المساهمة العربية في بناء أسئلة تحرر المرأة

2020-03-14

 كمال عبد اللطيف

(1)

رسم الفكر الإصلاحي في الوعي العربي الملامح الكبرى لصورة المرأة الجديدة في مجتمعنا، المرأة العاملة والمتعلمة، المرأة المطالبة بتشريع لا يُخل بآدميتها. وتعززت الصورة بمدارس البنات ثم المدارس المختلطة، وتم تدعيم ذلك بالجمعيات النسائية وتطلعات الرواد والرائدات من المبادرين بالعمل على فك الحصار المضروب على النساء في واقعنا. ولا يستوعب ما أشرنا إليه مختلف صور التحول التي واكبت عمليات إطلاق ورش النهوض بالمرأة والفتاة في مجتمعنا. إلا أن ما حصل يعد نتيجة فعل تاريخي متدرجِ ومواكبِ لتقاطعٍ عوامل عديدة، فعل يُمارَس ويُكثَّف بصورة رمزية ما سيتحول بعد عقود من الزمن، إلى إيقاع تاريخي أكثر انتظاماً وأكثر التحاماً بأسئلة واقع متحرك، رغم كل مظاهر البطء والتعثر في حركاته. ولا يمكن أن نغفل الإشارة هنا، إلى الدور الذي مارسته الدولة الوطنية في بعض الأقطار العربية بعد الاستقلال السياسي، الذي شمل أغلب هذه البلدان في العقد الأول من النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تَمَّ الحرص على إدخال بعض الإصلاحات المكافئة لنوعيات التحول التي عرفها المجتمع العربي.

لم تنكسر قيود التقليد الفقهي، ولم يتخلص الوجدان من تركة توزيع الأدوار بما يرسخ المراتبية والدونية وسط المجتمع. إلا أن ما حصل ساهم في نقل الموضوع من دائرة المحرم إلى دوائر التاريخ المشرَعَة على المستقبل، على صورة الفرنساوية كما تمثلها ذهن الطهطاوي قبل ما يزيد عن قرن من الزمان. وعندما يكون موقعنا الزمني المفترض في هذه المرحلة من البحث هو ستينيات القرن الماضي، ونُدخِل دور المتغيرات الجديدة المتمثلة في الثمار التي تحققت بعد حصول أغلب الأقطار العربية على استقلالها السياسي، سنتبين أننا أمام دورة جديدة في تاريخ تطور الوعي والواقع الاجتماعي النسائي في المجتمع العربي.

 

"يستطيع المتابع لمعارك النساء في العالم العربي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، أن يدرك أن استراتيجية جديدة تنشأ في الأفق، وأن النساء العربيات وقد ارتبطن بشبكات المجتمع المدني والمنظمات الإقليمية في العالم، طورن خطابهن"

إن الفعل الاجتماعي الجديد المواكب للتحرك الاجتماعي المرتبط بقضايا المرأة، لا يتمثل في تبني بعض الدول الوطنية لمشاريع في النهوض بواقع المرأة في المجال التشريعي ومجالات العمل العام. بل إنه يتحدد في الخطوة المؤسسية التي نقلت المطالب النسائية من مستوى العمل المرتبط بالتنظيمات الحزبية إلى عمل مستقل برؤيته الخاصة، عمل مدني مفتوح على قضايا النساء، ومنفتح في الوقت نفسه على آلية النضال السياسي الوطني بهدف تغيير المجتمع، وتغيير أوضاع النساء بما يَكْفُلُ حقوقهن ويرعى كرامتهن وآدميتهن.

لقد تبلورت عشرات الجمعيات الحقوقية والخيرية والاجتماعية داخل فضاء العمل النسائي العربي بمعناه الواسع، وتعمق هذا الفعل بفضل انخراط النساء أيضاً في العمل السياسي والحقوقي وفي ميادين أخرى لا علاقة لها بقضايا النساء على وجه الخصوص. وقد ساهم حضورهن داخل هذه الجمعيات فيما يمكن أن نسميه إعادة تأهيل وتربية المجتمع على قبول الحضور النسائي الفاعل، لكي لا تظل الصورة النمطية للمرأة وهي صورة مستعارة من تاريخ في طور التلاشي معياراً مطلقاً، ولتحلَّ محلَّها في التاريخ الجديد أفعالٌ أخرى، تمنحُ الصورةَ فضاءً أرحبَ للفعل والإنتاج والإبداع.

(2)

واكب هذا الفعل التاريخي في زمن لاحق، أفعالاً أخرى وسعت دائرة الحلم بمجتمع يعي أن سوق العمل والإنتاج لم تعد حكراً على الرجال. وواكبته أيضاً نظريات اقتصادية جديدة في باب التنمية، وتحولات في النظام الدولي، وثورة في مجال الإعلاميات، فنتج عن كل ما سبق، منظور جديد للعمل الدولي في مجال قضايا المرأة وقضايا أخرى ذات صلة بالمجتمع في الحاضر الكوني. لقد نشأت صورة أخرى في ذهن الفاعل الآخر الذي اتجه للمشاركة في تركيب الصورة المطلوبة في مشاريع التنمية العابرة للحدود، صورة النساء في العالم وبينهن صورة المرأة العربية.

 

 

"اتجه العمل النسائي المبدع داخل أغلب المجتمعات العربية نحو مشروع فتح جبهات عديدة للعمل في وقت واحد، لإبراز قضايا النساء. شمل هذا العمل الأحزاب السياسية، وجمعيات التنمية ومؤسسات حقوق الإنسان، ثم النقابات والهيئات المهنية"

نتجه لمعاينة ملامح الصورة الجديدة التي بلورتها أدبيات المنتظم الدولي عن المرأة، وهي صورة لا نتصور مطلقاً أنها بعيدة تماماً عن واقعنا الفعلي، ففيها من ذاتنا المتحركة بفعل عوامل تاريخية مركبة، ما يجعلها قريبة من النموذج المرسوم في برامج التنمية والنهوض بواقع المرأة والمرأة العربية في العالم. أمر آخر لا ينبغي أن نغفله هنا، يتعلق بموضوع النهوض بالمرأة العربية الذي لم يكن ممكناً دون تداخل عوامل يصعب حصرها كلية. نحن نستطيع أن نتحدث هنا عن دور المجتمع الأهلي، عن أدوار بعض الحكومات، لكن لا يمكننا أن نغفل دور منظمات المجتمع الدولي، الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والإقليمية التي أعلنت 1975 سنة دولية من أجل المرأة. ورسمت في سياق برامجها في هذا الباب صورة محددة للمرأة كما تراها، انطلاقاً من واقع حالها في بلدان الغرب، وذلك من أجل تضامن دولي يرعى مكاسب الإنسانية وتطلعاتها نحو التنمية والتقدم.

إن اللغة الجديدة التي تبلورت في برامج ومشاريع المنظمات الإقليمية الساعية للنهوض بالنساء في العالم، تعكس تصورات فلسفية بعضها مُعلن وبعضها الآخر غير معلن، لكن منطق الرؤية يستوعبه ويكشف عن بعض عناصره. وإذا كان البعض منا ينظر إلى هذه اللغة من زاوية ترى فيها "المظهر الجديد للمؤامرة العالمية على قيم الإسلام"، فإن النساء والرجال الذين انخرطوا في عمليات بناء البرامج الجديدة لم يكونوا على اتفاق تام دائما، وهو الأمر الذي يكشف أننا أمام مشاريع يمكن أن نُساهم في إعادة تركيبها بما يناسب طموحاتنا، أما أن نعتبر أنها خارج مطلق وغزو مطلق، فإننا نتجه إلى تغليب آليات الموقف السياسي في الفهم والقراءة على باقي أشكال المقاربة المساعدة على المشاركة في إنتاج ما نراه في موضوعنا أقرب إلى داخلٍ يعكس خصوصياتنا، ولا يغفل سلم المعايير الذاتي المشترك القائم في القيم التاريخية الرابطة بيننا وبين الآخرين في كل زمان ومكان.

ويستطيع المتابع لمعارك النساء في العالم العربي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، أن يدرك أن استراتيجية جديدة تنشأ في الأفق، وأن النساء العربيات وقد ارتبطن بشبكات المجتمع المدني والمنظمات الإقليمية في العالم، طورن خطابهن وركبن جبهات محددة للعمل، قصد اختراق جدران الهيمنة العالية والسميكة الجاثمة على المجتمع العربي، بالرغم من كل التحولات التي عرفها بفضل ما راكمته تجارب العمل النسائي العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وبفضل دروس الصورة التي رسمها رواد الإصلاح للمرأة العربية القادمة من فضاء آخر، فضاء ساهم ويساهم في تركيب ملامحنا، ونساهم نحن في تلوين ملامحه في ضوء أسئلتنا وإشكالات الطور الانتقالي المركب الذي نمر به، ونحن نواجه التأخر والاستعمار وتحجر الذهنيات وتصلب ظواهر المجتمع وسط داخلنا المعتل والمعطوب.

 (3)

ساهمت في رسم استراتيجية التغيير الجديدة في واقع النساء العربيات عوامل عديدة من بينها البرامج التي ركّب المنتظم الدولي، بهدف دعم التنمية الشاملة في ربوع العالم. وأصبحنا أمام سقف محدد للعمل تترجمه مجموعة من المفاهيم والمؤشرات والمواقف والعلاقات ووسائل الدعم. وترسم ملامح عمله، البرامج العالمية والتوصيات التي تركَّب بهدفِ الإسراع بوتيرةِ التغيير، ومنحها السند الدولي والمالي للتمكن من بلوغ مراميها.

يبدو ظاهر هذا العمل، المتمثل في برامج وخطط المنتظم الدولي في موضوع قضايا المرأة وقد تبلورت في مؤتمرات متلاحقة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، ابتداء من المكسيك ومروراً بنيروبي للوصول إلى بكين وتوابعه.. يبدو معبراً عن دلالة مفردةِ فعلِ الخارج في الداخل، تدخل الأجنبي ممثلاً في المنظمات الإقليمية والدولية في شؤون النساء العربيات، ومحاولة ربط مصيرهن بنظام في التصور والعمل مرتَّبٍ ومركب في فضاءات لا يمكن استبعاد نوعية عملها عن بعض الأهداف المرتبطة بدوائر الصراع السياسي والثقافي والاجتماعي القائم في العالم. لكن الأمر الذي يقلص من حدة هذا المنظور، ويساهم في إضفاء النسبية عليه، يتمثل في الدور الذي مارسته الفعاليات والتنظيمات النسائية العربية وهي تتفاعل مع برامج المنتظم الدولي، كما تتمثل في المحاولات التي أنجزتها وهي تمارس عمليات تكييف البرامج المذكورة مع أسئلة الداخل، الأسئلة المتأصلة بمسارات التحول في المجتمعات العربية والأسر العربية ومجالات الشغل في العالم العربي. فقد نشأت بجوار هذا العمل وفي قلبه، محاولاتٌ عديدةٌ في تطوير الفكر العربي، وتعزيز مسارات الروح النقدية داخله.

وتبلورت في هذا السياق مشاريع نظرية في نقد العقل العربي، ونقد آلياته في التفكير وفي العمل. وقد عزز هذا المنحى بروحه النقدية الاختيارات الرامية إلى تكسير الفقه التقليدي وأدبيات التراث التي نُسِجت لرعاية وحماية التصورات المراتبية في علاقة الرجال بالنساء.

استفادت الحركة النسائية التي ازدادت حضوراً واشعاعاً من هذا التحول، ودفعت به في اتجاه بناء تأويلات جديدة للنصوص الدينية الراعية لقيم التراتب والمكرسة لدونية النساء. فقد صدر في المغرب على سبيل المثال "دليل المساواة في الأسرة"، محاولاً إنجاز رباعية في البحث تتوخى البرهان على مبدأ المساواة اعتماداً على أربعة حقول معرفية، السوسيولوجيا، والقانون، والفقه، وحقوق الإنسان، وعمقت هذه المحاولة بجهدها التركيبي أسئلةً محددةً وقناعات مبنية بالصورة التي تعكس كيفيات مساهمة الفعل النضالي الداخلي والمحلي، في تعميق مسارات الأسئلة الكونية المتصلة بواقع النساء في العالم.

 

"عادت كثير من فصائل الإسلام السياسي وفي أغلب الساحات العربية إلى لغة الحجاب، لغة "الداخل والخارج"، لغة "الغزو" و"الاختراق" و"مسخ الذات"، محاولةً تطويق أفعال التشبيك التي حصلت في فضاء مؤسسات المجتمع المدني النسائية العربية"

وقد اتجه العمل النسائي المبدع داخل أغلب المجتمعات العربية نحو مشروع فتح جبهات عديدة للعمل في وقت واحد، لإبراز قضايا النساء. شمل هذا العمل الأحزاب السياسية، وجمعيات التنمية ومؤسسات حقوق الإنسان، ثم النقابات والهيئات المهنية (القضاة، المحامون، الصحافيون..) ثم جبهة دوائر القرار في الدولة. إضافة إلى إنشاء مراكز لسياسة القرب، تُعنى بالاستماع للنساء، وتشخص أوجاعهن الفعلية داخل المجتمع.. فأصبحنا أمام فعل لا يتردد في إعلان براجماتيته، فعل يعي أن المساواة بين الجنسين لا يمكن أن تحصل ذات صباح، لأن المَراتبية شملت وهي تمارس رسوخها تاريخاً طويلاً من الفعل الرمزي المتعدد والمخترق لجبهات لا حصر لها، وما يحصل به الرسوخ بهذه الطريقة لا يمكن تفتيته بيسر، ولا حل مركباته بسهولة، بل إن الموضوعات من هذا القبيل تتجه أحياناً إلى بناء ممانعات جديدة تقلص من روح المنجزات فنعود القهقرى إلى الوراء.

يتضح هذا الفعل الممانع والمضاد، في الردود التي أعلنتها وتعلنها حركات الإسلام السياسي اليوم على تنظيمات المنتظم الدولي، وذلك بتشهيرها ببرامجه المخترقة في نظرها لحصون الداخل وقيمه المتعالية والمرتبطة بنصوصٍ وقاطعة، نصوصٍ لا علاقة لها بمجرَى التاريخ في سريانه المتحول.

لقد عادت كثير من فصائل الإسلام السياسي وفي أغلب الساحات العربية إلى لغة الحجاب، لغة "الداخل والخارج"، لغة "الغزو" و"الاختراق" و"مسخ الذات"، محاولةً تطويق أفعال التشبيك التي حصلت في فضاء مؤسسات المجتمع المدني النسائية العربية، المتصلة بصورة أو بأخرى ببرامج المنتظم الدولي، في موضوع النهوض بالمرأة وتعزيز مسيرة التنمية الإنسانية، بحكم أنها الأس المساعد في عملية تخطي عوائق النهضة والتقدم في عالمنا. وما يدعو إلى العجب في عودتها الجديدة هو برنامجها في التشبيك المضاد، الذي يعتمد شيفرةً مُحددة في عملية التنسيق بين المنظمات ذات الهدف المشترك، من بين مفرداتها شجب الخارج والإعلاء من الداخل، دون الانتباه إلى أن منطق الشيفرة في الأصل مُستمدٌ من تجارب الخارج الصانعة لكشوفات المعرفة المطورة لآليات وتقنيات التواصل والعمل.. فنصبح أمام فعل لا يرى أي مانع بدوره في التوظيف البرجماتي لآليات الخارج، خدمة لأهداف تروم مواجهة ما يعتقد أنه "جاهلية ومادية الأزمنة المعاصرة".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي