزرق لون السماء... ولون ذكرى الشهيد رفيق الحريري«. أما الطفلة الصغيرة سلوى فتتمتم بكل بساطة: »الأزرق لون ثوب أمي، البحر أزرق... البحر الأزرق المتوسط«. إنما، في الحقيقة، اختار تيّار المستقبل الأزرق شعاراً له لأنه يرمز الى الأفق، أي الآتي، بعكس العودة الى الوراء. قد يكون الهدف من اختيار هذا اللون هو التعبير عن رغبة في التطوّر والنهوض بلبنان نحو مستقبل مزدهر. بحسب بعض المحلّلين السياسيين، يهدف اعتماد اللون الأزرق شعاراً الى الفصل بين مرحلة وأخرى، بما أن هذا اللون يدل الى الانقطاع عن مرحلة ماضية والانطلاق الى مرحلة جديدة، وهم يضيفون أن اللونين الأزرق والبرتقالي يرمزان الى مدخل جديد في المنطقة، ممّا يدل الى التوجه نحو فتح آفاق سياسية جديدة، بعكس الألوان المؤثرة كالأخضر، الأصفر والأسود التي تعود بنا الى الماضي.
في الديانة المسيحية، الأزرق هو لون رداء السيدة العذراء، بعكس اللون الأحمر الفاقع والمثير الخاص بثياب العاهرات. في هذا السياق، الأزرق رمز النقاوة والعفّة والطهارة. إنما، ليست السيدة العذراء زرقاء على الدوام، إذ أن العذراء السوداء غالباً ما تبرز في الديانة الكاثوليكية فترتبط بمريم المجدلية التي تتناقض مع صورة العذراء البيضاء المليئة بالنور.

وفي القرون الوسطى المسيحية، استُبدلت كلمة الله بأزرق، ولها الوزن السمعي نفسه في اللغة الفرنسية. فبرزت عبارة »دم أزرق« محل عبارة »باسم دماء الله« في عبارة »parbleu«، فباتت كلمة أزرق تُستخدم لتلطيف الهجاء. بالنسبة لديانة الهندوس التيبيتية، الأزرق هو لون الحكمة والرقي الروحي الذي يرقى الى فراغ السماء الواسعة. وبالفعل، بالنسبة للعالم الأنتروبولوجي جيلبار دوران، الأزرق هو أكثر الألوان عمقاً، يغرق فيه النظر دون أن يلقى عائقاً فيغوص في مساحة لامتناهية. الأزرق هو أكثر الألوان لاماديةً، يكاد يلامس البياض أو الشفافية في بعض اللوحات الفنية. المشهد الأزرق لا يستفز، لا يثير التهييج العاطفي بعكس المشهد الذي يطغى عليه اللون الأحمر المليء بالإثارة كما نشهد في معظم الأفلام الإباحية. في هذا السياق الرمزي، يشير علم النفس الحديث الى أن اللون الأزرق يخلق جواً من الراحة والاسترخاء. لذلك، ينصح العديد من علماء النفس باستخدام هذا اللون بهدف الإيحاء بالهدوء وعدم الاضطراب.
بالأصفر عصّمت جبيني...

بأي صور يوحي لكِ اللون الأصفر؟ تجيب مايا: »السيد حسن نصر الله، الانتصار الإلهي... حالة صمود غير مسبوقة في العالم العربي... نساء محجّبات، المربّع الأمني مدمّر... غالباً ما أسمع على التلفاز أغنية: بالأصفر عصّمت جبيني«. تقول الجدّة العجوز ماريا: »حين ولدت ابنتي الصغيرة، كان شعرها أشقر، أشقر كالذهب... خصل شعرها، هذا هو اللون الأصفر بالنسبة لي«. إنما، وفق منشورات الحزب، الأصفر هو لون راية النبي محمد التي رفعت إبان المعارك التي خاضها. واستناداً لقاموس الرموز، الأصفر لون ذكوري، وهو لون النور والحياة، أي إنه طريقة التواصل بين الآلهة والناس. من ناحية أخرى، الأصفر لون الأبدية، غالباً ما يكتسب طابعاً روحانياً وسماوياً. في أماكن أخرى من العالم، اكتسب اللون الأصفر رمزية مختلفة. ففي التقاليد الصينية القديمة، ارتبط اللونان الأسود والأصفر بالتوجه نحو الشمال، الى باطن الأرض حيث الأصول الصفراء التي تأخذنا الى مملكة الأموات. من ناحية أخرى، اكتسب الأصفر بعداً ملوكياً بالنسبة للشعب الصيني فنُسب الى الأمبراطور، وبات رمزاً للقوة والتفوّق. موقع الأمبراطور مركزي، على غرار الشمس ذات الأشعة الذهبية التي تتوسط الكون. في مدفن ويتزيلوبوشتلي الأزتيكي، تمّ طلاء المحارب المنتصر، إله شمس الظهر، باللونين الأزرق والأصفر.
 
وفي الأساطير الصينية، ارتبط الأصفر، لون النور الذهبي، بمعانٍ سلبية، بما أنه لون الأرض الميتة، على غرار البشرة التي تصبح صفراء لدى اقتراب ساعة الموت. شديد الإثارة، الأصفر هو لون الرغبة والخصوبة والشبق الجنسي. لذلك، كانوا ينصحون في الصين بأن تكون ثياب العروسين وأغطية أسرّتهما مصنوعة من الحرير الأصفر لكي ينجبا الأولاد. هكذا، تتبدل رمزية اللون الأصفر من كونه لون نور الشمس الى ارتباطه بالحامض المنوي. في سياق هذه الرمزية الجنسية، يشير اللون الأصفر الى الخطيئة، فيرمز الى الزنا. كما أن الأصفر ذو طابع سلبي في تقاليد مسرح بيكين، بما أن الممثلين يلوّنون وجوههم به تعبيراً عن القساوة، الرياء والوقاحة. فبات الأصفر في الوقت نفسه أكثر الألــوان سمواً وانحطاطاً. كذلك الأمر في الإســـلام حيث يرمز الأصــفر الذهــبي الى الحكمة، أما الأصفر الباهت فيرتبط بالخيانة والخيبة. إذاً، هذا اللون مليء بالتناقضات ويحمل في طياته معاني متعددة. ونلحظ أنه اكتسب أهمية رمزية بارزة ضمن الحضارة الصينية.

البرتقالي
 
أما اللون البرتقالي فهو يقترن بلا شك، بالنسبة لأي مواطن لبناني مسيّس أو غير مسيّس، بالتيار الوطني الحر والجنرال ميشال عون. قد يكتسب في بعض الأحوال رمزية فردية، إذ تخبرنا إفيتّا: »استيقظت في الصباح الباكر، كنت نائمة في منزل جدتي الجبلي المُحاط بأشجار البرتقال، فتحت الشباك وتنفست بعمق... رائحة البرتقال، هدوء تام، النسيم العليل... خرجت الى الحديقة، قطفت وردة ووضعتها في مزهرية ملأتها بالمياه«. على المستوى السياسي، اختار اللونَ البرتقالي الطلاب العونيون قبل خروج الجيش السوري من لبنان. وبالفعل، أثناء الوجود السوري في لبنان، تحولّت الحالة الشعبية العونية من قيادة رسمية وجيش وشعب، الى حالة مقاومة سرية، في الجامعات خاصة. فتبنّى طلاب التيار العوني شعار أوميغا الذي يرمز في مادة الفيزياء الى المقاومة. حين يمرّ فيها التيار الكهربائي يصبح لونها برتقالياً، فاختير هذا اللون، وهو لون الطاقة الذي يرمز الى أن التيار لن ينتفي أبداً، لكونه حزباً قوياً وفاعلاً. وبعد تحول الحالة الطلابية العونية الى تنظيم سياسي رسمي إثر الانسحاب السوري، انتقلت الحالة المقاومة الى تيار وطني حر يسعى الى التغيير والإصلاح. لكن ظلّ اللون البرتقالي شعاراً له... هذه المرة نسبةً الى لون البرتقال رمز الصحة والحياة والتنمية. استناداً لقاموس الرموز، اللون البرتقالي هو في موقعٍ ما بين الأصفر والأحمر. يجسّد هذا اللون نقطة توازن بين النشاط الفكري والطاقة الشبقية. حين يقع خلل في هذا التوازن، يقترن اللون البرتقالي بالمحبة الإلهية أي إنه يتوجه نحو سمو روحاني ليتجاوز التناقضات.

يصعب الحفاظ على هذا التوازن في سياق رمزية اللون البرتقالي. حسب التقاليد التي تعود الى عبادة الأرض ـ الأم، تم البحث عن هذا التوازن في طقوس العربدة التي يُفترض بها أن تقودنا الى التجلي والسمو ضمن مسار تدريجي. ويُقال إن ديونيزوس، إله الخمرة اليوناني، كان يرتدي الملابس البرتقالية. في حقبات وأماكن أخرى، كان هذا اللون يشير الى الخصوبة على غرار اللون الأصفر. ففي الفيتنام، كانوا يقدمون البرتقال هدية للمتزوجين. أما في الصين القديمة فكان يعني تقديم البرتقال للشابات طلبهنّ للزواج. بالإضافة الى ذلك، ارتبطت حركات سياسية مختلفة باللون البرتقالي. في ٢١ تشرين الثاني ،٢٠٠٤ قامت التظاهرات السياسية في أوكرانيا إثر إعلان نتيجة الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية. وقد نظّم هذه التظاهرات المرشح الخاسر فيكتور لوشتشانكوف مستنداً الى الدعم الأميركي. جنّد هذا التحرّك السياسي ما يقارب نصف مليون متظاهر في كييف خلال ١٥ يوماً. تعتبر روسيا أن هذه التظاهرة غير عفوية، وقد تمّت بفضل الدعم الأميركي. في سياق الحركات السياسية الملونة، نذكر الثورة الزهرية التي اندلعت في جورجيا وأدّت الى استقالة الرئيس شيفاردنادزه. يعبّر هذا اللون عن نقمة شعبية ضد الحكومة المتّهمة بالفساد الذي يهدّد اقتصاد البلاد. في تلك الحقبة، كان المتظاهرون بقيادة ساكاشفيلي يرتدون البزّات الزهرية. حسب بورتال، تشكّل الوردة ولونها الزهري رمزاً للانبعاث والتجدّد بما أنها متصلة بكلمة rosée )الندى)، والندى مرتبط بالشتاء مصدر الحياة. وقد يكون الميل الى التجدّد قد اقترن بالنزعة الثورية التي تتوجّه نحو الرفض والتغيير. تمطر السماء لتغذي الزهور التي تنبت في أوائل الربيع. والثورة هي كالزهرة، ترمز الى إعادة الإنتاج، اليقظة والولادة الجديدة.

الأخضر

أما بالنسبة للون الأخضر فهو يشير الى الطبيعة، أحراج لبنان والأرزة التي تتوسط العلم اللبناني. ونلحظ في شعارات السياسة اللبنانية التموّجات المختلفة لهذا اللون. فالأخضر هو شعار المردة والقوات اللبنانية وحركة أمل. اختار تيار المردة اللون الأخضر الفستقي الذي يرمز حسب تقرير هذا الحزب الى العطاء، الأمان، أزلية الحياة والطبيعة. وبالفعل، يرتبط اللون الأخضر بالحركات البيئية على المستوى العالمي. نذكر في هذا السياق الرسام البيئي أوريبورو الذي لوّن قناة البندقية وينابيع باريس بالأخضر. وقد عرض لوحات خضراء تبرز فيها حيوانات في طور الانقراض. من ناحية أخرى، يقترن الأخضر بالراحة، الهدوء، الأمومة الحاضنة والفردوس. الأخضر لون مطمئن. ففي أساطير بلاد ما بين النهرين، وُصفت عشتار البابلية بالخضراء ليُشار الى أنها تتمتّع بالرفق والحنان، إنها الأم ـ العاهرة التي تضم أبناءها في حضنها الدافئ والمثير. اللون الأخضر ليس شعار المردة فحسب، بل يظهر كذلك في علم القوات اللبنانية. إذ إن المسؤول عن التسويق في القوات طلال أبو أنطون يقول إن شعار هذا الحزب يرتكز على الألوان الترابية التي تشير الى الالتزام والانتماء والتعلّق بالجذور. الأبيض لون السلام، الأخضر هو لون الطبيعة والعطاء على غرار ما يرمز إليه هذا اللون في تيار المردة. أما الأحمر فيرمز الى حركة المقاومة في المجتمع المسيحي، بما تعنيه من حماية وواجب وتضحية وشهادة. بالإضافة الى ذلك، الأخضر العابق شعار حركة أمل يشير الى التطلّع نحو المستقبل لتلبية متطلبات اللبنانيين والمحرومين. هكذا، نلحظ أن اللون بعكس الكلمة يحمل في طياته احتمالات متعددة على مستوى التفسيرات والتأويلات.

الأحمر

الأحمر لون حاد وعنيف. هو شعار الحزب الشيوعي، فيرمز الى التغيير عبر الثورة المسلحة. ينبض اللون الأحمر بالحياة، القوة، النار، الدم وعنفوان الشباب. في التقاليد الإيرلندية، يوحي هذا اللون بصخب الحرب. في الشرق الأقصى، يرتبط الأحمر بالحرارة والشغف. اللون الأحمر شعار المعارك، إنه لون النشوة والحرية ولون ديونيزوس، إله الخمرة اليوناني. بالنسبة لدوران، الأحمر هو، بكل بساطة، لون عادة النساء الشهرية. إذاً هو علامة عدم النقاء والعار. إذاً، يوحي هذا اللون بالاندفاعات العنيفة والجنسية. ونلحظ وجود هذا اللون في علم الحزب القومي السوري الذي يطغى عليه السواد وتتوسطه دائرة بيضاء فيها زوبعة حمراء. حسب منشورات الحزب، الأحمر هو لون القوة والإقدام، والأبيض يشير الى النزاهة. أما الأسود فيرمز الى الهيبة والجد. إنما لهذه الألوان معانٍ وأبعاد مختلفة لا تمت لهذا التفسير بصلة. ففي العصر العباسي، برز اللون الأسود، ورفرفت الأعلام السوداء رمزاً للثورة العباسية. حسب بوخاري ومُسلم، وضع النبي العمامة السوداء يوم دخوله الى مكّة.

كما يقال إن علمه الشخصي، الذي يحمل اسم العقاب، كان أسود كذلك. إنما حسب أخبار أخرى، كان لون هذا العلم أخضر. فنلحظ أن رمزية الألوان ترتبط بمدى صحّة الحدث التاريخي. حسب قول مأثور، كان العرب يضعون العمامة السوداء على رؤوسهم بهدف الانتقام. أما في إيران فالأسود لون الحداد. وقد ظلّ يكتسب هذه الرمزية في الحقبة الإسلامية. حسب المؤرّخ المغربي مكّاري، يعتبر مسلمو إسبانيا القدامى أن الأبيض يرمز الى الحداد، بينما بالنسبة للشرقيين لون الحداد هو الأسود. هكذا، تتلاقى مفاهيم الحداد، الانتقام والثأر ضمن رمزية هذا اللون. حسب جيلبار دوران العالم الأنتروبولوجي، غالباً ما يكتسب السواد طابعاً سلبياً، فهو يشير الى حالة اليأس والتراجع والتقهقر، بما أن سواد العتمة يقترن مع الجحيم والشيطان. حسب مور، اللون الأسود سلبي لأنه يقترن بالاكتئاب، الخوف والتمرّد.

الفسيفساء الملونة

لقد استعرضنا رمزية كل لون من هذه الألوان على حِدة على مرّ العصور. إنما حالياً في لبنان، نلحظ وجود رمزية متكاملة على مستوى الألوان التي باتت تشكّل فسيفساء، عبارة عن مجموعة منهجية من المعاني الرمزية الملونة. هكذا، كل هذه الألوان السياسية تتفاعل وتتناغم وتتناقض لتشكّل عالماً من الرمزية السياسة. إذ إنها لا تنحصر برمزية لون واحد فقط، بل ترتكز على لعبة بين العناصر المختلفة. تارةً يتآلف لونان، وتارةً أخرى يختلفان، ثم يختلط بعضهما بالآخر. تذكرنا هذه الفسيفساء اللبنانية بالحجرة الفلسفية (pierre philosophale) أو الطيف الشمسي (prisme) الذي يبعث تموجات ضوئية مختلفة تضم كل الألوان. كذلك، في الحقبات الماضية، اكتسبت مجموعة من الألوان معاني مختلفة فألّفت فسيسفاء، أي مجموعة من الألوان ذات رمزية سياسية أو دينية أو فلسفية. وهكذا، كما هي الحالة اليوم في لبنان، كان الأسود رمز الخلافة العباسية في ما مضى، واعتمد العلويون اللون الأخضر، أما الأبيض فكان لون الخلافة الأموية، فأطلق المؤرخون على حركات الثورة الأموية عبارة تبييض. في الفن المسيحي، اقترنت مجموعة من الألوان بمعان رمزية متعددة. على المستوى الروحي، الأبيض هو الآب، الأزرق هو الابن والأحمر هو الروح القدس. حسب فيلون الإسكندرية، يتلخّص الكون بأربعة ألوان ترمز لأربعة عناصر.

الأبيض رمز الأرض، الأخضر يشير الى المياه، يقترن الهواء بالبنفسجي، أما الأحمر فهو لون النار. وترمز الملابس الخاصة بالطقوس الدينية التي تضمّ هذه الألوان الأربعة الى مجمل العناصر المكونة للعالم، هكذا يرتبط الكون بأثره بحركة هذه الطقوس. في أفريقيا السوداء، تحمل الألوان معاني مختلفة، فتشكل وسيلة لبلوغ المعرفة، وتكتسب قيمة سحرية. الأبيض لون الموتى. ثم تخطى هذا المعنى ضمن الطقوس، فبات يصلح لإبعاد الموت. في التعويذات، يرمز الأبيض الى النضال في مواجهة الموت. الأصفر حيادي، وهو لون الأرض وورق الخريف. هكذا نلحظ أن في عصرنا الحالي كما في الماضي، برزت رمزية الألوان ضمن مجموعات، أي إن كل من هذه الألوان المختلفة ارتبطت بعنصر، حركة، حزب أو جهة سياسية، فشكلت مجموعة من الرمزية الملونة، أي قوس قزح.

هكذا، نكون قد استعرضنا مجمل ألوان القوس القزح اللبناني مقارنةً بأقواس قزح أخرى من عصور وأماكن مختلفة. إنّما، لقوس القزح قصّته وأسطورته الخاصة. ففي اليونان، كان يقترن بإيريس، الرسولة الإلهية السريعة. القوس القزح لغة إلهية وهو عموماً يرمز الى الروابط بين الأرض والسماء، والآلهة والناس. أما بالنسبة لشعوب الإنكا فهو يرتبط بمعنى تشاؤمي. إذ إنه الأفعى السماوية التي وجدها الناس حين كانت دويدة. لكنها صارت ضخمة بعد أن أكلت كثيراً، فاضطر الناس الى قتلها لأنها صارت تريد أن تأكل قلوبهم. حين غطست الطيور في دمائها، تلوّنت أجنحتها بألوان قوس القزح الفاقعة. يا للهول! إن أسطورة قوس القزح هذه مجبولة بالدماء. ومن قال إن الألوان ترمز دوماً الى السعادة والإلفة؟ أو ربما يمكن فهم هذه الأسطورة بشكل مغاير. فألوان قوس القزح الجميلة والمتعدّدة لوّنت أجنحة العصافير، وكأنّ كل هذه التعددية الملوّنة التي أغنت بلدنا ولدت إثر موت أفعى ضخمة ذبحت كي لا تأكل قلوب الناس. فبعد التخلّص من غضب الأفعى القاتلة، برزت الألوان الفاقعة على أجنحة العصافير المسالمة لتكون رمزاً للسلام والتجانس بين العناصر المختلفة. وربما، القوس القزح اللبناني ليس أسوأ حالةً من غيره من أقواس القزح المحلية.

ففي سياق العبارات المرتبطة بالألوان، أطلقت عبارة »رحلة بالألوان« على عملية عسكرية إسرائيلية. وقد طغى عليها اللون الأحمر الدموي كما شهدنا في أسطورة الأفعى اليونانية. لكن اللون الأحمر في عملية رحلة بالألوان يرمز الى دماء الشعب الفلسطيني. وبالفعل، إثر عملية ناجحة قام بها الفلسطينيون أودت بحياة ٩ إسرائيليين وسقط خلالها ١٤ جريحاً، قام الجيش الإسرائيلي بعملية رحلة بالألوان على مخيمي جنين وبلاطة، سقط خلالها ٢٣ شهيداً فلسطينياً من بينهم طفلة وأصيب ٢٣٠ فلسطينياً، وسقط جنديان إسرائيليان في هذا الهجوم.
بعيداً عن كل هذه المعاني السياسية، الاجتماعية، النفسية والأسطورية، حكت لي امرأة لبنانية بسيطة قصة لتعبّر عن علاقتها الشخصية باللون الأزرق، فقالت وهي تحدّق في لوحة معلقة على حائط قديم: »كنت جالسة في مقهى وحدي في شارع الحمراء.

كانت الساعة الثامنة مساءً. حلّ الليل وكان الطقس بارداً... فارتديت كنزتي الزيتية. بدأ النعاس يجتاحني. هل ستأتي صديقتي لانا؟ لا أدري أين هي... على الأرجح، نسيت أو كعادتها تتأخّر على مواعيدها دائماً، نظرت الى ساعتي. فجأةً، يطل رجل رائع، بهي الطلعة من زاوية الشارع... يتوجّه نحوي... لا أدري... ربما هو بشع، ولكنه بلا شك جذّاب، ينظر إلي. كان يرتدي قميصاً أزرق. شعرت بأن كل نساء المقهى كنّ ينظرن إليه برغبة لافتة. وهو كان ينظر إلي أنا وحدي وكأن العالم كلّه غير موجود. لماذا ذهبت معه في تلك الليلة الى بيته في الضاحية الجنوبية وضاجعته بشغف؟ لا أدري. ربما لأنّه يحب الطبخ الصيني أو ربما لأنه جعلني أشعر بأنني مميّزة. يتقن ذلك بالفعل. يعرف كيف يجعل كل امرأة تشعر أنها أجمل من الأخريات... وكأنها نوعاً ما إلهة يمكنها أن تغيّر العالم إذا شاءت. بالنسبة إلي، هذا هو اللون الأزرق. ثقافتي السياسية محدودة وهذا البلد بات معقداً جداً... لا أعرف، لا أعرف شيئاً... أنا امرأة بسيطة... ماذا تعني كل هذه الألوان؟ أنا لا أعرف شيئا«.
 

السفير
 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي