بارا ودوكسا

2020-10-03

تدفق خارج عن السيطرة

إبراهيم الجبين*

“البارا” و”الدوكسا” كلمتان إغريقيتان تثيران اهتمام كثيرين. بعضهم يفهمهما والبعض الآخر يعتقد أنهما مما تسهل صناعته وفبركته، فيسارع إلى توريط نفسه في استعراضات مثيرة للسخرية، كما حين درجت “موضة” أدبية في مرحلة الانقلاب التي شهدتها الحياة العربية قبل عقود، والتي جرّفت معها التقاليد الأدبية مع ما جرفته من قيم أخرى باسم التحديث، ولم تكن سوى ضحك على اللحى وتضليل مقصود طالما لم تترافق مع تحديث حقيقي في العُمق.

وتلك “الموضة” كانت خلق “المفارقة” من جل إثارة الدهشة. لكنها لم تكن تثير سوى دهشة أصحابها السذّج. وكل ذلك تحت اسم “البارادوكس”.

وكانت تلك المفارقة لا تبتعد عن عنونة أحدهم لكتابه بـ”أفراح حزينة” أو “سواد أبيض” أو حتى “موسيقى صامتة”.

وقد توقع من كان يفعل تلك الفعلة السطحية أنه سيحصد إعجاب الناس وأنهم سيتراكضون إلى اقتناء كتبه ودواوينه وقصصه بسبب لعبة اعتقد أنها بديعة.

واليوم وقد مرّ وقت على مثل تلك العجائب، اكتشف المتلقي أنه منذ البداية أذكى من أولئك الذين كانوا يبثّون له بثا مشوشا. لكنه لأنه أكثر تهذيبا منهم، فقد منعه حياؤه من استيقافهم عند ما يرتكبون.

 

جذب الناس وقيادتهم نحو الأفضل في كل مجال، أمور لا يمكن أن تحصل بالقوة والغصب، ولا يمكنك أن تقنع أحدا بك بالصراخ.

واليوم هذا عصر جديد. ومن كان يبحث عن المفارقات السطحية سيجد مفارقات حقيقية هذه الأيام. فالأمور فعلا بالمقلوب، ومن الممكن اليوم أن نقول هذا “مثقف طلطميس” أي لا يعرف شيئا ولا يتقن اللغة ولكنه يصرّ على الحديث والكتابة في كل شيء، وهذا سياسي لا يملك أدنى معرفة بالتاريخ والحقائق والعلوم السياسية. أما صورته فهي تبدو كمهرّج أمام الناس، يكاد يشق ثيابه وينتف شعر رأسه كي يقول لهم ما يريد قوله. لكن أحدا لا يهتم.

يمروّن بجواره ويمضون. وفي مفارقة أخرى نعثر على من يعتقدون أنهم “نخب” لا يدركون أن الناس وضعتهم في قفص زجاجي تتفرّج عليهم وهم يمارسون تلك العادات التي ظنوا أن العوام لا يلاحظونها.

والعوام هم الزمان وهم الحقيقة. بينما يبقى أهل القفص الزجاجي ينظرون من خلف حيطان القفص نظرات مضحكة تسلّي المتفرّجين.

جذب الناس وقيادتهم نحو الأفضل في كل مجال، أمور لا يمكن أن تحصل بالقوة والغصب، ولا يمكنك أن تقنع أحدا بك بالصراخ. تخيّل لو أنك تريد أن تفرض على المستهلكين منتجا تكنولوجيا متخلّفا ولا يفيد ولا يقدم لهم لا الخدمات ولا المتعة.

 كموبايل لا يتصل أو تلفزيون بلا شاشة أو كمبيوتر شديد البطء. ماذا ستكون النتيجة؟ لن يشتريه أحد ولن تتلقى سوى التوبيخ والخسارة المالية. هذا ما يحصل عند تقديم الأفكار والآداب والفنون. الحقيقي والأصيل يبقى والمزيف يذهب إلى  ذلك القفص، قفص بارا ودوكسا.

 

  • كاتب سوري

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي