مراجعات فكرية لزمن تحولات الجائحة.. ماذا قال مفكرو وفلاسفة الغرب؟

2020-06-20

على مدار التاريخ، كانت الأوبئة من أكبر صنّاع التغيير في مسار البشرية، وحوّلت مسار الحضارات الإنسانية وغيّرت المجتمعات والسياسات والاقتصاد، وأسهمت في ولادة أفكار وفلسفات جديدة، وبالتزامن مع إجراءات مواجهة تفشي جائحة كورونا، بدت أزمة الجائحة بمثابة "اختبار هائل" للعولمة والفلسفات التي سادت العالم المعاصر منذ الحرب العالمية الثانية.

وأنتجت الأزمة مراجعات للأفكار السائدة، ونقدا ذاتيا دوّنه مفكرون وفلاسفة وعلماء اجتماع غربيون، وجدوا الفرصة سانحة للتعبير عن تصوراتهم تجاه مستقبل الحضارة الغربية وإزاء المجتمعات الحديثة التي تعيش جملة من الاضطرابات والتحولات غير المسبوقة.

فيروس

في وقت قياسي ألّف الفيلسوف السلوفيني المثير للجدل سلافوي جيجيك كتابا صدر في نسخة إلكترونية بعنوان "فيروس"، واستعرض فيه آثار الأزمة على عقولنا وعلى نظام اجتماعي اقتصادي لم يعد فعالا، وتوقع أن تجلب الطوارئ المرتبطة بالجائحة معها حالة استبدادية جديدة حتى لو عززت الروابط المجتمعية، مشيرا إلى أن الخروج من الكارثة غير المؤقتة يحتمل أن يمر عبر ما سمّاها "شيوعية الكارثة".

وحول كيفية الصمود في ظل حالة الطوارئ المستمرة، علّق جيجيك بأننا "نعيش تجربة استثنائية، يمكن أن تكشف عن الأسوأ أو الأفضل فينا، ولمواجهة الوحدة، ربما يكون الحل الأمثل هو المضي قدمًا في روتين يمنعنا من الاستسلام للفوضى والحفاظ على النظام لنكون على استعداد للغد".

ويقول جيجيك في كتابه إن العزل لن يصبح حلا ولا مزيدا من الحجر الصحي، مؤكدا الحاجة إلى "تضامن كامل غير مشروط واستجابة منسقة على المستوى العالمي، وهو شكل جديد مما كان يسمى الشيوعية سابقا، وإذا لم نوجه جهودنا في هذا الاتجاه فقد تصبح مدينة ووهان الحالية هي نموذج المدن المستقبلية (…) إذا عزلت الدول نفسها فستبدأ الحروب (…)".

جدل فرنسي

وكما كانت فرنسا في قلب الأزمة الصحية العالمية، ساهم مفكروها ومثقفوها المعاصرون في المراجعات التي شملت فلاسفة وعلماء اجتماع ومثقفين وكتّابا اختلفوا فيما بينهم.

فبينما استحضر الفيلسوف الفرنسي برونو لاتور "المبدأ الوقائي"، حذر عالم الاجتماعي التسعيني إدغار موران مما سماه "الهوس بالربح"، كما حذر مؤرخ الفلسفة الفرنسي أندريه كومت-سبونفيل من أن "يحل النظام الصحي محل النظام الأخلاقي".

وكان الفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري قد أثار موجة من التعليقات والجدل، عندما اعتبر أن جائحة فيروس كورونا المستجد ستشكل مرحلة جديدة في "انهيار الحضارة اليهودية المسيحية" بحسب التحليل الذي قدمه في كتابه "الانحطاط"، وأفاد أونفري بأن هذا الفيروس يندرج ضمن حركة الانهيار، وأن أوروبا أصبحت بمثابة "عالم ثالث جديد"، مشيرا إلى كون تفشي كورونا يتزامن مع انهيار أيديولوجية أوروبا التي تتبع السياسة الليبرالية الهادفة إلى الربح فقط، بحسب تعبيره.

من جانبه، اعتبر عالم الاجتماع موران -الذي ترجمت كتبه للعربية- أن العولمة حوّلت العالم إلى سوق كبيرة، وذلك من خلال التكنولوجيا المتطورة التي قرّبت المسافات بين القارات، ولكن في الوقت نفسه فإن تجاوز عائق المسافات لم يؤدِّ لإرساء الحوار بين الشعوب.

وفي الواقع أدى هذا الوضع إلى تعزيز فكرة الانغلاق على الهوية، وصعود السياسات القومية الخطيرة، بحسب إفادة الفيلسوف الفرنسي في حواره مع الكاتب نوتشو أوريديني، أستاذ الفلسفة الإيطالي.

 الفيلسوف الفرنسي موران ألّف عشرات الكتب منها "وحدة الإنسان" و"الإنسان والموت" و"ثقافة أوروبا وبربريتها" و"عنف العالم"

ويضيف موران أن "هذه السوق العالمية التي نعيش فيها لم تتمكن من خلق مشاعر الأخوّة بين الشعوب، بل على العكس من ذلك خلقت حالة من الخوف من المستقبل. واليوم جاء فيروس كورونا ليسلط الضوء على هذه المفارقة ويجعلها أكثر وضوحا للجميع، وهذا الوضع يذكرني بالأزمة الاقتصادية في ثلاثينيات القرن الماضي، عندما اتجهت دول أوروبية، وبشكل خاص ألمانيا، نحو القومية المتطرفة".

نقد أميركي

وفي حواره مع موقع تروث أوت الأميركي غير الربحي، ناقش المفكر وعالم اللسانيات ناعوم تشومسكي أستاذ علم اللغة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا الحائز على جائزة جامعة أريزونا -المؤلف لأكثر من 120 كتابا فضلا عن آلاف المقالات- كيف أن "الرأسمالية النيوليبرالية نفسها تقف وراء التعامل الفاشل للولايات المتحدة مع جائحة كورونا".

ويقول تشومسكي إن الوباء كان متوقعا قبل ظهور جائحة كورونا بوقت طويل، لكن الإجراءات الاستباقية اللازمة للتعامل مع مثل هذه الأزمة منعتها الضرورات القاسية لنظام اقتصادي لا يهمه منع وقوع كارثة مستقبلية، لأن ذلك غير مربح اقتصاديا.

المفكر والناشط السياسي وعالم اللسانيات الأميركي ناعوم تشومسكي

ويوضح المفكر الأميركي -المعروف بنقده الحاد لما يسميه "الليبرالية المتوحشة" وللسياسة الخارجية لحكومات بلاده- أن الولايات المتحدة لديها أسوأ سجل في الاستجابة للأزمة، مبينا أن العلماء حذروا من الجائحة لسنوات، خاصة منذ وباء سارس عام 2003، وكان الوقت مناسبا منذ ذلك الحين للبدء في تطبيق أنظمة الاستجابة السريعة استعدادا لتفشي المرض، وتخصيص الطاقة الاحتياطية اللازمة، وكان من الممكن أيضا اتخاذ مبادرات لتطوير دفاعات وأنماط علاجية للفيروسات المشابهة والقريبة.

ويستدرك تشومسكي بأن الفهم العلمي ليس كافيا، و"يجب أن يكون هناك شخص ما يلتقط الكرة ويركض بها"، لكن هذا الخيار ألغي بسبب أمراض النظام الاجتماعي والاقتصادي المعاصر.

ويتابع "كانت إشارات السوق واضحة، ليس هناك ربح في منع وقوع كارثة مستقبلية. كان يمكن أن تتدخل الحكومة، ولكن هذا ممنوع بسبب العقيدة الرأسمالية الحاكمة التي تقول إن "تدخل الحكومة هو المشكلة"، مما يعني أنه يجب تسليم عملية صنع القرار بشكل كامل إلى عالم الأعمال، وهو مكرس للقطاع الخاص والربح الخاص وليس فيه أولئك الذين قد يهتمون بالصالح العام".

ويضيف "لقد أعطت السنوات التي تلت ذلك جرعة من الوحشية النيوليبرالية للنظام الرأسمالي غير المقيد وأنتجت أشكالا ملتوية من الأسواق" بحسب تعبيره.

وفي مقاله المطوّل بمدونته الشخصية، يعتبر الأكاديمي والفيلسوف الأميركي غريغوري فرناندو باباس أن الأزمة الحالية فرصة لإحداث تغييرات عميقة في المجتمع المعاصر، لكنها أيضا قد تعني فرصة للسلطويين والرجعيين وضيقي الأفق، بحسب تعبيره.

ويرى باباس أنه من الصعوبة بمكان التنبؤ بمستقبل العالم في ظل الجائحة، وفي المقابل "يجب علينا بدلاً من ذلك إجراء مراجعة للدروس التي نتعلمها، حتى لا ننسى تجربتنا المشتركة".

ويقول الأكاديمي بجامعة تكساس إن الاضطرابات الحالية أعطتنا فرصة لاكتشاف ما سيحدث ببساطة لو توقف العالم، وتابع "إذا أردنا إنشاء بلد أفضل وعالم أفضل لأطفالنا، وإذا أردنا التأكد من أننا باقون بوصفنا أمة وديمقراطية، علينا أن ننتبه إلى ما نشعر به الآن".

ويخشى الناقد ورئيس تحرير مجلة الفلسفة الأميركية أن يقود الشعور الحالي غير المريح الناجم عن الإضراب والشك إلى الرغبة المحمومة في العودة "للحياة الطبيعية" مرة أخرى وبأي ثمن، معتبرا أن ذلك قد يعني عدم الإفادة من الدروس الحالية والتعلم منها.

جدل أوروبي

وفي ما يشبه البيان الصادر نهاية فبراير/شباط الماضي، قال الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين إن إجراءات الطوارئ التي اتخذتها الحكومات في سياق مكافحة تفشي جائحة كورونا غير عقلانية وغير مبررة، مستندا إلى بيان المجلس القومي الإيطالي للبحوث الذي اعتبر أن أعراض الجائحة خفيفة أو معتدلة لأغلب الحالات.

وتساءل أغامبين متعجبا، "لماذا تخلق السلطات الحكومية ووسائل الإعلام مناخا من الذعر، يتسبب في حالة استثناء حقيقية تتضمن تقييد الحركة وتعليق الحياة اليومية والعمل في مناطق بأكملها؟!" معتبرا أن تلك الحالة تؤدي إلى فرض "عسكرة حقيقية" على تلك

المناطق، في صيغة وصفها الفيلسوف الإيطالي "بالغامضة وغير المحددة"، متنبئا بتعميم حالة الاستثناء على كافة المناطق.

وختم الفيلسوف الإيطالي بيانه بأن السلطات استنفدت مبرر الإرهاب لاتخاذ تدابير استثنائية، ولهذا فإن "اختراع وباء يمنحها الذريعة المثالية لتعميم إجراءاتها التي تتجاوز كل الحدود"، مشيرا إلى حالة الخوف والفزع الجماعي، وما اعتبره "قبولا بتقييد الحكومات للحرية تحت دعاوى السلامة".

وأثار مقال أغامبين جدلا هائلا بين فلاسفة أوروبيين، ورد سلافوي جيجيك قائلا إن رد فعل الفيلسوف الإيطالي هو نسخة متشددة من الموقف اليساري الشائع بالنظر إلى الذعر والهلع كممارسة سلطوية للضبط والمراقبة والعنصرية.

وتابع جيجيك أن إجراءات مواجهة الجائحة لا يجب أن تختزل في النموذج المعتاد للتحكم والمراقبة الذي تبناه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، معتبرا أن اليمين البديل واليسار المزيف يرفضان قبول حقيقة الجائحة على حد سواء، ويقومان بالتنديد بإجراءات مواجهتها.

وإذ اختلف المفكرون والفلاسفة الغربيون حول تحليل واقع الجائحة وقدموا رؤى متباينة إزاء أسئلة الحاضر والمستقبل، فقد بدا أن ثمة اتفاقا عاما حول أن الحداثة المعاصرة باتت -في نسختها الأخيرة- معطوبة وبحاجة إلى إصلاح جذري، لكن الخلاف حول مناهج إصلاحها لم يحسم بعد.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي