الحكومات فرضت ارتداء الكمامات خلال الإنفلونزا الإسبانية قبل اكتشاف أنها “بلا فائدة”.. لذا لجأ الناس للخداع والعصيان المدني

2020-05-10

هل ينبغي إجبار الناس على ارتداء الكمامات في الأماكن العامة؟ هذا هو السؤال المطروح أمام الحكومات في الوقت الذي تخفف فيه بعض الدول من إجراءات الحظر.

وبالفعل، أكثر من 30 دولة جعلت ارتداء الكمامات إلزامياً في الأماكن العامة، مثل ألمانيا والنمسا وبولندا، وذلك رغم أن العلم يقول إن الكمامات لا تفعل سوى القليل لحماية مرتديها، لكنها قد تمنعهم من نقل العدوى للآخرين حال كانوا مرضى.

مع إثارة هذا الجدل بشأن ضرورة إلزام الحكومات المواطنين بارتداء الكمامات من عدمه، ورأي العلم، نعود بالزمن للوراء لنفتّش عن إجابات في تجارب مماثلة، وتحديداً 1918 و1920 إبان انتشار جائحة الإنفلونزا الإسبانية، التي أودت بحياة حوالي 50 مليون شخص.

نشر موقع The Conversation دراسة حالة رائعة حول: كيف يمكن للناس تحمل قيود شديدة الصرامة، ما داموا يعتقدون أنها بغير فائدة.

أكبر إغلاق في تاريخ أمريكا: التحدث في الشارع كان ممنوعاً، والشرطة لاحقت الأطفال الذين يلعبون بالطرقات

في الولايات المتحدة لم يؤدِ أي مرض في التاريخ إلى قيود مشددة مثلما فعلت جائحة الإنفلونزا الإسبانية الكبرى. وكان من هذه القيود إغلاق المدارس والكنائس ومحلات المشروبات الغازية والمسارح ودور السينما والمتاجر وصالونات الحلاقة وإعلان توجيهات عن مقدار المسافة التي يجب أن تفصل بين الناس في الأماكن العامة المغلقة.

كما فُرضت غرامات على السعال والعطس والبصق والتقبيل، وحتى التحدث في الأماكن المفتوحة، أو أولئك الذين وصفتهم صحيفة Boston Globe بـ”الثرثارين”.

كذلك عُينت قوات شرطية خاصة لضبط الأطفال الذين يلعبون في زوايا الطرقات، وأحياناً حتى من يلعبون في باحات منازلهم الخلفية.

قيود أخفّ بدول العالم، والاعتراض الوحيد كان على الكمامات

فُرضت قيود صارمة بالدرجة نفسها في كندا وأستراليا وجنوب إفريقيا، إلا أنها كانت أخفّ من ذلك بكثير في المملكة المتحدة وأوروبا القارية. وفي الأماكن التي فَرضت فيها مثل هذه القيود تقبلها الجمهور جميعها، باستثناء بعض الاعتراضات القليلة.

وعلى عكس تاريخ الكوليرا الطويل، وخاصة في أوروبا، أو الطاعون في شبه القارة الهندية من عام 1896 إلى حوالي عام 1902، لم تظهر حوادث عنف عشوائي أو تحميل أحد المسؤولية، حتى الإسبان أو الأقليات.

أما الكمامات فكانت أقرب ما تكون إلى الإجراء الذي اعترض عليه معظم الناس، رغم أن الكمامات كانت شائعة كثيراً في البداية.

إذ تحدّثت صحيفة Oklahoma City Times، في أكتوبر/تشرين الأول عام 1918، عن “جيش من الشابات العاملات في الحرب” يظهرن “في سيارات بالشوارع المزدحمة وأمام مكاتبهن ووجوههن مغطاة بغلالات واقية”، بينما تحدثت صحف أخرى كيف أن “الكمامات أصبحت موضة رائجة”.

ماذا فعلت الدول بعد اكتشاف فاعلية الكمامات مع الإنفلونزا؟

دار جدال علمي من البداية حول مدى فاعلية الكمامات، لكن الأمر بدأ يتغير بعد أن اكتشف عالم البكتيريا الفرنسي شارل نيكول، في أكتوبر/تشرين الأول عام 1918، أن الإنفلونزا أصغر بكثير من أي بكتيريا أخرى معروفة.

وسرعان ما انتشر هذا الخبر، ونُشرت رسوم كاريكاتيرية تسخر من الكمامات، شبّهت استخدام الكمامات بـ”استخدام الأسوار الشائكة لإبعاد الذباب”.

ورغم اكتشاف نيكول، بدأ عدد من السلطات في إلزام الناس بارتداء الكمامات لفترات طويلة امتدت لـ3 أشهر، لكن ولايات وبلدان أخرى اكتفت بتوصية معظم الناس بارتدائها.

وتُوثق العديد من الصور الحشود الكبيرة التي ارتدت الكمامات في الأشهر التي تلت اكتشاف نيكول. لكن الكثيرين بدأوا في فقدان الثقة في الكمامات، واعتبروها انتهاكاً للحريات المدنية.

ووفقاً لتقرير نُشر في الصفحة الأولى لصحيفة ولاية يوتا Garland City Globe، في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1918:

كان عامة الناس يُرخون الكمامة حتى مؤخرة رؤوسهم إلى أن يلمحوا شرطياً، وكان معظم الناس يثقبون كماماتهم ليتمكنوا من التدخين.

انتشار مظاهر العصيان المدني ضد ارتداء الكمامات

نشأت رابطة في سان فرانسيسكو ضد ارتداء الكمامات، وقامت احتجاجات وعصيان مدني أيضاً، ورفض الناس ارتداء الكمامات في الأماكن العامة، أو تعمَّدوا ارتداءها بطريقة خاطئة. وأُلقي بالبعض في السجن لعدم ارتدائهم إياها أو رفضهم دفع الغرامات.

ففي مدينة توسان، بولاية أريزونا الأمريكية، أصرَّ مصرفيٌّ على الذهاب إلى السجن بدلاً من دفع الغرامة لعدم ارتدائه الكمامة. وفي ولايات أمريكية غربية أخرى كان القضاة يرفضون من حين لآخر ارتداءها في قاعات المحكمة.

وفي مقاطعة ألبرت الكندية غرّمت الشرطة “العشرات” لعدم ارتدائهم الكمامات. وفي نيوساوث ويلز بأستراليا امتلأت الصحف بتقارير عن المخالفات، بعد أن أصبحت الكمامات إلزامية مباشرة. بل وحتى من يحملون النقالات لحمل المصابين بالإنفلونزا لم يكونوا يتبعون القواعد.

لكن وضع إنجلترا كان مختلفاً؛ إذ اكتفت المدن الكبرى بالتوصية بارتداء الكمامات على سبيل الوقاية، وقصروها بعد ذلك على فئات معينة، مثل كوادر التمريض التي تتعامل مع المصابين بالإنفلونزا في مانشستر وليفربول. ولم تظهر أسئلة جادة حول فاعليتها إلا في مارس/آذار عام  1919، وفي حدود الوسط العلمي فقط. واتفق معظم العلماء البريطانيين على معارضتها، حيث وصفت دورية لانسيت الكمامات بأنها “علاج مشكوك فيه”.

وقد دعمت هذه الآراء إحصاءات أمريكية؛ إذ قدّم رئيس مجلس الصحة بولاية كاليفورنيا بيانات، أواخر عام 1918، من أفضل مستشفى في سان فرانسيسكو، أظهرت أن 78% من كوادر التمريض أصيبوا بالمرض رغم حرصهم على ارتداء الكمامات.

وقدّم الأطباء والهيئات الصحية أيضاً إحصاءات تقارن معدلات الوفيات في سان فرانسيسكو بنظيرتها في مدن سان ماتيو ولوس أنجلوس وشيكاغو القريبة منها، ولم يكن أي منها قد جعل الكمامات إلزامية. وكانت معدلات الوفيات بهذه المدن إما “ليست أسوأ” أو أقل. وبحلول نهاية الجائحة عام 1919، اتفق معظم العلماء واللجان الصحية على رأي  لا يختلف عن رأينا حول فوائد ارتداء الكمامات.

من الواضح أن العديد من هذه التفاصيل مرتبطة بما يحدث اليوم، وتُظهر لنا كيف أن مطلباً بسيطاً تحول إلى مشكلة كبيرة.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي