الوثائقي المغربي «صمت الزنازين»: نساء مقهورات وحقائق تأتي من خارج الأسوار

2020-05-06

إدريس الجاي


برلين: يحمل آخر أفلام ثلاثية المخرج والإعلامي المغربي محمد نبيل اسم «صمت الزنازين» غير أن هذا الصمت ليس هو الأداة التعبيرية السينمائية الوحيدة التي اعتمدها المخرج في رصد صورة عالم ما خلف الأسوار، بل إنه يجعل هذه الزنازين تتحدث لغة عينية، يدعها تسفر من وراء جدران السجن عن ملامح الوجه الآخر للمجتمع النسائي المغربي، بأسلوب فني يعتمد الصورة لغة خطاب مباشر، يفتح نافذة رحبة، رغم قتامتها وقضبانها الحائلة، بين حلم الحرية الخارجي وتأكيد حكم القيد الداخلي، كوة يطل من خلالها المشاهد على فضاء مسيج بالسكوت ومطلسم بصمت رهيب.

«صمت الزنازين» يُعد الجزء الثاني لفيلم محمد نبيل الوثائقي «جواهرالحزن»، الذي سجّل فيه وضع أمهات عازبات ومعاناتهن في ظل شرط اجتماعي هش، أو هو على الأقل امتداد له. فالسجن في «صمت الزنازين» إحالة إلى مصير حياة نساء ضائعات في دوامة الهيمنة الذكورية، داخل الشريحة السفلى من السلم الاجتماعي المغربي. ونجد اهتمام نبيل بالحياة الأنثوية حاضرا في كتاباته الأدبية والإعلامية، وبشكل جلي في ثلاثيته السينمائية الوثائقية ابتداء من «أحلام النساء»، الذي يرصد تجربة في حياة ثلاث نساء برلينيات، ينتمين إلى شرائح اجتماعية، ووظائف مجتمعية مختلفة، يسائل منظورهن الذاتي من خلال التحولات الخاصة الروحية والأسرية في علاقتها مع تحولات المجتمع الألماني، بعد اعتناقهن الإسلام.

ودعوا آمالكم

«أردت أن أصور فيلما عن المرأة في السجون المغربية، انتظرت عامين حتى أحصل على تصريح بالتصوير لستة أيام فقط. لكن عندما وصلت إلى السجن شعرت وكأنني في فيلم». بهذه المقولة يستهل فيلم «صمت الزنازين»، فالافتتاحية ذاتها توحي بالمغامرة السينمائية، والتحدي الذي أصر محمد نبيل على أن يمخر عباب بحر من الانتظار والقرع على الأبواب البيروقراطية، ليصبح هو الآخر سجين موافقة إدارية تمنحه تصريحاً. هنا تأتي يوميات ترزح تحت ثقل القسوة، الانتظار المميت، الأمل المعلق بين شفتي القدر، مطرقة القاضي أو عفو الملك.

«صمت الزنازين» ظاهره صمت وباطنه حديث الزنازين الصامتة بين منزلتين، منزلة حديث صامت تمثله المقابلات التي أجراها مخرج الفيلم، مع سجينات داخل الزنازين، اللاتي بدون مثل أشباح وأصوات أجداث بدون وجوه، يتحدثن حديث الخائف من سجانات وسجانين، الذين هم أنفسهم لا ينطقون بشيء طوال الفيلم، ينظرون، يفتحون، يغلقون الأبواب يوصدون الأقفال. فصمت هؤلاء يفشي كل نية مبيتة، كل قول مكتوم. أما السجينات فيتحدثن عن المعاناة الذاتية، أو الشعور بالذنب، واستجداء العفو، الأمل الوحيد فيه هو الملك. يتحدثن عن الكتابة كملجأ لكسر العزلة، يقرأن باللغتين العربية والفرنسية ما كتبنه عن المعاناة الذاتية والشوق إلى الحرية، إلى الحياة الأسرية. إنها أحاديث، على الرغم من دراميتها، تكشف عن الخوف، فيبقى حديثهن يدور حول مجال ذواتهن فقط، ولا يعكس غير الرضى المصطنع عما يدور داخل أسوار السجن، ولا يتخطى الخطوط التي رسمت لهن قبل ولوج حلبة المقابلة السينمائية.


منزلة أخرى تتحدث فيها أصوات مرتفعة، تمثلها أخريات من خارج المعتقل، يُقيّمن في المقابلة تجربة الجحيم التي عشنها داخل سجون (الإصلاح) المغربية. ثلاث نساء من فاس والدارالبيضاء، يتحدثن عن الفساد المتفشي داخل السجن، عن انعدام أدنى الشروط الإنسانية، عن العفونة والتعذيب الجسدي والنفسي، الارتشاء، الاغتصاب، عن الجنون وعن التجارة، واللائحة طويلة لمثل هذا داخل السجون المغربية. يتحدثن عن الفوارق الطبقية في معاملة السجانات للسجينات، عن التمييز الصارخ في المعاملة، بين الذين يملكون والذين لا يملكون، عن تأليف مشاهد مسرحية عند زيارة الملك للسجن، وكيف حصلن على الأغطية التي تحتاج الواحدة منهن في حالة الضرورة إلى شهر، على الأقل، للحصول على واحدة منها، الأكل الباذخ حتى الجمبري حصلن عليه، على مساحيق التجميل وكل ما يشتهين وفي خلفية هذا السخاء المفاجئ تهديد بالجلد أو الحبس الانفرادي، إن فتحت إحداهن موضوع المعاناة الداخلية، وحياة السجن الرهيبة، أمام الملك أو أعوانه ولو بكلمة واحدة.

سجانون وسجناء

«صمت الزنازين» لا يروم أن يكون فيلما يستجدي شفقة المشاهد على هؤلاء السجينات، بل إشراكه في واقع عنيف وقصص عذابات هؤلاء النساء داخل السجن أو خارجه. وجعله جزءا من هذه التجربة القاسية، التي طبعت حياتهن إلى الأبد وبصمت على جبينهن وجبين نسلهن وشم العار، فثلاثة شهور في سجن النساء كافية لتمحو دور وقيمة المرأة من المجتمع (الصالح) وتضع أمامها متاريس من العراقيل في مجالات العمل والحياة. كذلك لا يقتصر محمد نبيل في فيلمه على إعطاء الكلمة للسجينات، بل حتى لسجان متقاعد، يرصد في مذكراته التي كتبها هذه المرحلة، تجربته الذاتية في السجن وتجربة زملائه القدامى والجدد، وكيف يشعرون هم أيضا داخل السجن، رغم زهوهم بهندامهم الأنيق، بأنهم سجناء في الوقت نفسه.


اعتقال المؤنث

يأتي الفيلم بنوع من المفارقة في النظرة الخارجية والداخلية للسجن، بين نظرة نساء عاديات من الشريحة البسيطة في المجتمع. نساء ذوي مطالب بسيطة العمل وعيش حياة كباقي النساء. ونساء في مركز السلطة والقرار مثل طبيبة النساء، مديرة السجن ومساعداتها، اللاتي يعطين الانطباع بأن علاقاتهن بالسجينات هي علاقة مبنية على التفاهم والانسجام والاستماع إلى الأخريات، وأن القضايا التي يمكن أن تواجه السجينات في هذا الفضاء هي ككل مشكلات الحياة العامة للمرأة خارج السجن، أكثرهن في حاجة للاستماع فقط؟

كما يأتي دور المثقفة في علاقتها بالسجن، حيث تتحدث الكاتبة المغربية والناشطة الحقوقية فاطنة البيه، عن قدرة المرأة على التحمل والمقاومة داخل السجن وخارجه وعن التحولات السلبية التي عرفتها مؤسسة السجن المغربي، فمن خلال تجربتها كسجينة سياسية لخمس سنوات في مرحلة سنوات الرصاص ـ السبعينيات من القرن الماضي ـ التي سجلتها في كتابها «حديث العتمة»، ولاحقا مع زوجها يوسف مداد في «أطلسيات»، تتحدث عن المرأة والفضاء داخل السجن، لأن المرأة تعرف القيد خارج السجن، فهي إذن لها القدرة على خلق مجالها الذاتي الحر، وربط علاقاته بالعالم، من خلال القراءة وتوظيف الأدوات الحديثة والاهتمام بالذات، كامرأة وعدم إهمالها، إن توفر لها مناخ صحي داخل السجن. كما تدعو البيه إلى خلق ظروف صحية وإنسانية للمرأة داخل السجون قائلة: «إن المرأة تعطي الحياة، وأنت حين تضع المرأة في الزنزانة فأنت تحبس الحياة. السجن وحشة، السجن جنون بالنسبة للمرأة، حين تضعها في هذا المجال تضيف إليها طوقا جديدا. هذه كلها بالنسبة لي أشكال لاعتقال المؤنث».

 

السجن

اعتمد محمد نبيل في فيلمه على الصورة كلغة عينية عنيفة تنقل من خلال تجريدها قسوة ومرارة الفضاء اليومي الداخلي للسجون. فالمشاهد الخالية من الحوارات، أو لقطات الحركة المصحوبة بموسيقى، ترافق المشهد فقط، مؤثرة جدا في بعده الدرامي، تعطي الإحساس بركود الزمن ورتابته، وثقل عجلة الحياة. كما أن تكرار التركيز على مجال اللقطة القريبة التي تملأ الشاشة، كالأبواب الحديدية، النوافذ بقضبانها السميكة، الأقفال الثقيلة، كواة الأبواب السميكة لغرف السجينات، الألوان الجامدة، الأخضر والأبيض الباهت والرمادي القاتم، يزج بالعين في مناخ يتضاعف فيه الشعور بضيق الأفق، وتقزم الممكن، أمام ضخامة المستحيل في المعتقل. فالأسلوب المتعمد في الفيلم، فتح مجال المقابلة مع السجينات، عبر كوة باب الغرفة، يعمق الشعور بالسجن داخل سجن تتحدث فيه السجينات من وراء القضبان، ولا تفتح الصورة الفضاء الحر الواسع إلا مع النساء اللاتي فارقن هذا الحجيم.
«صمت الزنازين» لا ينهج أسلوب إعادة إنتاج الواقع أو تغريبه، بقدر ما يعمل على خلق فسحة مثقلة بالأسئلة الصعبة والمتأنية حول مجال ظل سرياً، مسكوتا عنه في حياة المجتمع المغربي .. سجن النساء.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي