عقدة الأخوة: من الأخ الحقيقي إلى الأخ البديل…

قراءة في رواية «القاتل الأشقر» لطارق بكاري

2020-11-13

تنطلق حكاية الأشقر بطل رواية «القاتل الأشقر» من علاقة أساسية، ثلاثية الأطراف: أم/ طفل/ طفل

ابراهيم ازوغ*

أسس حسن المودن على الأقل في الدراسات النقدية العربية، مشاركا بذلك في حوار عالمي موسع حول علاقة التحليل النفسي بالأدب، لمفهوم جديد في حقل الدراسات النقدية النفسية أطلق عليه «عقدة قابيل» أو «عقدة الأخوة» ويرى المودن باعتباره الناقد الأدبي العربي الوحيد اليوم في الساحة النقدية العربية المنشغل بنقد النصوص السردية، من منظور التحليل النفسي والمساهمة في تجديد وتطوير هذا المنهج، أن هذه العقدة «عقدة لا تقل أهمية بالنسبة إلى عقدة أوديب، التي تحتل المكانة المركزية» في مرجعيات المعرفة النفسية.

يعيد المودن قراءة عدد من النصوص الدينية والأدبية من جهة، والمعرفية النظرية والتطبيقية النقدية من جهة ثانية، من مرجعية نفسية تنطلق من المؤلفات المؤسسة لنظرية التحليل النفسي، لتتجاوزها إلى الأسئلة والإشكالات المطروحة اليوم في النقد النفسي الجديد مع بيلمان نويل وأندري غرين وجان بيم وبيرنار بانغو وبول لوران أسون وفيليب ويلمارت وبيير بيار الناقد النفسي الفرنسي، وأستاذ الأدب في جامعة باريس، هذا الأخير الذي فتح المودن خاصة في كتبه الأخيرة، حوارا موسعا وعميقا مع كتبه، للتفكير في سؤال من يقرأ من التحليل النفسي أم الأدب؟ ودعوة النقاد إلى قلب الأدوار بين التحليل النفسي والأدب، لاكتشاف «الإمكانات النظرية التي يمكن أن توفرها الأعمال الأدبية».

استنادا إلى هذا التصور يرمي المودن إلى رسم آفاق جديدة للتفكير في الأدب وتحليله، لا تؤمن بجمود النظرية النقدية النفسية، ولا بصلابتها أمام ما قد تقترحه النصوص الدينية والأسطورية والأدبية القديمة والحديثة، بمجرد إعادة قراءتها من منظورات وزوايا أخرى من معرفة جديدة. يتيح مفهوم عقدة الأخوة مثلما رسم المودن حدوده في دراستيه، التي تقدمت الإشارة إليهما، قراءة رواية «القاتل الأشقر» لطارق بكاري، بعيدا عن موضوع الإرهاب في الرواية، الذي يمكن أن يعد أول ما قد يشد انتباه القارئ للنص، معتبرين لها امتدادا ونتيجة ثانوية للموضوع الأساس في الرواية والمتمثل في عقدة الأخوة.

تنطلق حكاية الأشقر بطل رواية «القاتل الأشقر» من علاقة أساسية، ثلاثية الأطراف: أم/ طفل/ طفل، وهي بهذه العلاقة، تقصي طرفا أساسيا ورئيسا في أسطورة أوديب (الأب) وتستحضر الطرف الآخر، الذي غيبته القصة الأسطورية والدينية المصرية القديمة «قصة يوسف» (الأم) فهي تقدم بصيغة جديدة ومختلفة سردا للعلاقة بين ابني آدم في القصص الديني، وللعلاقة بين إيتيوكليس وبولينيكيس ابني أوديب.

تُقدم لنا الرواية صورة الأم حياة، الآثمة بعهرها وامتهانها للدعارة، وبعقدها الموروثة من ماضيها الطفولي، نتيجة ما تعرضت له من صدمة الضياع بسبب العاصفة الثلجية التي أتلفت وأخفت عليها وعلى أختها مسالك العودة من المرعى إلى البيت، ومن إرغام على الزواج بعد العودة إلى البيت، الذي قد يكشف سرها (الاغتصاب) الذي ورثته من المرأة المنقذة لها من الموت بردا، وستورثه بنات جنسها من الطفلات اللواتي يقعن بين أيديها، بعد أن احترفت الدعارة، وتقتل كلما حلت ذكرى التيه الثلجي من شاركها الفراش، وتفقأ عينيه، كما قتل كلبها وفقئت عيناه.

سيتحول سرها إلى مصدر عيشها، وسيمنحها طفلين من بطن واحدة في ليلة من ليال محاولة العيش؛ أشقري اللون متشابهان في كل شيء حتى في رغباتهما، وهما شابان كأنهما واحد، مما سيولد التنافس بينهما، وسيتحول إلى حسد يبلغ أقصاه فيتحول إلى حقد وكراهية. لم يكن الطفلان ينافسان بعضهما بعضا في الفوز بالأم (مثلما تسرد أسطورة أوديب) ولا كانا في صراع من أجل القرب من الأب والظفر بمحبته (كما نجد في قصة يوسف) فأحدهما «القاتل الأشقر» كان يرغب في أن يعرف أباه، وأن يكون من الأحد عشرا أبا المفترضين، ذلك المثقف الذي ظهر ذات يوم في برنامج تلفزي وتكلمت عنه حياة الأم كثيرا بحماسة زائدة، بينما لم يبد توأمه أي اهتمام بالأمر، واكتفى بانتسابه إلى حياة، بل كان صراعهما من أجل شامة الفتاة العذراء الوحيدة التي كانت تشاركهما الانتماء إلى بيت الدعارة الذي تديره أمهما يقول الأشقر» مثلما أحببت شامة، كذلك أحبها أخي (أحقد كثيرا على ياء النسبة)».

 

تضع الرواية الانتساب للأب ضمن دائرة الشك والمساءلة، وتفترض تعدديته في حكاية انتساب الأشقر وأخيـــه التوأم إلى الأحد عشرا أبا مفترضا، بعدد أيام تيهها الثلجي، وبعدد الطعنات التي تقتل بها كل ليلة رأس السنة من يشاركها الفراش.

وإذا كان الملك لايوس قد أبعد طفله خوفا من أن يقتله ويتزوج بأمه، والإخوة في قصة يوسف أبعدوا أخاهم ليخلوا لهم وجه أبيهم، فإن القاتل الأشقر في الرواية هو من قرر الابتعاد، ولكن بعدما قتل شامة حتى لا يتركها خلفه لأخيه التوأم، ولم يقتل أخاه مثل قابيل ليفوز بأنثاه (في الأسطورة) أو لقبول القربان من أخيه ورفضه منه (في القصة الدينية). إن القاتل الأشقر فضل حرمان نفسه وأخيه من محبوبتهما، وقرر الابتعاد بدل إبعاده أو إبعاد أخيه أو قتل أحدهما للآخر، والرواية إذ تقترح هذه الصيغة الجديدة للعلاقة بين الأخ وأخيه الشقيق والشبيه له، فلاقتراح الأخ البديل المختلف الذي لا يسعى إلى أخذ كل شيء منك، بل الذي يقاسمك ويساعدك، والبحث عنه مثلما فعل الأشقر هو بحث عن الآخر الذي لا يشبه الأنا في رغباتها وسلوكاتها الموروثة، وتَجسد هذا الأخ البديل في صورة عبد المالك اليمني، الذي ألحق به الأشقر جرحا في لحظة ضعف غريزية، بدل أن يلحقه به هو الذي احتضنه منذ أن حل بأرضه، وتجسد في «الأخ الكبير» (أو الأمير) الذي أحاطه بالرعاية وقرَبه من زعامته، وكشف له عن أسراره ومكنه من شبيهة محبوبته، وفي ذلك رمزية للعطاء والتنازل من الأخ البديل لأخيه عن أعز ما يطلب، ومثلت له الرواية أخيرا بوليد معروف، الصحافي الذي جاء ليحقق في التنظيم الإرهابي وكتابة تقرير حوله، فكان المنقذ للأشقر من الموت قبل سرد حكايته، والمدون لسيرته.

إن السؤال الذي تطرحه قصة يوسف، حسب دراسة المودن، هو هل يمكن «أن تتحول الرغبة المحاكاتية التي تميز عقدة الأخوة إلى مصدر الحب والخير والحياة، بدل أن تكون مصدر الشر والعنف والموت؟». هل يمكن أن يتجاوز الأخ أنانيته وغيرته وحقده وحسده تجاه أخيه، هو نفسه الذي طرحته رواية بكاري وتجيب عنه باقتراح الأخ البديل المختلف غير الشقيق، الذي يكون سندا حاميا نصيرا متعاونا؟

تطرح الرواية كذلك سؤال لماذا تقتل حياة ولماذا يقتل القاتل الأشقر بطقوس تتشابه كثيرا ولا تختلف إلا في التفاصيل، هل نرث جرائم الأمهات؟ أم أن مرحلة الطفولة هي التي ترسم صورة الإنسان شابا وشيخا، تكون جميلة إذا كانت الطفولة كذلك جميلة، وتكون بالقياس حاقدة قاتلة بشعة إذا كانت كذلك؟

غير أن القاتل الأشقر، رغم طفولته القاسية التي لم تكن غير سيرة من المعاناة في بيت داعر، ولا تكشف سوى عن أسرار القتل والاغتصاب الليلي، الذي لم يسلم منه لا هو نفسه ولا محبوبته شامة؛ فقد كان هو محط شهوة أم شامة، التي تعترض طريقه نحو المرحاض ليلا، ومحبوبته عشيقة لحياة أمه. فإن بكاري في روايته يقدم له صورة الإنسان العاشق الصافي الروح السامي الخلق، الذي يقدم لشامة ولأخيه ولأمه كل شيء، ولا يطلب أو يأخذ منهم أي شيء، والذي تكالبت عليه الظروف واتحد ضده الجميع، وتوالت عليه الخيبات لتدفعه ليكون قاتلا، غير أنه مصيب حتى في جرائمه وفي قتل أكثر من صادقهم لإنقاذ أمه وتبرئتها؛ الأم الأنثى الآثمة العاهرة التي لا تقدمها لنا الرواية رغم طفولتها القاسية، أكثر من قساوة طفولة الأشقر نفسه، بغير المجرمة التي تفننت في طقوس جرائمها السنوية والمحتفلة بضحاياها قتلا أو اغتصابا بسلب عذرية من ألجأتهن الظروف إليها، مثلما سلبت عذرية شامة بظفرها، لإشباع رغبات مقموعة، وتزيد الرواية من حجم خطورة هذه المرأة ووحشيتها بالتركيز على علاقاتها الممتدة والفاسدة مع أجهزة السلطة والأمن، التي استطاعت أن تروض عناصرها، في وكرها وما يعرضه عليهم من أجساد شابة، وبتغيب شبه كلي لصور الحياة النفسية لشخصية حياة.

لم يظهر القاتل الأشقر من جديد في حياة حياة، ولا في حياة أخيه التوأم لا ليفسدها مثلما أفسد أوديب حياة لايوس وزوجته، ولا ليعيد أحداثها وعلاقاتها إلى المجرى الطبيعي، كما تروي قصة يوسف، بل اختفى في مشرق الأرض في ما أمه وأخوه في مغربها.

خلاصة

تتمثل أهمية رواية طارق بكاري، بالإضافة إلى طرحها سؤال عقدة الأخوة واقترحها الأخ البديل والانتصار للآخر المختلف غير الشبيه، في طرحها لأسئلة أخرى منها: سؤال الانتساب، الانتساب إلى الأم بدل الأب. ألا يمكن القول بأن الإنسان ينتسب أولا إلى أمه قبل أبيه؟ وأيهما أكثر ثبوتا؟ وماذا عن تعدد الأب بدل الواحد؟ وكيف يمكن تفسير وراثة عقد الأم وجرائمها؟ وماذا يعني غياب الأب والبحث عنه بدل قتله؟

تضع الرواية الانتساب للأب ضمن دائرة الشك والمساءلة، وتفترض تعدديته في حكاية انتساب الأشقر وأخيـــه التوأم إلى الأحد عشرا أبا مفترضا، بعدد أيام تيهها الثلجي، وبعدد الطعنات التي تقتل بها كل ليلة رأس السنة من يشاركها الفراش.

إن تشخيص الحياة النفسية، وتتبع السيرورات النفسية بتناقضاتها الناجمة عن صور ترسبت في الذاكرة تعود إلى الطفولة أو عن حاجات الجسد وإرغاماته، أو الواقع وما يقتضيه من اندماج وصراع يقتضي الإنصات إلى أدق الأحاسيس الداخلية للشخصية الإنسانية وأعمقها، وهو ما حاولت رواية بكاري» القاتل الأشقر» سرده باهتمام واضح بمضمون الرواية بدون إغفال لأسئلة الكتابة وحداثتها.

 

  • كاتب مغربي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي