ضحايا الحرب والسلم في رواية "مَنّ السما" لغُصون رحال

2020-11-22

الأبرز في الرواية الظلم الذي تتعرض له النساء والأطفال، فهم ضحايا الحرب والسلم على حد سواء

موسى إبراهيم أبو رياش*

بمهارة فائقة، وسرد سلس محكم، تقود رواية «منّ السما» للروائية الأردنية غُصون رحال قارئها؛ تنتقل به من مكان إلى مكان، تسلط الضوء على ضحايا الحروب والصراعات، خاصة من النساء والأطفال، وتصور بشاعة ما تعرضوا له، ولا تنس أن تلتقط صورة غنية بالتفاصيل للأماكن التي تجوبها، ولا تهمل صراعات النفس الداخلية وعذاباتها، وتنقل ما يحدث خلف الكواليس في مكاتب إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة، بالإضافة إلى الزاد المعرفي والفكري والثقافة السياسية، والقصص الشخصية لشخوص الرواية وخلفياتهم الثقافية والاجتماعية، وتبقى قضية فلسطين حاضرة بقوة؛ فهي الأساس، وما عداها أعراض أو مضاعفات!

لم يأت العنوان «مَنّ السما» عتبة للنص، ولا مدخلًا للرواية، فقد ورد في النص بوصفه المرادف الكردي لحلوى «المن والسلوى» العراقية المشهورة، ولكنه أمل ورجاء؛ تقول الكاتبة في تصريح لصحيفة «الغد» الأردنية عن علاقة الحلوى بالعنوان: «إنها هبة السماء، وترمز إلى التدخل الإلهي، الذي ترتجيه بطلة الرواية «عهد» لخلاص البشرية من جحيم الحرب والظلم واستبداد الإنسان»، وذلك ما جاء أيضًا في مناجاة «عهد»: «تائهة أنا أيتها السماء.. ها قد ضللتُ طريقي في صحراء التيه لمئة عام، لألف عام، ألن تمُني علي بمنّ السما؟ مُد ليّ يدك يا الله، وارحمني برحمتك التي وسعت كل شيء، ألستُ بشي يا الله؟ أما آن لك أن تراني؟ أما آن الأوان لأن تتدخل لوقف هذا الخراب؟ فنبوءة الخلق لم تتحقق، وبنو آدم الذين خلقتهم ليكونوا خليفة لك في الأرض، عاثوا فيها فسادًا، وسفكوا الدماء، وما زالوا لم يحسموا بعد أيهم جعلته خليفة».

الموضوع الأبرز في الرواية الظلم الذي تتعرض له النساء والأطفال، فهم ضحايا الحرب والسلم على حد سواء، وفي كل المجتمعات، وعلى مرّ العصور، وتم التركيز في هذه الرواية على ما يتعرضون له من اغتصاب وقتل وتهجير في مناطق الصراع، وقمع للحريات، وخاصة في مخيمات النزوح في كردستان العراق، وأفغانستان، ومخيم اليرموك في دمشق، وافريقيا الوسطى، وليبيا، وإيران، من خلال الزيارات الميدانية لفريق مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان، حيث يوثق الفريق وقائع حقيقية من خلال شهادات الضحايا، بأحداث وتفاصيل بشعة وحشية موجعة، خاصة حكاية «آزادي» الضاربة في الألم والعذاب والقهر، وكانت «عهد» شاهدة على أحداث حية عديدة، خاصة التفجير الذي حدث أمام ناظريها في مدينة قندهار الأفغانية، ورأت الأشلاء تتطاير، وبعضها لزملاء لها في مكاتب الأمم المتحدة، بل إن المحرض الرئيس لكتابة الرواية كان حادثة حرق تسع عشرة امرأة أيزيدية من قبل «داعش» عام 2014، ولذا أهدت الرواية لهن: «إليهن حيث كن، إلى تسع عشرة امرأة من ظلال».

وفي السياق ذاته، كانت «عهد» ضحية رغبة والدها بأن يُرزق بولد ذكر، فكان يضيف لطعامها وشرابها الهرمونات الذكرية خفية، ما أثر في تكوينها الجسدي، وبالتالي علاقاتها وحرمانها من حقها أن تعيش كغيرها من النساء. كما أُجبرت «ليلاف» على الزواج المبكر، وتعرضت للضرب والإهانة والاستغلال، وحرمانها من حقوقها الأساسية، لكنها لم تستسلم، وقايضت وساومت جلاديها (الزوج والحماة) حتى أكملت دراستها، والتحقت بالعمل في مكتب الأمم المتحدة في أربيل.

لم تصادر الرواية الرأي الآخر، ولم تستأثر بوجهة نظر أحادية؛ فمن خلال تقنية تعدد الأصوات والخلافات البينية، عرضت وجهات نظر مختلفة للقضية الواحدة، ومن ذلك المأساة السورية، فالابن معارض والأب مؤيد للنظام، ولكل مبرراته، وعن غزة، يدين سامح الحصار وإغلاق المعابر، بينما يدافع هاني، على اعتبار أن إغلاق المعابر مسألة أمن قومي مصري، وتدين كارمن الانقلاب على مرسي وعودة العسكر، بينما يرى هاني أن مرسي لم يكن خيارا، بل اضطرارا. وكذلك في الكارثة الأفغانية، فعهد تطلب إعادة النظر في وصم الأفغان بالإرهاب، فقد تعرضوا للويلات والتجويع، وتعاقب المحتلين، وهم شعب يحب الحياة، ويقتنص أدنى فرصة للفرح.

«عهد» هي الشخصية الأبرز في الرواية، تعيش أسرتها في سوريا، وهي من أصول فلسطينية، حيث ولدت وعاشت والدتها في مخيم اليرموك إلى أن تزوجت والدها أحد القيادات الفلسطينية، الذي عاش اليتم طفلًا، قبل أن يهاجر إلى دمشق للدراسة، كما أن سامح من غزة المحاصرة، ووالدته توفيت مريضةً على المعبر المغلق. ولذا حضرت القضية الفلسطينية في الرواية من خلال مأساة مخيم اليرموك، وما تعرض له من قصف واقتتال داخلي ومذابح وهدم وتدمير، وكذلك غزة التي تُحاصر وتُجوع وتُدمر، ولم تغفل الرواية الخيانة التي طعنت الثورة الفلسطينية منذ البدايات، وما زالت تتوسع وتُشرعن. وحضور القضية الفلسطينية تأكيد على أنها لب الصراع في المنطقة، وعلى أن العدو الأكبر والمحرك للشر واحد.

الجديد في هذه الرواية، ربما أنها الأولى عربيا التي تناولت العمل الميداني والمكتبي لفريق مكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان، وكيف يعملون، وما هي مهامهم، والأجواء والضغوطات التي يعملون تحت وطأتها، ولكن اللافت، التلميح بأن عمل هذا المكتب غير فعال، وليس له أثر حقيقي في الأرض، ومعظم التقارير تذهب إلى الأدراج، وربما تخضع للمساومات السياسية، وحتى الرشوة والتهديد وغير ذلك، ويمكن تعميم ذلك على كل الأعمال تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة، ما يحيلها في النهاية إلى مظلة عالمية هشة، وربما يحيلها ستارا للقوى النافذة؛ لتفعل ما تريد بشرعية دولية.

 

تطرح الرواية موضوعا في غاية الأهمية على لسان «عهد» وهي تحاور الدكتور مرتدي بأن «السياسة موضة»، وتفسر نظريتها: «كما يوجد دور للأزياء تتنافس في ما بينها لتفصيل أحدث صرعات الموضة.

والأدهى أن تتحول هذه المنظمة التي ترعى الحقوق إلى معتدية، ولا تختلف عن أطراف الصراع التي تبطش وتنكل وتغتصب، ومثال ذلك ما حدث في أحد مخيمات النزوح في افريقيا الوسطى، حيث ذهبت «ميرال» للتحقيق في انتهاكات بعض أفراد القوة الفرنسية لحفظ السلام، واغتصابهم للأطفال، المؤتمنين على حمايتهم «حاميها حراميها»، وتم التكتم على التقرير، والتحقيق فيمن سربه إلى الإعلام.

وهذا يقودنا إلى حقيقة صارخة أن الأمم المتحدة عاجزة عن تحقيق أي سلام في أي مكان من العالم، إلا بإذن القوى الكبرى التي تمتطيها وتسخرها لتحقيق مصالحها.

تطرح الرواية موضوعا في غاية الأهمية على لسان «عهد» وهي تحاور الدكتور مرتدي بأن «السياسة موضة»، وتفسر نظريتها: «كما يوجد دور للأزياء تتنافس في ما بينها لتفصيل أحدث صرعات الموضة، هناك أيضًا «دور فكر» تقوم بتفصيل أحدث الصرعات السياسية التي يتزين بها قادة العالم الحر»، وتبرهن على ما تقول: «زعم فوكوياما في كتابة «نهاية التاريخ» أن موضة «الديمقراطية الليبرالية»، بما تحمله من قيم الفردية والحرية والمساواة، ستُسقط كل الأيديولوجيات، وستشكل مستقبل «الحوكمة البشرية»، فعم هذا المصطلح الأدبيات السياسية العالمية، وأُسقطت على أساسه، أم الأيديولوجية الاشتراكية.. أي الاتحاد السوفييتي السابق، ومن والاه من الأحزاب الشيوعية في العالم العربي»، ويضيف مرتدي «ثم جاءت موضة «صراع الحضارات لهنتنغتون»، لتحول الصراع بين الأيديولوجيات والقوميات باختلافاتها السياسية والاقتصادية إلى صراع بين ثقافات وحضارات صاعدة. وها نحن نرى الحضارات والثقافات الصاعدة، مثل رابطة «آسيان»، وإيران، والتهديد الذي تشكله على دول الغرب».

وتكمل «عهد»: «أما جون رولز، فهو صاحب موضة «العدالة الاجتماعية»، الشعار الذي قامت على أساسه ثورات الربيع العربي، التي أتبعها بموضة «الشعوب المغلوبة على أمرها» في كتابه «قانون الشعوب» … والخطير في هذه الموضة أنه وضع على عاتق الشعوب العادلة مهمة مساعدة الشعوب المغلوبة على أمرها، حتى تتمكن من تغيير الظروف التي تمنعها من أن يكون لها نظام سياسي عادل وسمح.. وهو بالضبط ما نراه من الدعم الغربي لشعوب مصر وتونس وسوريا وليبيا واليمن؛ للإطاحة بنظمها السياسية غير العادلة وغير السمحة».

والمتابع للأحداث بنظرة تحليلية، يدرك أن السياسة موضة، تتغير وفق أهواء القوى الكبرى ومصالحها، وما يمكن لها من السيطرة والتحكم بالشعوب الأخرى، ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الحروب والصراعات المسلحة تقوم بفعل فاعل من أجل إدامة صناعة الأسلحة، وعدم توقف الإنتاج، باعتبارها من أعمدة التجارة العالمية، وأصحابها هم من يتحكمون فعليًا في السياسات والعلاقات الدولية.

وبعد؛ فإن «مَن السما»، دار العائدون، عمان، 2020، 254 صفحة، رواية ممتعة، مشوقة، كتبت بلغة راقية مميزة، وسرد جميل متداخل محكم، نُسج بعناية وإتقان، وحرفية إبداعية لا شك فيها. والرواية هي الخامسة في مسيرة غُصون رحال الروائية والإبداعية بعد: «موزاييك»، 1999. «شتات» 2002. «خطوط تماس» 2006. «في البال» 2010.

 

  • كاتب أردني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي