الزمن ليس ما نقرأه في الساعات

2020-10-07

الزمن ليس واحدا (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

أبو بكر العيادي*

نشأنا على مفهوم خطّي للزمن، نتوهّم أننا نعيش في حاضره ونسترجع ماضيه ونتطلع إلى مستقبله، وأن الزمن واحد، يجري مثل نهر من مدَبٍّ إلى مَصبّ، وبنينا على هذا الفهم علاقتنا بالزمن.

غير أن العلماء لهم رأي آخر، قد لا يدرك عمقه إلا من تملّك خلفية علمية، لأنها معقدة تتجاوز فهم الرجل العاديّ.

لم تدفع جائحة كورونا الملايين من البشر إلى الحجر الصحي فقط، بل هزّت أيضا علاقتنا بالزمكان الذي يهيكل مجتمعاتنا. ولئن بدت الحياة تستعيد تدريجيا سيرها المعتاد، فإن نهاية المواجهة مع الفايروس لا تزال بعيدة. ذلك أن زمننا كما يقول أهل الاختصاص غير زمن الأشياء والمواد والكائنات التي تعمر عالمنا، ولا يمكن بحال أن نفرض عليها مقاربتنا.

وهذا مثلا رأي برناديت بنسود فانسان الأستاذة المحاضرة بالسوربون، التي أفنت عمرها في استكشاف علاقتنا بالتكنولوجيات والمواد الأولية والموارد الطبيعية، لتبين تعدد أنماط الوجود الحاضرة على كوكب الأرض، ومختلف الزمنيات التي تغطيها. فكانت نتيجة أبحاثها إعادة النظر في تصورنا الكرونولوجي للزمن.

التخطيط الكرونولوجي

إن فايروس كوفيد – 19 في اعتقاد فانسان لا يلزمه، كي يتطور، غير التنقل من إنسان إلى آخر، وسوف يواصل تنقّله حيث شاء ما وجد بشرا يستضيفونه، أي أننا لا نستطيع محاربته، وأقصى ما يمكن أن نفعله هو التعامل معه بدبلوماسية، وتجنب الاختلاط به ما وسعتنا الحيلة.

ولعل أهم درس يستخلصه العلماء هو أن يتعلم البشر التعايش مع كائنات أخرى، هي في أغلبها أجسام مجهرية، وحتى مع المواد المنجمية، فلا فرق بين الكائن والمادة في نظرهم، لأن لكل منها مساره وزمنيّته، كالكربون مثلا، هذا الذي أربك الإنسانُ دورته بالإفراط في استغلال الطاقات الجوفية، حيث أحرق منه خلال قرنين ما تراكم طيلة آلاف السنين، وتسبب في اضطراب الدورة الجيولوجية التي هي مصدر الأنتروبوسين (مصطلح اقترحه بول كروتزن الفائز بجائزة نوبل للكيمياء عام 2002، ويستعمل للدلالة على عصر جيولوجي جديد، متأت من أفعال الإنسان ضد البيئة العالمية كضياع التنوع الحيوي، والتغير المناخي، وانجراف الأراضي…).

فكلما فتحنا علبة باندورا الخاصة هنا بزمن الأشياء، تهنا في محيط من الزمنيات المتعددة والمتنوعة. ومن الصعب عندئذ أن نتعامل معها على قدم المساواة.

لقد نشأنا على فكرة الزمن كإطار مطلق وخطي، سابق لكل الأشياء التي توجد فيه، وكأنه سهم موجّه نحو غاية محدّدة، وما زال أنموذج الزمن هذا يحكمنا ويوجه فهمنا للعالم ويرسم تطلعاتنا، لأننا تعلمنا ألا وجود سوى لزمن واحد، يشملنا، ومن خلاله نفسر مختلف الظواهر ونحلل أسبابها وتداعياتها. والحال أن الزمن لم يكن كذلك دائما، فقد كان الناس قبل طفرة التصنيع يعيشون زمنا ريفيا يضبط مساره على وقع الطبيعة، ثم جاء التطور التقني فصنع الناس زمنا آخر، صار مجردا تماما.

وليس في نقد هذه المسألة بدعة، تقول بنسود فانسان، فثمة حضارات أخرى نظرت إلى الزمن بشكل مغاير، كالحضارة الصينية التي لا تملك في قاموسها ما يدل على الزمن بالمفهوم الغربي ومن حذا حذوه، حتى أن الصينيين وضعوا لغة مخصوصة للتكيف مع معطيات العولمة، بل ثمة مفهومان، مفهوم اللحظة التي تشمل الفصول والمناسبات والفرص السانحة، ومفهوم المدّة التي تتعلق بالمسارات، فلا زمن عند الصينيين بل ثمة طاقة في تجدد دائم.

وتلاحظ المفكرة والمؤرخة الفرنسية أيضا أن تكنولوجيات القرن العشرين تدعونا إلى إعادة التفكير في الفضاء والزمن على ضوء المبتكرات الحديثة. فعلى مستوى الفضاء، ألغت تكنولوجيات النقل والمواصلات المسافات، وعلى مستوى الزمن، صارت تكنولوجيا الاتصال تضبط الزمن الحقيقي. علاوة على التكنولوجيا الذرية، التي تنتج فضلات ومهملات تفوق آثارها وأعمارها سلّمنا الزمني بكثير. تلك الأزمنة لا يمكن قياسها بوسائل التصرف السياسي التي بحوزتنا.

ومن ثَمّ تنصح بنسود فانسان بالخروج من التخطيط الكرونولوجي للزمن، والاجتهاد لكسر علاقة الثقافة الغربية وتوابعها به، لأن الزمن الذي خلقه البشر، والذي يستند إلى معطيات فلكية، ليس زمن كل الأشياء الموجودة في الكون، إذ ثمة زمن اجتماعي، وزمن بيولوجي، وزمن فلكي، وزمن جيولوجي… ما يجعل التفكير في الزمن المتعدد (البوليكروني) أمرا لا مفرّ منه.

الزمن نهر متجمد

زمن البشر ليس زمن الأشياء والكائنات (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

 

لقد ظهرت في الأعوام الأخيرة موجة انتقادات للتسارع والانهيار اللذين ولّدهما الجشع النيوليبرالي، ولكن الزمن هو القضية الأساس في نظر المفكرة الفرنسية، وإن كانت تقرّ بأنه سيظل في أذهان الناس أمرًا مجرّدا، بعيدًا عن مداركهم وعن مشاغلهم الآنية، لاسيما أن فكرة الزمن الكرونولوجي راسخةٌ في الأذهان منذ بدء الخليقة بمفهومها الديني.

المفهوم الديني للزمن يقوم على الجنة التي طرد منها آدم وحواء، وإقامة في الأرض تنتهي بفناء الإنسان ورجوعه إلى الله لينال الثواب أو العقاب، وهو ما عبّر عنه الرسام جيروم بوش في لوحة “بستان اللذائذ” التي تعكس الرؤية الخطية للزمن التي قام عليها الفكر المسيحي، حيث يبدو على اليسار البدءُ في جنات عدن، وعلى اليمين الجحيم الذي وُعد به مرتكبو الآثام العظيمة، وما بينهما رجال يعيشون على ذكرى الفردوس المفقود، يسعون للتوبة وينتظرون الموت.

كما أنها متجذرةٌ أيضا في اللغة من جهة الاستعارات المستعملة كمرور الزمن، وجريان الوقت وكأنه سيل يمضي من مَنبع إلى مَصبّ. أي أنه قائم على تصوّر يلغي الزمن الدائري، والزمن الورقي بعبارة برناديت بنسود فانسان التي تنظر إلى الزمن كطبقات متراصة بعضها فوق بعض كالرّواسب.

ولا بدّ حينئذ من أن ينهض به ما أسمته الذكاء الجمعي، لكي يتم البناء تدريجيا. وإذا كان لا بدّ من التفكير في عوالم الأمس والغد والمستقبل، فالشرط يكمن في التخلص من هذا الأفق الخطي.

أما عالم الفيزياء تيبو دامور، عضو أكاديمية العلوم، والأستاذ بمعهد الدراسات العلمية العليا، فيستند إلى نظرية النسبية المحدودة التي بيّن فيها أينشتاين أن جريان الزمن وهم، وأن الواقع يوجد داخل زمكان لا يسري، وأن الواقع الحق خارج الزمن. فهو يتصوره مثل علب أوراق فوق بعضها بعضا، والأوراق شبيهة بصور شمسية متجاورة عن الماضي والحاضر والمستقبل.

وفي رأي دامور نعتقد خطأ أننا لا نملك سوى معلومات عن الأوراق السفلى، أي أوراق الماضي، والسبب هو القانون الثاني للديناميكا الحرارية حيث يُرجَّح أن حالة الكون في الماضي كانت منظمة ثم مالت إلى الفوضى، وهذا الانتقال من طور النظام إلى طور الفوضى هو الذي يعطي الذاكرة، عن طريق الوظائف الدماغية والعصبية، انطباعا بأن الزمن يجري.

بينما نهر الزمن، كما يقول دامور، أشبه بنهر متجمّد، وما هو سوى البعد الرابع للزمكان، وذلك ما كانت روايات الخيال العلمي سباقة إلى تصوره قبل الفيزياء، ففي رواية “آلة الزمن” لهربرت جورج ويلز وصف رائع للزمن بمفهوم أينشتاين كبعد عمودي، تتجاور فيه كل الحقب.

وهو ما أكّده صاحب نظرية النسبية حين كتب في رسالة بتاريخ 21 مارس 1955، أي قبل وفاته بشهر “بالنسبة إلينا، نحن الفيزيائيين، التمييز بين ماض وحاضر ومستقبل لا يحمل سوى قيمة وهمية، مهما كانت صلابتها”. وكان كانْت قد سبق أن أشار هو أيضا إلى أن الزمن وهم، فاتحا باب جدل واسع في الحقل الفلسفي الغربي.

ويستشهد لامور بمثال كلاسيكي للبرهنة على أن الزمن ليس واحدا كما رسخ في الأذهان، وأن الارتحال إلى المستقبل ممكن، عن توأمين يبقى أحدهما على الأرض، ويسافر الثاني في صاروخ سرعته تقارب سرعة الضوء، فيكتفي داخل مركبته الفضائية بتناول الغداء وشرب فنجان من القهوة ثم يقفل عائدا من حيث انطلق، فيكتشف أن أخاه قضى نحبه منذ ملايين السنين، لأنه سار في زمكان مخالف للزمكان الأرضي، أي أنه قام بقفزة في المستقبل.

 

الزمن الذي خلقه البشر، والذي يستند إلى معطيات فلكية، ليس زمن كل الأشياء الموجودة في الكون.

ولكي نفهم ذلك ينبغي رسم الزمكان في شكل مثلث، انتهج الأخ الثاني ضلعه الأكبر، بينما اقتفى الأول الضلعين الآخرين، ما يعني أن البعد ليس نفسه لأن الضلع الأول لا يعادل الضلعين الآخرين. حقيقة علمية أخرى حدسها أدب الخيال العلمي وهو أن المستقبل مكتوب سلفا، وهذا ما كان أينشتاين مقتنعا به، وأن حرية الاختيار معدومة، ما يطرح مشكلة الجانب الأخلاقي للحتمية، إذا أقررنا من باب الافتراض الجدلي بأننا غير مسؤولين عن تصرفاتنا وأعمالنا ما دامت مبرمجة قبل أن نولد.

ولامور يعترف بأن هذه الحقائق تبدو مجردة لدى أغلب الناس، عصية على الفهم، نظرا إلى تراجع الثقافة العلمية، واهتمام بعض المفكرين والمثقفين بنسبية نيوتن حيث الزمكان مستقيم ثابت، وإهمالهم نسبية أينشتاين التي تتمثله كخثيرة لينة لا تني تتمطط وتنحرف باستمرار تحت وقع الكتل والطاقة، كما تصورّها سلفادور دالي في ساعاته الرّخوة؛ أو اعتراضهم عليها كما فعل برغسون مثلا.

بل إن تلاميذ المعاهد في فرنسا كانوا حتى أواخر السبعينات يدرسون النسبية المحدودة، وكذلك النسبية العامة والفيزياء الكمية بدرجة أقل، قبل أن تلغى العلوم الفيزيائية في القرن العشرين من البرامج. ومن الطبيعي أن تبدو هذه الحقائق العلمية غائمة، مجردة، أو محل شكّ وريبة. ولذلك يصرّح لامور “العلم يقول ما شرحت لكم. تأملوه جيّدا، فإن أزعجكم وأردتم العودة إلى الزمن السابق، فلتفعلوا”.

 نشأنا على فكرة الزمن كإطار مطلق وخطي (لوحة للفنان فؤاد حمدي)

 

  • كاتب تونسي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي