سؤال الفلاسفة عن الجدارة بالحكم: الشعب أم النخبة؟

2020-07-16

أي مدينة نؤسس لها (لوحة للفنانة نور بهجت)

أبو بكر العيادي*

إذا استثنينا الشعوب الواقعة تحت سلطة أنظمة استبدادية، فإن معظم شعوب الأرض غير راضية عن حكّامها، وعادة ما تكون الانتخابات عقابا للحاكم المتخلّي، وتنصيبا لخلف سرعان ما يبدي شعبه اعتراضا عليه، والدّعوة إلى إسقاطه في الانتخابات اللاحقة. فمن الذي يصلح حقّا أن يقود شعبه؟ الأرستقراطيّ الثريّ، أم المثقّف ابن الشّعب، أم خرّيج المعاهد العليا، أم الفيلسوف؟

من الأجدر بالحكم؟ سؤال طرح منذ القدم وتجادل فيه الفلاسفة حدّ الاختلاف. فقد أثاره أفلاطون (428-348 ق م) وكان سليل نسب وحسب، فهو من أسرة نبلاء من أثرى أهالي أثينا، ولكنه كان يميل إلى انتخاب الأفاضل، ليس من جهة ثرائهم المادي، بل من جهة ثرائهم الفكري.

في جمهوريته، يتخيل أفلاطون مدينة فاضلة يحكمها العدل، ويسوسها فلاسفة ملوك، إذ ينطلق من فكرة مفادها أن المجتمع مكون من طبقات ثلاث: الحرفيون وهم ليسوا سوى رغبة وغرائز؛ والحراس الذين يحمون المساكن وهم يتحلّون بالقوة والشرف؛ ثم الفلاسفة، الذين يملكون الحكمة والعقل، وهم المؤهلون في تقديره لقيادة الجميع.

الأولوية للنخب

إذا شمل التناسق مختلف الأطراف، ونهض كل واحد بما يوكل إليه سارت الأمور على ما يرام، وساد العدل في المدينة. بيد أن تلك البنية الهرمية تتأسس أيضا على عدم التكافؤ في المعرفة، ولا يمكن في تصوره أن نعهد بالحكم لشعب يخضع لكل الأوهام، كما لا يمكن أن نعهد به للمحاربين، رغم شجاعتهم، لأنهم بعد تربية جسمانية مكثفة يفقدون القدرة على التمييز بين الخير والشر، ولا يبدون اهتماما بالحقيقة.

  بين دكتاتورية النخب وأوهام الشعب تضيع أفكار الحق والجمال والخير

عندئذ لا يبقى إلا الفلاسفة لقيادة المدينة، لأنهم تلقوا تدريبا فكريا طويلا، وصار بمقدورهم أن يتعاملوا بنزاهة مع أفكار الحق والجمال والخير، تلك التي يعتبرها أفلاطون حقائق واقعية تتعدى المظاهر. أولئك الأفراد الذين ينتسبون إلى طبقة عليا، وتلقوا تربية متينة، يمتلكون كفاءات تؤهلهم لأن يكونوا على رأس بقية الناس، وذلك ليس امتيازا فقط بل هو أيضا واجب، فأدواء الناس لا تنتهي إلا متى وصل الأصفياء والفلاسفة إلى السلطة، أو متى بدأ قادة المدائن، بفعل إرادة إلهية، في التفلسف. وفي اعتقاده أن حيازة الفلاسفةِ الحكمةَ ترغمهم على الحكم.

كذلك شارل لويس دو سوغوندا الشهير بمونتسكيو (1689-1755) أحد أعلام الأنوار، ففي رأيه أن الشعب أعمى ولا بدّ أن يقوده المستنيرون. هذا الفيلسوف الليبرالي، صاحب “روح القوانين” الذي استلهمت منه دول أوروبية دساتيرها، كان هو أيضا سليل النبلاء، فقد كان بارونا في لابريد قرب مدينة بوردو، ومن الطبيعي أن ينظر إلى الشعب نظرة استعلاء، إذ كان يقول إن الشعب يقع دائما تحت سلطة الانفعالات والغلوّ، لطبع فيه، ولا يمكنه أن يحكم على أشياء تقع تحت المعنى، ما يعني أن نظره قصير، والمسائل التقنية فوق مداركه.

ومن ثَمّ كان انتقاد مونتسكيو للديمقراطية، وإيثاره نمطا تشريعيا مستوحى من الملكية البرلمانية الإنجليزية، حيث يقترح سلطة تشريعية مؤلفة من غرفتين، واحدة للنبلاء، وأخرى لممثلي الشعب، ما يضمن اعتدالا لا تكون الحياة السياسية سليمة من دونه.

ولكن من يضمن أن النخبة المستنيرة ستحترم الحريات الفردية مثلا، لاسيما أن من يحاسبونهم لا يملكون أسباب التمييز بين حق وباطل، ما دام قد وصفهم هو نفسه بالعمى والانقياد للمواقف الانفعالية؟

يردّ مونتسكيو على منتقديه بأن الشعب أعمى ولكنه يملك حاسة الشّمّ، يدرك بحاسته لمن ينبغي أن يعهد بجزء من سلطته، لأن له قدرة طبيعية على تمييز الاستحقاق، ينطبق ذلك على المشرعين مثلما ينطبق على الوظائف التي تقتضي الخبرة والتجربة. فالشعب في نظره يستطيع التمييز بين قائد عسكري جيد وقاض عادل، وعادة ما يحتكم في اختياره إلى سيرتهم الذاتية. ولما كانت تلك حدود قدراته حسب مونتسكيو، فليس أمامه إلا أن يخضع لحكم النخب ويسلمها طوعا مقاليد السلطة.

أبناء الشعب

غير أن مفكرين آخرين لا يذهبون هذا المذهب، فأرسطو (384-322) مثلا يؤكد في تصنيفه للأنظمة السياسية أن “الأوليغارشيا” تطابق الوضع الذي يكون فيه مالكو الثروات في سدّة الحكم. وفي رأيه أن نظاما كهذا هو انحراف وكارثة، لأن الأثرياء لا يرومون سوى خدمة مصالحهم، وبما أن البسطاء يحسدونهم فإن الوضع الاجتماعي سيؤول إلى الانفجار، لأن التفاوت الاجتماعي والهوة الاقتصادية الشاسعة هما من عوامل الانحلال السياسي.

فهو يعارض إذن أستاذه أفلاطون، ويرى أن المدينة ينبغي أن تتكون من أناس متماثلين ومتساوين، وأن من الواجب أن يشعر كل واحد منهم أنه معنيّ بالحكم. وأرسطو في الحقيقة منشطر في هذه المسألة، جانبه الأرستقراطي يدفعه إلى التمسك بانتخاب من هم الأفضل، أي أولئك الذين شغلوا مناصب تتطلب مؤهلات وأثبتوا كفاءتهم، كالعساكر مثلا، بينما يميل به جانبه الديمقراطي إلى ضرورة إشراك المواطنين، ولو عن طريق القرعة، حتى تتناوب وضعياتهم بين محكومين وحاكمين. غير أنه يصرّ على استبعاد ذوي المال، لأن من وجوه الحرية في اعتقاده أن يكون الفرد بالتناوب حاكما ومطيعا، وهذا لا يمكن أن ينطبق على الأثرياء لأنهم لا يريدون الطاعة ولا يقرّون بها، بل يسعون جهدهم لإبقاء الوضع على حاله.

بيير جوزيف برودون  يعترض بشدة على حكم النخبة

مفكر آخر هو بيير جوزيف برودون (1809-1865) يعترض بشدة على حكم النخبة، فقد بيّن في كتابه “نظام التناقضات الاقتصادية أو فلسفة البؤس” أنّ التقدم لا يستفيد منه إلا عدد محدود من المحظوظين الذين يؤلفون نخبة الشعب، بينما لا يعرف الشعب غير التراتبية والاستغلال.

وفي اعتقاده أن التفاوت ليس مسألة طبيعية بل هو نتاج التاريخ والعنف، ومن ثَمّ يمكن بل يلزم القضاء عليه. ولكي يقوم مجتمع متساو فعلا، ينبغي على البشر أن يتعاونوا دون أن يسودهم عَرفٌ أو ملك. وهو ما عرف عنده بنظرية التبادلية mutuellisme.

وبرودون الذي كان يوصف بالأنارشيست، يحمل مشروعا قوامه صنع الإنسان منذ بداية مراحل التعليم الأولى، تعليم واسع الانتشار يحقق للجميع المساواة في الوظائف وتكافؤ المؤهلات. ويدعو، مثل أفلاطون، إلى توزيع عادل في الكفاءات، ولكن دون تقسيم ثابت. وفي رأيه أن خير نظام هو النظام الجمهوري لأن الجمهورية تقصي التمييز الطبقي، حيث يمكن لأي مواطن أن يرتقي إلى المناصب العليا. كما يدعو إلى إلغاء المِلكية وتعويضها ببنية أفقية يكون فيها العامل والمالك واحدا.

أما روسّو (1712-1778) فهو يرى أن المصدر الوحيد المشروع الذي يستطيع وضع القوانين هو الشعب، والسيادة لا تكون إلا له، وهو الوحيد الذي تصدر عنه إرادة عامة لا تراعي إلا المصلحة المشتركة. وخلافا لمونتسكيو الذي يقترح نوابا عن الشعب، يجزم روسو أن الشعب، في اللحظة التي يمنح فيها ممثلين عنه، يفقد حريته.

ويفضل صاحب “العقد الاجتماعي” النموذج الإغريقي في أثينا، حين يلتقي المواطنون في ساحة عامة (أغورا) للمداولة واختيار المسار الذي يتبعونه. غير أن فكرة روسو لم تصمد أمام الواقع، إذ عاد ليقبل أن يكون للشعب نوابٌ، ولكن بشروط، كقِصر المدة النيابية والتجديد، وإمكانية تنحيتهم إذا خالفوا ما عاهدوا الشعب عليه، وتبقى النخبة في رأيه مجرد منفذين لإرادة الشعب.

ولكن ما هي النخبة؟ يقول الفيلسوف جاك رانسيير إنها تحتمل معنيين: بالمعنى الأول، هي مجرد تشكيلة مثلى، تضم من تميز أكثر من سواه في هذا النشاط أو ذاك، كالرياضيات والسينما وكرة القدم وسواها، ولكنها لا تشكل مجموعة اجتماعية.

أما في معناها الثاني فهي فعلا مجموعة اجتماعية تضم أولئك الذين يحكمون الآخرين، ويشرّعون حكمهم واستغلالهم إياهم، فهم يمثلون طبقة مهيمِنة موجودة فعلا، ولكن تميّزها المزعومَ الذي يشرّع هيمنتها تلك مفقودٌ. فالتفوق الدراسي الذي جعلته فرنسا مثلا معيارا لاختيار من يسيرون البلاد ليس صائبا في رأيه، إذ دلّت التجربة أن المتفوقين يديرون ظهورهم للسياسة ويفضلون ممارسة معارفهم في مجالات اختصاصاتهم، بينما ينصرف الفاشلون منهم للإمساك بدواليب الدولة.

ما يعني أن الديمقراطية، التي تعني حكم الشعب عن طريق الشعب لأجل الشعب، أوصلت النخب إلى السلطة، فتحولت إلى حكم النخبة للشعب، وهو ما يناقض فكرة الديمقراطية نفسها.

ويبقى السؤال أعلاه قائما: أيهم أجدر بالحكم؟

 

  • كاتب تونسي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي