جون لوي فابياني: هل الرواية علم من العلوم الإنسانية؟

2020-09-01

جون لوي فابيانيشكير نصرالدين*

تروي الحكايات الأدبية مسارات إنسانية، توثق الحياة الاجتماعية وتندس هناك حيث يستحيل الاستقصاء. إنها تمدنا بأدوات قصد اكتشاف العالم وفهمه. وجود الأدب أقدم من علوم الإنسان. لقد نهض بمجموعة كاملة من الوظائف التي تناسب ابتكار الأشكال، بل يصدر مباشرة عن رهانات معرفية: حفظ ذاكرة جماعة من الجماعات، إظهار انسجام ثقافة من الثقافات، وصف تحولات العالم. هكذا في الوسع قراءة قصيدة هوميروس وكذا أعمال أدب العصر الوسيط البارزة. في القرن 19 اقترن نجاح الرواية الحديثة بإبراز قدرتها على وصف العالم كما هو وربما على الأخص كما كان يتغير. وفي هذا السياق كان هونوري دو بلزاك يقصد بعمله منافسة الحالة المدنية: مؤلفه الضخم «الكوميديا البشرية» تحركه غاية بعينها ألا وهي الوصف الموضوعي للواقع الاجتماعي. كما بذل غوستاف فلوبير وقتا غير محدود للتحقق من دقة توصيفاته، وكان زولا ينظر إلى مهمته كأنها مهمةُ عالِم غرضُه التحليل السريري للأمراض المجتمعية.

نحو ما هو غير مرئي أو يتعذر النفاذ إليه

بصفة عامة، يظل الأدب شكلا لا نظير له من أشكال التوثيق المجتمعي. إن التخييل لا يدمر قوة الواقعي، ولكنه ينظمه وفق حبكة سردية تبرز نقاطه الأشد قوة، إنه يتجه في كل صوب بما في ذلك نحو ما هو غير مرئي أو يتعذر النفاذ إليه. نذكر أن العلوم الاجتماعية، بمثابة مساعٍ ازدهرت في المجتمعات المنفتحة، وفق عبارة كارل بوبر، التي تفترض درجة دنيا من الحرية في الاستقصاء، وإمكانية نشر النتائج. ولهذا السبب يعد اللجوء إلى الأدب ضروريا حينما تكون الغاية معرفة ما يحدث في المجتمعات المغلقة. ليس هناك سوسيولوجيا لشكل الاعتقال في الغولاغ، لكن هناك أدب شاسع، على الأرجح، أحد أقوى الآداب في القرن العشرين، الذي وصلنا بواقع كان سيظل مجردا، والذي يميل الكثير من علماء الاجتماع إلى إنكاره، أو في الحد الأدنى، التقليل من شأنه، عند نشر أعمال كُتَّاب منشقين. وفي هذا المضمار، يمكن قراءة أرخبيل الغولاغ (1973) لألكسندر سولجنتسين بصفته حكاية استقصاء يستند إلى مئات من الشهادات، بصفته مرادفا للاستجوابات شبه الموجَّهة التي يلجأ إليها علماء الاجتماع.
لا يختص هذا البعد التوثيقي بالماضي، أو بمواقف قصوى، إذا كانت استقلالية الحقل الأدبي قد أدت إلى بروز أدب أكثر تجريدا منذ جيمس جويس، وعلى الأخص منذ ظهور الرواية الجديدة الفرنسية، فإن العودة إلى أسس توثيقية في كتابة التخييل ظاهرة للعيان بجلاء منذ سنوات معدودة. إذ عمد كُتاب من أمهر كتاب جيلهم إلى الإفصاح عن العالم عبر نصوصهم. نذكر هنا مسعى لوران موفينيي الذي تستند روايته الرائعة «وسط الحشود» (2006) إلى مأساة ملعب هيسل لكرة القدم في بلجيكا/ حيث لقي عشرات من المشجعين حتفهم سحقا تحت الأقدام جراء الهلع. وبدون التضحية بمتطلبات الشكل الأدبي قدَّم مايليس كيرانغال مؤلفات تناولت بحدة بالغة ظواهر مجتمعية مثل «مولد جسر» (2010) أو «ترميم الأحياء» (2014). كما يجب الاعتراف لميشيل ويلبيك في الجسيمات الأولية (1998) وسيروتونين (2019) بقدرته على وصف مظاهر أقل إلزاما في حياتنا الجماعية بوضوح لاذع. وفي الأخير، كل من أراد النهوض بسوسيولوجيا كورسيكا المعاصرة من مصلحته استلهام روايات جيروم فيراري مثل «الموعظة من سقوط روما» (2012) و«على صورته» (2018)، في غياب تدوين سوسيولوجي حقيقي للنزعة القومية الكورسيكية، وللتحولات القوية التي أصابت الجزيرة منذ نصف قرن.

سوسيولوجيا: مخاطر مغازلة التخييل

ينجح الأدب، بالحدس تقريبا، في القبض على مختلف ثنايا العالم المجتمعي، وأحيانا حتى استشعار تحولاته. لهذا السبب فهو ضروري، أكثر من أي وقت مضى، كي نفهم العالم، على الأخص في مجتمع تغلب فيه الصورة والمعلومة المستمرة. ثم إن السوسيولوجيا الكبرى لم تستنكف أن تستقي بعضا من أدواته: هكذا كان بيير بورديوه يقر عن طيب خاطر بأنه كي يجد أسلوبه استلهم نموذجين عن وعي بروست وفلوبير: كانت فنون البلاغة السارية في السوسيولوجيا غير ملائمة بالكامل. وفي المقابل، يشير جاك دوبوا إلى أن بروست كان سوسيولوجيا مرموقا بدرجة عالية. وسوف أقرّب بورديوه ولابرويير، من شدة ما يشبه المَيْز (1979) الأدب الأخلاقي في العصر الكلاسيكي. اتبع بعض السوسيولوجيين مسارا مهنيا مزدوجا، روائيا وعالما: تلك مثلا حال راندال كولينس «الحرب المدنية الثانية» (2018) وكوثر حرشي «فداحة التخريب» (2011). يبقى أن السوسيولوجيا تخاطر عند الإفراط في مغازلتها للأدب، إن لها خصائصها التي في وسعها الافتخار بها، وتكمن قوتها في قدرتها على التحكم، على الأقل إلى حد ما، في نمط إنتاج المعطيات وظروف تحليلها. وأثناء ذلك فإن علماء الاجتماع يتخلون عن قسط من طموحاتهم السردية، لكنهم يظفرون بالقدرة على جعل أعمالهم قيد اختبار النقاش النقدي، وذلك شرط لازم لحيوية مبحثهم، وأيضا للنقاش الديمقراطي.

جون لوي فابياني
Sciences Humaines, Janvier 2020. N° 321.

٭ كاتب ومترجم مغربي







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي