"أسفار بلزوني": جذور الاستعمار ليست هزلاً

2020-09-15

بلزوني

نجم الدين خلف الله*

ترك كلٌّ من جيامباتسيا بِلزوني (1778-1823) وسارّة باين (1755-1825) مُذكّراتٍ منفصلةً، صوّرَا فيها ما كابَداه في سفرهما إلى أرض مصر والنّوبة، في بداية القرن التاسع عشر. ثم ضاعت تانِك الرّحلتان في رفوفِ المَكتبات. وبعدَ عودة غريغوري غاري (1970) ونيكول أوجيرو (1970)، وهما رسّامان فرنسيّان، في السنوات القليلة الماضية، من رحلتهما المصريّة، غاصا في كنانيش رحّالة القرن التاسع عشر الغربيين، فَاكْتشَفا، وبمحض الصدفة، مذكّرات بلزوني ذات الستمائة صفحةً.

وقد شكّل هذا الكتاب المهجور، بالنسبة إليهما، كنزًا من الأحداث والمواقف والمغامرات اللافتة فأعادا تخيّل مشاهد طريفة باسترجاع ديكور القاهرة والأقْصُر، وما كانت تَرتديه ساكنتُها من الثياب الفضفاضة والشالات والضفائر خلال القرن التاسع عشر. استند الرسامان إلى تلك الأوراق لصياغة رواية مصوّرة - مع لوبي كاستيل - بعنوان "أسفار بلزوني إلى مصر والنوبة" (دار النشر FIBIB) صدر جزؤها الأول في 2017 والثاني في 2018، لتكمل مع الجزء الثالث والأخير هذا العام.

إذنْ تَعود بدايات القصّة إلى مقامَرةٍ عاشها رجلٌ إيطاليٌّ رَبْع القامة، يتجاوز المتريْن طولاً، عريض المنكبيْن، كان مغمورًا، يكتسب قوت يومه من تَليين الحَديد وصنع التجهيزات ضمنَ سِرْك حيواناتٍ في إيطاليا، في نهايات القرن الثّامنَ عشرَ، وما لبث أن فرَّ منها في اتجاه الشمال، نحو إنكلترا، حتى لا يتجرّع مرارةَ الاحتلال الفرنسيّ، في عهد الإمبراطور نابليون بونابرت (1769- 1823)، الذي وضع يده على شمال إيطاليا لخَمس سنواتٍ، بدءًا من 1805.

ومن إنكلترا انتقَلَ  بلزوني إلى مالطة، ومنها إلى مصر بِحُكم كَلَفِه الشديد بالمُغامرة وحبّه للاستكشاف. وعلى عين المكان، سيَتَخَصّص في ما سَيُسمى في ما بعد: Egyptologie أو علم المصريات، والتي لم تَكن تعني، آنذاك والآن، سوى التفنّن في سرقة آثار مصر عبرَ الطرق البريّة والبحرية، مع صياغة خطاب يتزيّا برداءٍ علميّ ليُبرّر نَهبَ تلكَ الكنوز.

وفي سبيل ذلك، قام الرّجل بجهود واضحة في التأقلم مع الأجواء الشرقيّة. وقد صرّحَ غريغوري غاري: "ما يعجبني في هذا الرجل أنّه كان، طيلة سفره، يناكفُ الأوروبيين الأكثر بورجوازيةً منه. ولذلك، تعلّم اللغة العربيةَ، ثمّ اندمجَ في البيئات المصريّة، يشدّ الحبال ويَجذبها".

وأما سارّة باين زوجتُه، فكانت هي الأخرى، طويلةَ القامة، مدمنةً على الكتابة، إذ كانت تخطّ في كنانيش ما تعاينُه أثناء إقامتها بمصر وبِسائر مناطق الشرق الأدنى، وصولاً إلى فلسطين، فقد شاركت زوجَها في البداية في عمليات الحفر والتنقيب عن الآثار ثم عَكَفَت على ما يهمّها، بالدرجة الأولى: دراسة أوضاع المرأة في تلك المنطقة من العالَم، دراسة محكومة بشعور من التفوّق كان يُغذّي تحرّكاتِها وأسئلتها.

وهكذا، كان من نتائج هذه الغزوة التي قاما بها سنة 1830، سرقة (ولنُسمّ الأشياء بمسمياتها) النصف الأعلى لرمسيس الثاني الذي يَزن سبعة أطنانٍ كاملة، ويقبع اليومَ، دون مساءلةٍ ولا اعتذار، في المتحف البريطاني بلندن. وذلك بعدَ أن وظّفَه القنصل الإنكليزي، وقتها، هنري صالت (1790-1804) وكلفه بنَهب هذا التمثال. وقد مكّنت هذه المهمة بلزوني من التعبير عن شماتته بالقنصل الفرنسي برناردينو دروفوني (1790-1890) الذي مثّل الاحتلالَ ونهب خيرات بَلَده. وطبعًا، لم يكن يَرَى أية غضاضة في الاستيلاء على آثار مصر. 

وأما سارة باين فقد تنكّرت في زيّ المَماليك، وقطعت المفاوزَ والفَيافي حتى تَتعرّف على أوضاع المرأة العربية من الداخل، وقد أوصلتها شجاعَتُها إلى أرض فلسطين، فكتَبَت عنها صفحاتٍ حيةً جريئَة، نرجو أن تحظى باهتمام الباحثين العرب. وقد صوّرتها ريشة لوبي كاستال في أوراقٍ أدمجتها ضمن الجزء الثالث من هذا الشريط المصوّر، فامتَزَجت القصصُ بعضها ببعض وتداخلت أبعاد الماضي بالحاضر، بين التاريخ والتقرير الصحافي. وكان مما حرّكَ الرّسامة كاستال، كما حرّك سارّة باين من قبل، أن المجتمع المصريّ الحاليّ هو مجتمع رِجاليٌّ ذكوري، فسعت إلى الغوص في الأعماق السيكولوجية لهذه المرأة الإنكليزية التي باتت تجوس خلال ديار العرب وتدرس عاداتهم وتقيِّد أحوالَهم.

وأمّا الحواراتُ، التي رافقت هذه الرواية المُصوّرَة، فَتنتمي إلى سجلِّ الفرنسيّة الشعبيّ، وتتخللها العبارات العاميّة المُعاصرة، في إسقاطٍ تاريخي مقصودٍ لها، مما يُضفي عليها طابعًا هزليًّا، تصنعه تلكَ الجمل المأخوذة من حياة أناسٍ عاديين، ينتقلون من الأوساط الأوروبية، وهي مليئة بالنفاق وحب الظهور، إلى أوساطٍ المصريين "الغَلابة"، مما يخلق تفاوتًا تاريخيّا مُضحِكًا. وقد وُفّقَ المؤلفون في إخراج هذه الحوارات وربطها بالصور التي تملأها شخصيّات هي مزيجٌ غير متجانس من الأغوات والقائمي مقاماتٍ والجنود، المنخرطين في الجيش العثماني.

وقد تُخُيِّلت مواقف مُضحكة ضمن الحبكة، حيث يضطر بلزوني إلى المساومة والبيع والشراء من أجل الحصول على بعض المزايا والوصول إلى الخبايا. ولا شكّ أنَّ المؤلفين اعتمدوا على تجاربهم الخاصة، فضلاً عما قرؤوه في كتب الرحلة تلك، ولذلك يدافعون عن تعاملهم الحرّ مع الدقة التاريخية وما تمليه من القيود والضوابط، إذ إنَّ هدفهم "إرجاع نسغ الحياة لهذه القصة المصوّرة ودفع القارئ إلى التساؤل والتفكير".

وها نحن نتساءل ونفكّر: ما الهدف الضمنيّ من مثل هذه الأعمال التي تمزج الخيال بالتاريخ، الواقع بالافتراض والجدّ بالهزل، ولاسيّما في قضية الجذور الأولى للاستعمار، وما خَلّفه من تدميرٍ للذاكرة الوطنيّة ونهبٍ لكنوزها من الآثار والمخلفات التاريخية النادرة؟ فلو لخَّصْنا قصة هذا الشّريط المصور لوجدناها حكايةَ مهاجر يعمل ما في وسعه لسرقة الآثار نكايَةً في الفرنسيين الذين احتلّوا بلده وكسبًا للمال. وقد كان بذلك يُهيئ إلى استعمار مصر والاستيلاء على نفائسها وإيقاع نفس المصير القاسي (الاحتلال الذي فرّ منه) على مصر وشعبها؟ ففي مغامراته هذه، لم يفعل بلزوني سوى الانتقال من وضع الضحيّة إلى وضع الجلاد.

من جهةٍ ثانية، إنّ الاستمرار في تَصوير العرب المسلمين، من خلال النموذج المصري الراهن، كفئاتٍ فظةٍ من المُساومين والطمّاعين، تُحتقر لديهم المَرأة، ولا ينظر إلى الأوروبي إلا كَثَريّ للاحتلاب، يُرسّخُ نزعة الاستعلاء في المُتخيّل الغربي ويغذي الأفكار النمطية والصور السلبية التي يحكمها منطق التعالي والهيمنة الذي حمله بلزوني من قبل، وتواصل ترسيخَه هذه الأعمال.

وأما إذا كان هذا الشّريط المصوّر يهدف إلى إدانة عمليات السطو التي قامت بها السلط الرسمية (القنصل) رفقةَ مُنتَدَبين من "الأيادي الصغيرة"، وإدانة ما أخفته تلك الحقبة من الفضائح والصّراعات المقنعة بين الإنكليز والفرنسيين وتُسابقهم في إفراغ البلد من نفائسه، فهو مُرحَّبٌ به. على أن ذلك لا يكفي ما دام غير قادر على خلق مساءلة قانونية معمقة تقضي ضرورةً، وهذا شرط قيامها، إلى استِرجاع مصرَ، لما نُهِبَ من كنوزها الأثرية.

 

  • كاتب وأستاذ جامعي تونسي مقيم في باريس






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي