حياة البشر في مقابل الأرباح.. هل تتكرر دروس التاريخ الأميركي المؤلمة؟

المصدر : الصحافة الأميركية
2020-05-01

في العديد من البلدان حول العالم، بدأ المسؤولون إعادة فتح الاقتصاد والأنشطة العامة، ويدور الكثير من الجدل في الأثناء حول قضايا الصحة والاقتصاد، ومتى يكون الوقت مناسبا لفتح النشاط العام وإعادة الحركة العادية للمدن مرة أخرى.

ويظهر التاريخ أنه في أعقاب الكوارث تكون الحياة البشرية أقل قيمة من الضرورات الاقتصادية، وفي تاريخ نشأة الولايات المتحدة دروس تاريخية مهمة وأمثلة لهذه الموازنة الصعبة.

وفي مقاله بموقع كونفيرزيشن، يشرح بيتر سي مانكال أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة جنوب كاليفورنيا دروسا بالغة الأهمية يمكن استخلاصها من تجارب مواجهة الوباء في القرن السابع عشر في أميركا الشمالية، وفي مرحلتين تاريخيتين فازت المصالح الاقتصادية لقلة من النخبة على المخاوف الأخلاقية.

قصة التبغ

كمؤرخ للتاريخ المبكر لأميركا، كتب مانكال عن التبغ في أعقاب تفشي الوباء بإقليم نيو إنغلاند الأميركي، ولاحظ أن الأوروبيين وقعوا في حب التبغ خلال القرن 16، وهو النبات الأميركي الذي كلف حبه الكثير.

ونظر للتبغ حينها على أنه نبات ممتع يجلب أحاسيس ومذاقات مرغوبة ويؤدي لزيادة الطاقة وانخفاض الشهية، وكتب كثيرون عن فوائده الطبية، وحتى وجد بعض الأطباء أنه يمكن أن يشفي مجموعة من الأمراض، بينما حذر ملك بريطانيا جيمس الأول وآخرون من أن تدخين التبغ عادة خطيرة.

وبحلول أوائل القرن 17، أصبح الإنجليز يتوقون بشكل متزايد لإنشاء مستعمرة دائمة في أميركا الشمالية بعد الفشل في القيام بذلك في أماكن أميركية أخرى مثل رونوك ونونافوت، ووجدوا مكانا مناسبا على طول نهر جيمس بفيرجينيا الحالية، وسرعان ما أدركوا أن المنطقة كانت مثالية لزراعة التبغ.

لكن الوافدين الجدد لم يتوقعوا أنهم استقروا في أرض خصبة مثالية للبكتيريا التي تسبب حمى التيفوئيد والزحار كذلك، وبدءا من عام 1607 إلى 1624، سافر حوالي 7300 مهاجر -معظمهم من الشباب- إلى فرجينيا.

وبحلول عام 1625 لم يكن هناك سوى 1200 ناجٍ منهم، وساهمت انتفاضة محلية للسكان الأصليين ونقص الغذاء الناجم عن الجفاف في ارتفاع عدد الضحايا الذين مات معظمهم بسبب تفشي الوباء، ويقول مانكال إن الوضع كان صعبا لدرجة أن بعض المستعمرين لجؤوا لأكل لحوم البشر.

وإدراكا منها لأن مثل هذه القصص قد تثني المهاجرين المحتملين عن عبور المحيط، عممت شركة فرجينيا في لندن مطوية اعترفت بالمشكلات، لكنها شددت على أن المستقبل سيكون أكثر إشراقا.

وهكذا استمر المهاجرون الإنجليز في الوصول بحثا عن عمل وهربا من صعوبات الحياة في لندن، ووافق العديد من العاطلين عن العمل واليائسين على أن يصبحوا خدما بعقود، مما يعني أنهم سيعملون لدى مزارع في فيرجينيا لفترة محددة من الوقت مقابل المرور عبر المحيط ومكافأة نهاية العقد.

وهكذا، ارتفع إنتاج التبغ، وعلى الرغم من انخفاض السعر بسبب وفرة المحصول، تمكن المزارعون من جمع ثروة كبيرة.

العبودية في أميركا

وشكل مرض آخر وجه أميركا المبكرة، على الرغم من أن ضحاياه كانوا على بعد آلاف الأميال.

في عام 1665، ضرب الطاعون الدبلي لندن، وفي العام التالي أتى "الحريق الكبير" على الكثير من البنية التحتية للمدينة، وتكشف سجلات الوفيات ومصادر أخرى أن عدد سكان المدينة قد انخفض بنسبة تتراوح من 15% إلى 20% خلال هذه الفترة.

لكن لم يكن توقيت الكوارث أسوأ على المزارعين الإنجليز في فرجينيا وماريلاند، فعلى الرغم من أن الطلب على التبغ قد نما، فإن العديد من الخدم الذين أتوا قرروا إنشاء أسرهم ومزارعهم الخاصة.

كان المزارعون بحاجة ماسة إلى العمل في حقول التبغ الخاصة بهم، لكن العمال الإنجليز الذين كانوا يهاجرون من لندن إلى أميركا الشمالية، وجدوا أمامهم فرص عمل في لندن التي كانت بحاجة لإعادة بناء بعد الوباء والحريق.

ومع عدد أقل من العمال القادمين من إنجلترا، بدأ البديل يبدو أكثر جاذبية للمزارعين: تجارة الرقيق.

ووصل أول الأفارقة المستعبدين إلى فرجينيا عام 1619، وازدادت أعدادهم بشكل ملحوظ بعد ستينيات القرن 16. وفي 1680، ظهرت أول حركة مناهضة للعبودية في المستعمرات، وبحلول ذلك الوقت كان المزارعون يعتمدون على عمالة الرقيق الذين تم جلبهم من أفريقيا بالقوة.

ومع ذلك، لم يكن المزارعون بحاجة إلى إعطاء الأولوية للتبغ الذي يتطلب عمالة كثيفة، ولسنوات طويلة كان قادة المستعمرات في أميركا يحاولون إقناع المزارعين بزراعة محاصيل لا تحتاج لعمالة كثيفة مثل الذرة. لكن المزارعين كانوا مفتونين بجاذبية الأرباح، وتمسكوا بمحصولهم ورحبوا بسفن العبيد التي حملت العمال المقيدين، وهكذا تفوق الطلب على التبغ على الاعتبارات الأخلاقية.

هل يتكرر التاريخ؟

وفي الزمن الراهن، لم تعد العبودية قانونية ولا مألوفة في أميركا، ولكن "الاستغلال الاقتصادي مستمر"، بحسب مقال الكاتب والأكاديمي الأميركي بيتر سي مانكال.

وعلى الرغم من الخطابات المناهضة للهجرة التي جاءت من المكتب البيضاوي في السنوات الأخيرة، تواصل الولايات المتحدة الاعتماد بشكل كبير على العمال المهاجرين، بما في ذلك عمال المزارع.

وأصبحت أهمية العمالة المهاجرة أكثر وضوحا خلال الجائحة، حتى أن الحكومة أعلنت أنها "ضرورية". بعد أن أعلن ترامب حظره للهجرة في 20 أبريل/نيسان، لكنه أعفى عمال المزارع وجامعي المحاصيل الذين نمت أعدادهم بالفعل تحت إدارته.

لذا، حتى قبل أن تزن الدول ما إذا كانت ستعيد فتح الأعمال غير الضرورية أم لا، كان هؤلاء العمال على الخطوط الأمامية، ويعملون وينامون على مقربة من بعضهم بعضا، ويعرضون أنفسهم ومناعتهم للخطر بسبب التعرض للمواد الكيميائية، مع القليل من الوصول إلى الرعاية الطبية المناسبة.

ومع ذلك، بدلا من مكافأتهم على أداء هذا العمل الأساسي، تفيد التقارير أن البعض في الحكومة الأميركية يحاولون خفض أجورهم -القليلة أصلا- أكثر، بينما يمنحون أصحاب المزارع إنقاذا بمليارات الدولارات، بحسب مانكال.

ويختم الكاتب الأميركي قائلا: سواء كنا بصدد الطاعون أو جائحة كورونا، فإن القصة تميل إلى التكرار؛ ويتغلب السعي وراء الأرباح في نهاية المطاف على المخاوف المتعلقة بصحة الإنسان.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي