رواية "السمي" .. مرآة الشظايا المتكسّرة على سراج الغربة

2020-12-12

رواية «السمي» حكايةٌ إنسانيّةٌ حقيقيّة، للساعين إلى بلاد الغرب، والمتهافتين لجنانها الموعودة

نسرين بلوط*

قد لا يأتلفُ الكثيرُ من المهاجرين إلى دولٍ أخرى في بيئتهم الجديدة، فيقيمون الدلائل وينشبون الأدلّة في عنقِ الغربة على تهتّكها بمشاعرهم وبعاداتهم الأصليّة، ويفرّون منها بأرواحهم وهي تغتبطُ بجمعِ شقائهم وتعبهم في آلاتها ومعاملها ومصانعها، وبحصاد العقول المثمرة في جامعاتها ومعاهدها، ولكنّهم يصبرون ويحفرون الشوك بإزميل التجلّد، حتّى يأتي اليوم الذي فيه يتحسّرون على الانضواء تحت راية الاستسلام لتلك الغربة، وهذا الوطن الجديد الذي لم يعنِ لهم يوماً أكثر من محطّةٍ، احتالوا للبقاء فيها أكثر ممّا عقدوا النيّة، لأنّ قطار العودة إلى الديار قد مضى أوانه وذوى دبيب خطاه في قلوبهم، بدون أن يعيروا إليه انتباهاً.

في رواية «السمي» للكاتبة الهنديّة جومبا لاهيري، نجدُ بطليها الهنديّين «أشيما» و»أشوك»، يتخبطّان بلجج التغرّب والتعرّف إلى أمريكا بعد أن انتقلا إليها من الهند، وكان الانتقال نابعاً عن قصّة حادثٍ أليم تعرّض له أشوك قبل زواجه، خلال سفره في القطار، عندما كان يطالعُ رواية «المعطف» للكاتب الروسي غوغول، وانقلب القطار بمن فيه، وانتشلوه من تحت الأنقاض ممسكاً بالرواية يقبضها بين أصابع كأنّها الوتد المخلص له، وانقطع فترة سنة أو أكثر عن العالم، وعن دراسته أيضاً، ليغرق في لججٍ من الألم والثورة على واقعٍ أليم في وطنه، حيث تكثرُ الأعمال التخريبيّة والإرهابيّة، فيقرّر الهجرة للدراسة والعمل في أمريكا، ويسافر متجاهلاً اعتراض والديه، وعند تخرّجه من الجامعة يعود إلى أهله، ليختار أشيما زوجة له ضمن مراسم زواجٍ تقليديّ، رغم أنّه لا يجمع بينهما أيّ جامع، ويصطحبها معه في هجرةٍ دائمة.

ينتج عن زواجهما طفلان، يطلق على الطفل الكبير لقب «غوغول» إعجاباً منه وتقديراً للكاتب الروسيّ الكبير الذي، وحسب اعتقاده، منحه الحياة عندما رافقه في رحلة القطار الكارثيّة، فكان سبب نجاته من الموت، ويمنح طفلته الثانية لقب «سونالي» ويعني بلغته الطفلة الذهبيّة.

ينشأ الولدان ويكبران على عاداتٍ من طعام وشراب ولغة وتقاليد هنديّة من الداخل، ولكن المحيط الغربيّ الخارجي بعاداته وانفتاحه وتقلّباته وهزّاته ورياحه، التي تصطحب معها التطوّر المعدنيّ يجذبهما، فيتمرّدان على والديهما وينتقلان ليعيشا حياتهما بالأسلوب المريح الذي يدخلان عليه شهوات حسيّة لا تأتلف مع تربيتهما الأصليّة.

يقع غوغول في قصص غرامٍ عديدة مع فتياتٍ من أصولٍ أمريكيّة، وينتقل للعيش مع إحداهنّ بعد أن تنتابه حالة نفسية سيئة بسبب التنقل والتبديل، وتخبّطه الدائم بين ما تربّى عليه وما تعرّض له من إغراءات البيئة الخارجيّة، وعندما يتخرّج من الجامعة يبدأ في العمل والاستقلاليّة، وكذلك تفعل شقيقته، ولكنّهما يصطدمان بخبر وفاة والدهما المفاجئ، خلال رحلته إلى مدينة أمريكيّة أخرى لإلقاء محاضراتٍ جامعيّة فيها، وبعد أن بقيت أمّهما وحيدة في المنزل، يهرعا إليها بعد أن يتسلّم غوغول جثّة والده ويعود بها لحرقها، ونقل رمادها إلى الوطن الأم، كما تقتضي العادات الهنديّة.

يتزوّج غوغول من فتاة هنديّة تعيش مثله في أمريكا، أهلها من المهاجرين أيضاً، وهم على علاقة طيّبة ووطيدة بأهله، فيروق له أن يعود لأصوله الحقيقيّة، ولا يتوانى عن أن يتناول تقاليده بسعادةٍ ليعكف على تصحيح طريقه وهويّته، ولكنّه يمشي في صحارى اختباراتٍ صعبة وعلى رمالٍ متحرّكة عندما تفاجئه زوجته بطلب الطلاق لخيانتها له مع عشيقٍ سابقٍ من الماضي، التقته مصادفةً في أحد الأيام بدون علمه. هنا تتنازعه الحيرة والإشفاق على نفسه، فقد ولج عالم الغرب بغرابته، فعجز عن السير في رَكْبِ أمواجه، ثمّ اختار زوجة من موطنه لتعوّضه التشتّت السافر في حياته، فارتكبت خيانة الجسد والروح في حقّه، وظلّ تائهاً ضائعاً لا يدري إلى أيّ عالمٍ يكون انتماءه.

تختار شقيقته سونالي زوجاً أمريكيّاً لها، فتقرّر الأم أن تعود إلى الهند حتّى تقضي ما تبقّى لها من حياتها في بيئتها الحقيقيّة، التي طالما تاقت إليها بعد أن جذبتها تيّارات الغربة والسعي وراء الكفاح المرير، حيث كانت تصبح وتمسي في حنين إلى وطنها، بدون أملٍ في العودة، ولكنّها أدّت رسالتها فتخرّج ولداها واختارا حياتهما، ورحل زوجها في رحلة حتفه الأخير بدون وداع، لقد فهرست حياتها وبوّبت ميزانيّتها وحصت أيّامها، وطرحت أسلحتها في تربية ولديها في وطنٍ لا تمتّ إليه إلّا بصلة الغربة، فحزمت أمرها وحقائب أوجاعها وما تبقّى لها من حنين وعطر ذكرياتٍ لتعودَ بها وحدها.

ينتهي المشهد الأخير في رواية «السمي» على غوغول وهو ينقّب في مكتبة والده ليستحضر ذكرياتهما معاً، ولتقع عيناه على رواية «المعطف» فيتناولها مغتبطاً ويبدأ رحلته في قراءتها.

رواية «السمي» حكايةٌ إنسانيّةٌ حقيقيّة، للساعين إلى بلاد الغرب، والمتهافتين لجنانها الموعودة، الذين لا يلبثوا أن يغوصوا في هدير الندم، بعد أن يحقّقوا حلمهم ويصلوا إليها في مغاورها السحيقة، متكبّدين ألم العيش فيها في انقباضٍ دائم، مطبقين ذاكرتهم على الصور الأخيرة لموطنهم الحقيقي، بعد أن خسروا أرواحهم أو تركوها هناك.

  • كاتبة لبنانية

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي