“تشيرنوبيل” العائمة.. عندما ترك الاتحاد السوفييتي غواصاته الصدئة تتحول لكوابيس نووية!

2020-09-08

غواصة K-159 التي خرجت من الخدمة (التي أعيدت تسميتها باسم B-159 في عام 1989) في خليج بحر بارنتس ، 28 أغسطس 2003/ Wikipediaأطلقت الولايات المتحدة الأمريكية أول غواصة تعمل بالطاقة النووية، USS Nautilus، في عام 1954، مما أحدث ثورة في الحرب تحت سطح البحر. بحيث أصبحت تعمل تحت الماء عدة أشهر في كل مرة، بالمقارنة مع ساعات أو أيام في الغواصات التقليدية. وفي العام التالي، بدأ الاتحاد السوفييتي ببناء غواصته النووية الخاصة، المشروع 627، المعروف باسم “فئة نوفمبر”، من قبل “الناتو”. وكانت النتيجة عبارة عن قارب يتمتع ببعض المزايا مقارنة بالمنافسين الأمريكيين، لكن ذلك أظهر أيضاً اتجاهاً مزعجاً لحوادث كارثية من شأنها أن تثبت أنها مميزة لأسطول الغواصات السوفييتي المزدهر خلال الحرب الباردة، كما تقول مجلة National Interest الأمريكية.

الغواصات النووية السوفييتية

كانت المواصفات الأصلية التي تمت صياغتها في عام 1952 لغواصة نووية سوفييتية تهدف إلى استخدامها لإطلاق طوربيدات نووية هائلة في موانئ العدو والمدن الساحلية. في ذلك الوقت، كان الاتحاد السوفييتي يفتقر إلى الصواريخ بعيدة المدى أو القاذفات التي يمكن أن تضرب بسهولةٍ معظم الولايات المتحدة القارية. ومع ظهور هذه القدرات في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، تم تعديل تصميم المشروع 627 ليعكس دوراً مضاداً للسفن، مع ثماني أنابيب طوربيد موجودة في القوس، وأنظمة قتالية مأخوذة من غواصات الديزل من فئة Foxtrot.

إحدى غواصات فئة نوفمبر السوفيتية الروسية


أُطلق أول قارب من مشروع 627، K-3 Leninsky Komsomol، في عام 1957 وقام بأول رحلة له، في ظل الطاقة النووية، في يوليو/تموز 1958، تحت قيادة النقيب ليونيد أوسيبينكو، باستخدام تصميم مفاعل يشرف عليه العالم الشهير أناتولي ألكساندروف. أثبتت K-3 بسرعةٍ التحمل غير العادي للغواصات النووية، حيث شرعت في رحلات بحرية لمدة شهرين أثناء غمرها. في عام 1962، أصبحت أول سفينة سوفييتية تسافر إلى القطب الشمالي، بينما كانت السفينة الشقيقة، K-133، أول غواصة تعبر مضيق دريك المغمور، في رحلة بحريةٍ طولها 21 ألف ميل واستغرقت 52 يوماً.

وسرعان ما انضمت K-3 إلى 12 سفينة إضافية من “فئة نوفمبر”، بتصميم منقَّح تم تعيينه لمشروع 627A، يمكن تمييزه بقبة سونار، إضافة إلى نموذج أوَّلي واحد للمشروع 645 مدعوم من مفاعل VT-1 التجريبي المعدني السائل، مع زيادة كفاءة الطاقة. تم نشر القوارب الأربعة عشر من “فئة نوفمبر” في الفرقتين الثالثة والسابعة عشرة من الأسطول الشمالي، على الرغم من نقل أربعة في وقت لاحق، إلى أسطول المحيط الهادئ عن طريق العبور تحت الجليد في القطب الشمالي.

المنافسة مع الغواصات النووية الأمريكية

كانت مفاعلات 627 VM-A أقوى من نظيراتها الأمريكية آنذاك، حيث سرّعت مشروع 627 إلى ثلاثين عقدة (34.5 ميل في الساعة). ومع ذلك، افتقرت 627 إلى جودةٍ أخرى متوقعة عموماً من الغواصة النووية: كانت المفاعلات صاخبة للغاية، مما جعل من السهل اكتشاف قوارب المشروع 627 على الرغم من استخدام المراوح الخفية، وأول طلاء مضاد للسونار يتم تطبيقه على غواصة نووية. هذا الافتقار إلى التقدير، جنباً إلى جنب مع مجموعة السونار السفلية، جعل “فئة نوفمبر” غير مناسبة لصيد الغواصات المناوئة.

ومع ذلك، لا تزال 627 تتعامل مع البحرية الأمريكية ببعض المفاجآت. في عام 1965، تمكنت K-27 من التسلل إلى حاملة الطائرات المضادة للغواصات USS Randolph قبالة جزيرة سردينيا، وإكمال تشغيل طوربيد وهمي قبل أن يتم اكتشافها. في عام 1968، أثبت قارب آخر من “فئة نوفمبر” أنه قادر على مطابقة السرعة مع حاملة الطائرات “يو إس إس إنتربرايز” بينما تحرك الأخير بكامل قوته، مما تسبب في حالة من الذعر في قيادة البحرية وأدى إلى اعتماد الغواصة الهجومية السريعة من طراز “لوس أنجلوس”، التي لا تزال في الخدمة اليوم.

ومع ذلك، أدى نقص الحماية في “فئة نوفمبر” من الإشعاع إلى مرض الطاقم المتكرر، وعانى العديد من القوارب من أعطال متعددة في المفاعلات على مدار حياتهم. قد يفسر هذا الافتقار إلى الموثوقية سبب قيام الاتحاد السوفييتي بإرسال غواصات “فوكستروت” التقليدية بدلاً من الغواصات من طراز “نوفمبر” أثناء أزمة الصواريخ الكوبية.

كوارث بحرية سوفييتية متكررة

تقول المجلة الأمريكية، إن الكوارث المتكررة والكارثية على متن قوارب المشروع 627 السوفييتي تبدو تقريباً بمثابة إعلانات خدمة عامة مروعة لكل شيء يمكن أن يحدث بشكل خاطئ مع الغواصات النووية. لم تعكس العديد من تلك الحوادث العيوب التكنولوجية فحسب، بل تعكس ثقافة السلامة الضعيفة للبحرية السوفييتية.

بدأت غواصة K-8 بالتهالك في 13 أكتوبر/تشرين اﻷول 1960، عندما تمزقت التوربينات البخارية؛ مما أدى تقريباً إلى انصهار المفاعل، بسبب فقدان المبرد. كان الطاقم قادراً على تحكيم نظام تبريد المياه في حالات الطوارئ، ولكن ليس قبل أن يلوث الغاز المشع السفينة بأكملها، مما أدى إلى انتشار الإشعاع بين العديد من أفراد الطاقم بشكل خطير. أما غواصة K-14، التي ستميز نفسها في الإخلاء الطبي لبعثة استكشافية بالقطب الشمالي في عام 1963، فتعرضت أيضاً لانهيار مفاعل في عام 1961، مما استلزم استبداله في السنوات التالية.

الغواصة السوفيتية K-14
في فبراير/شباك 1965، وقع خلل بغواصة K-11 في حادثين منفصلين، حيث أخطأت أطقم الإصلاح في تشخيص الآثار المترتبة على الحدث الأول واتبعوا إجراءات غير صحيحة خلال الحدث الثاني، وأُجبروا في النهاية على إخلاء غرفة المفاعل، مما أدى إلى اندلاع حرائق عبر السفينة. وقام الطاقم السوفييتي بإغراق السفينة بـ250 طناً من الماء لإطفاء النيران؛ مما أدى إلى انتشار المياه المشعة في جميع أنحاء السفينة بأكملها. وتعرض سبعة رجال للإشعاع بشدة، وتطلب المفاعل استبدالاً كاملاً قبل إعادته إلى الخدمة الفعلية بعد ثلاث سنوات.

و​​في 8 سبتمبر/أيلول 1967، أول غواصة سوفييتية K-3 تبحر بالطاقة النووية، في دورية للبحر الأبيض المتوسط عندما اندلع حريق هيدروليكي في أنابيب الطوربيد، مما أدى إلى تراكم أول أكسيد الكربون وأسفر عن مقتل 39 بحاراً. أُغمي على طاقم القيادة بأكمله، باستثناء الضابط الوحيد الذي تمكن من الصعود إلى سطح السفينة، وإنقاذ السفينة. خلص تحقيق لاحق، إلى أن الحريق ربما كان بسبب تدخين بحارة في مقصورة الطوربيد.

في 24 مايو/أيار 1968، تعرضت الغواصة K-27 لانهيار بمفاعلها الجانبي في بحر بارنتس، على الرغم من تحذير الطاقم من أن المفاعل قد تعرض لخلل مشابه في عام 1967، ولم يختبر ذلك بعد وما إذا كان يعمل بشكل صحيح. تم تعريض الطاقم المكون من 124 بأكمله للإشعاع بالغاز المشع، لكن الكابتن ليونوف رفض اتخاذ إجراءات الطوارئ حتى ساعات لاحقة، بسبب إيمانه القوي بالمفاعل. وبعد فترة وجيزة من عودة السفينة إلى الديار على مفاعلها الأيمن، توفي خمسة من أفراد الطاقم من التعرض للإشعاع في غضون شهر، وتبع ذلك خمسة وعشرون آخرون في السنوات اللاحقة. وبعد محاولات إصلاح K-27، ثبت أن ذلك مكلفاً للغاية، لذا فقد تم إغراق الغواصة بخليج ستيبوفوي في المياه بعمق 33 متراً فقط، بدلاً من ثلاثة إلى أربعة آلاف متر التي تطلبها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

الكوارث البحرية السوفييتية لم تتوقف عند هذا الحد، ففي عام 1970، شاركت الغواصة K-8 المشؤومة في مناورات Okean 70 الحربية قبالة خليج Biscay عندما عانت من أعطال متزامنة بمركز القيادة وغرفة التحكم في المفاعل؛ مما أدى إلى انتشار حريق عبر نظام تكييف الهواء. تمكن القبطان من صعود القارب إلى السطح، وكاد الطاقم يفلت من خسائر معتدلة في الأرواح، لكن مواجهة عاصفة بحرية، أدت إلى غرق الغواصة التالفة في قاع المحيط، وعلى متنه ثمانية وخمسون من أفراد الطاقم وأربعة طوربيدات نووية.


غواصات فئة نوفمبر السوفيتية الصدئة

أخيراً بدأت قوارب “فئة نوفمبر” بالتقاعد في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، ولكن ليس قبل تعرضها لعدد قليل مشابه للحوادث الأخيرة. ونظراً إلى أن الاتحاد السوفييتي خلفه روسيا المعوزة اقتصادياً، تُركت العديد من الغواصات النووية التي خرجت من الخدمة لتصدأ بوقودها النووي على متنها؛ مما أدى إلى مخاوف تتعلق بالسلامة من الخارج.

حينها، تدخَّل المانحون الدوليون بـ200 مليون دولار؛ لإلغاء هذه الهياكل في عام 2003. وتم لحام عوامات واهية للغواصة K-159؛ لتمكين سحبها إلى موقع الخرداوات، ولكن عاصفة بحرية مزقت إحدى الطوافات، مما تسبب في بدء انهيار الغواصة الصدئة. وفشلت البحرية الروسية في حل المشكلة حتى ساعات لاحقة، حيث غرقت الغواصة، وأخذت 800 كيلوغرام من الوقود النووي المستهلك وتسعة من البحارة العشرة الذين يحرسون الطوافات معها. وتعثرت خطط جمع حطام الغواصة K-159 حتى يومنا هذا، بسبب نقص التمويل.

هذا مجرد سرد للحوادث الكبرى على قوارب “فئة نوفمبر”، وعمليات الغواصات، بطبيعة الحال، محفوفة بالمخاطر؛ فقد فقدت البحرية الأمريكية أيضاً غواصتين خلال الستينيات، على الرغم من أنها لم تفقد أي غواصة منذ ذلك الحين. لكن الغواصات الروسية على أي حال، قدمت دروساً مؤلمة، كان ثمنها الأرواح البشرية التي فُقدت أو أصيبت بجروح لا يمكن علاجها، وفي المخاطر الملازمة لاستغلال الطاقة النووية، وفي الثمن الباهظ الذي يجب دفعه مقابل الأخطاء التقنية وإجراءات الأمان المتراخية.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي