حوليات القومية العربية وصوت أم كلثوم من النصر إلى اليأس

2020-02-22

محمد تركي الربيعو*

قبيل أشهر قليلة من الغزو الأمريكي للعراق، كان الباحث العراقي المجهول عربياً عضيد دويشة (بروفيسور في جامعة ميامي الأمريكية، وصاحب عدد من الكتب حول تاريخ الشرق الأوسط) قد وضع كتابه عن مطبعة برنسان بعنوان «القومية العربية في القرن العشرين.. من النصر إلى اليأس»، الذي حاول من خلاله، رصد بدايات تشكّل هذا الوعي، بدءاً بفترة ما قبل الحرب العالمية الأولى ومدى دقة تحليلات جورج أنطونيوس في هذا السياق، مروراً بتجربة ساطع الحصري في العراق، ولاحقاً مع ولادة أحد أنبيائها (جمال عبد الناصر)، وقد اعتمد يومها في رحلته هذه على فكرة كان قد أشار إليها الأكاديمي الأمريكي اللبناني فؤاد عجمي (غدا لاحقاً من أهم منظري حروب المحافظين الجدد الأمريكيين)، في إحدى دراساته التي نشرها في مجلة «الفورين أفيرز» بعنوان «نهاية العروبة الشاملة» التي توصل فيها إلى أن هذه الفكرة التي هيمنت على الوعي السياسي للعرب المعاصرين، قد اقتربت في فترة السبعينيات من نهايتها لصالح نظام الدولة العادي (الوطنية). ولعلّ موعد صدور الكتاب، وإشارته لرؤية عجمي، شكّلت صورة عن المؤلف، وحتى الكتاب ربما، بوصفه واحداً من تلك الكتب التي حاولت تأييد ما جرى لاحقاً في العراق من احتلال، كان بوصف البعض بداية لانهيار الواقع العربي والدولة العربية.

بيد أنّ هذه الصورة قد تتلاشى مع تخطّي الصفحات الأولى للكتاب، إذ سيكتشف القارئ أنه أمام نص وتأريخ جديين، وإن كان لا يخلو أحياناً من تفسيرات نمطية، عادة ما يقع بها أساتذة العلوم السياسية، والأهم من ذلك أن القارئ العربي سيعثر على قراءة أكثر وضوحاً وسهولة لتقلّبات الفكر القومي، وسيرة أهم منظريه وأبطاله.

 

 

لم يكن مستغرباً أن المساعي الحقيقة الأولى لتكوين أمة عربية، ومنحها تمظهرات سياسية لم تُثمر، مع ذلك يرى أنطونيوس أن هذا الفشل لم يحل دون زرع البذور والأفكار الأولى للقومية، التي تعزّزت مع مدارس البعثات التبشيرية

ولعل أهمية هذا الكتاب دفعت مطبعة برنستون إلى إصدار طبعة جديدة عام 2016، أضاف إليها المؤلّف فصلاً جديداً حول واقع الدول العربية بعيد الانتفاضات، وقد حظيت هذه النسخة بترجمة عربية مؤخراً، عن منتدى العلاقات العربية الدولية، ترجمة عبد الواحد لؤلؤة.يناقش دويشة في الفصل الأول للكتاب رؤية جورج أنطونيوس حول جذور الوعي القومي العربي، إذ يرى الأخير أن هذه الأصول يمكن اقتفاؤها في القرن التاسع عشر مع الطموحات السياسية لمحمد علي، الحاكم الألباني المولد، فقد حاول الباشا مع ابنه الذي غزا سوريا عام 1833، أن يُشعِر العرب بضرورة انفصالهم واختلافهم العرقي عن الأتراك العثمانيين، لكن إزاء المعارضة البريطانية والعقبات الثقافية، لم يكن مستغرباً أن المساعي الحقيقة الأولى لتكوين أمة عربية، ومنحها تمظهرات سياسية لم تُثمر، مع ذلك يرى أنطونيوس أن هذا الفشل لم يحل دون زرع البذور والأفكار الأولى للقومية، التي تعزّزت مع مدارس البعثات التبشيرية.

يعتقد دويشة أن هذه السردية تبقى محمولة بأبعاد تاريخية غير دقيقة، فقبل عام 1914 بيّن اليعازر توبر وجود 180 من الناشطين في تلك الفترة، وهو عدد صغير جداً، لا يشير إلى انتشارٍ واسع النطاق للمشاعر القومية بين السكان العرب في الإمبراطورية العثمانية. والواقع أن توبر يزيد في بيان أن أولئك الذين تحرّكوا ضد السيطرة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى، كانوا أقرب إلى تشكيل جمعيات تنادي بالمصالح الإقليمية أكثر من المطالبة بالانفصال السياسي، تحت كيان ذي هوية ثقافية عربية شاملة. ويشير دويشة في حالة سوريا إلى كتاب المؤرخ التركي حسن كيالي «القومية العربية بعيون عثمانية»، الذي ترجم فرصة كذلك للعربية قبل سنوات، فقد وجد كيالي أن دعوات بعض السوريين لإعادة ترسيم علاقتهم بالعثمانيين، تركّزت على مفهوم اللامركزية مقابل مفهوم جمال باشا حول المركزية الإدارية، ما يعني أن النزعات السياسية التي كانت سائدة آنذاك لم تنطلق من رؤية قومية عروبية.

مع قدوم فيصل ودراويشه ـ وفق تعبير المؤرخ البريطاني جيمس بار ـ لدمشق، شرعوا بواسطة الحكومة الوطنية في إصلاح النظام التعليمي، بغرض غرس الروح القومية في أجيال المستقبل، وكان رأس الحربة آنذاك في هذا الجهد هو ساطع الحصري، الذي عُيِّن وزيراً للمعارف، حيث أخذ على عاتقه شنّ حملة تعريب شاملة لنظام المدارس السورية، لكن حكومة فيصل لم يتح لها العيش طويلاً. وهنا يرى دويشة، أنّه على الرغم من الأسطرة التي أُلحِقت بدور هذه الحكومة في تشكّل الوعي القومي العربي، إلا أنه من المهم عدم المبالغة في تقييم الغزوات التي شنتها لاقتحام الوعي السياسي للشعب السوري، فالهوية المحلية الضيقة بقيت هي التي تنافس الهوية العربية. ومع اضطرار فيصل للمغادرة، اعتقد البريطانيون أنّ بإمكانه أنّ يحل ملكاً على العراق، ومن هذه الدولة الوليدة ستنطلق، وفقاً لدويشة، أول نظرية متماسكة عن القومية العربية، من خلال مشروع ساطع الحصري الذي تبع راعيه إلى العراق.

  أولئك الذين تحرّكوا ضد السيطرة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى، كانوا أقرب إلى تشكيل جمعيات تنادي بالمصالح الإقليمية أكثر من المطالبة بالانفصال السياسي، تحت كيان ذي هوية ثقافية عربية شاملة

ساطع الحصري… القومية فوق الحرية

 

كان هذا الرجل المولود في اليمن، قد بقي حتى نهاية حياته يتكلّم اللغة العربية بلكنة تركية خفيفة. تأثّر في فترة شبابه بالأفكار القومية الألمانية، التي ترى أن الأمة لا يمكن أن تولد من جديد إلا عن طريق التعليم، ولذلك سيغدو موضوع التعليم، كما تنبه لذلك أرنست غلنر، أكثر مركزية من احتكار العنف المشروع في حياة الحصري، فقد ركّز في مشروعه على أهمية تدريس التاريخ القومي في المدارس العراقية، كونه يولّد في نفوس الطلبة شعوراً بالاتصال البدئي بالأمة العربية. ولم يقتصر التأثّر على هذا الجانب، بل شمل أيضاً فكرة الحرية الفردية، التي لم يشعر الفيلسوف الألماني يوهان فيخته مثلاً بأي قلق حيال تقييدها في سبيل مصالح أرض الأجداد، ولذلك سيطالب الحصري جمهوره في واحدة من محاضراته بضرورة إدراك أنّ «الوطنية والقومية قبل كل شيء وفوق كل شيء.. حتى فوق الحرية وقبل الحرية». وهنا يرى دويشة أن الحصري لم يكن مجرد صائغ للافكار، بل كان بمثابة مبشّر عنيد، مستبد تقريباً، يفرض «العقيدة الصحيحة» ويروّج الحقيقة كما فهمهما.

 القومية العربية والقبيلة

على الرغم من أن جهود الحصري، ساهمت في توسّع رقعة أنصار الفكر القومي، بيد أنّ هذه الأفكار بقيت، كما يرى دويشة، تواجه عقبات عديدة في العالم الناطق بالعربية في هذه الفترة، حيث وُجِدت مؤسسات وكيانات كثيرة، يرتبط الناس بها مثل، الدين، القبيلة، الطائفة، وغير ذلك، ما جعل من الصعب أن تبرز الأمة العربية؛ ولدعم رؤيته في هذه النقطة، يستعين المؤلف بمقولات بسام طيبي، الذي يرى «أن الروابط القبلية ظلت دوماً العنصر الأساس في مرجعية الجماعة، على الرغم من حقيقة أنها كُبحت وأُدينت بلاغياً»، كما يعتقد أنه في سوريا بقيت دويلات مستقلة في حلب ودمشق، وفي منطقة العلويين، إضافة إلى وحدات مستقلة.. و«يمكن القول عموماً إنّ الميول والولاءات الخصوصية أدّت إلى إنتاج حركات انفصالية، ولا سيما في المناطق الريفية مثل جبل الدروز والمناطق العلوية والجزيرة، ما هدّد جوهر مسعى سوريا للعثور على الهوية الوطنية، فضلاً عن الفكرة الأوسع لأمة عربية واحدة». ما يُلاحظ هنا، أنّ رؤية جوهرانية (نمطية) للواقع الاجتماعي العربي بقيت تحكم رؤية دويشة لفترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، وهذا ما لا نراه أمراً دقيقاً. فخلافاً لفكرة «القبيلة الأبدية» التي بقيت تقف عائقاً أمام الأفكار الجديدة، التي ما يزال يرددها البعض، كان حنا بطاطو قد بيّن دور السياسات البريطانية في إعادة إحياء دور القبائل في العراق خلال العشرينيات، قبل أن تتراجع مرة ثانية بعدها بعقد تقريباً مع نمو المدن العراقية وولادة دور الجماهير الحضرية. أما في سوريا، فقد لاحظ مايكل برفنس (جامعة شيكاغو) أن ثورة عام 1925، لم تكن ثورة درزية (محلية) بل عبّرت عن هوية وطنية سورية، قادتها شبكات من القوى الريفية والمدنية الشعبية، التي رعتها التربية العسكرية (مدرسة العشائر في إسطنبول التي درس فيها عدد من قادة هذه الثورة) أو العلاقات التجارية تاريخياً (تجارة الحبوب بين السويداء وحي الميدان).

عبد الناصر وصوت أم كلثوم

قد يُعدُّ فصل دويشة عن جمال عبد الناصر وعلاقته بالأفكار القومية العربية، من أكثر الفصول إشكالية وإثارة للجدل؛ فالمؤلف، خلافاً للصورة البطولية/العروبية عن عبد الناصر، لا يرى أنّ الأخير لجأ للعروبة جراء الولع (كان ميشيل عفلق يردّد بأنّ القومية هي حب قبل كل شيء)، فعبد الناصر كما يرى كان أولاً، وقبل كل شيء، وطنياً مصرياً يكافح لتطهير مصر من الوجود البريطاني، ولبلوغ ذلك ثار الجيش ضد الملكية في يوليو/تموز 1952. وفي هذه الفترة من الثورة، لم يُظهر القادة الجدد اهتماماً بالشؤون العربية، ولكنهم تبنّوا هدفاً واحداً عابراً للحدود، هو توحيد مصر مع جارتها الجنوبية، السودان، غير أنّ السودانيين فضّلوا بدلاً منها الاستقلال التام. وقد أعاد عبد الناصر ورفاقه تركيز طاقاتهم على تخليص مصر من النفوذ السياسي البريطاني، وفي هذا الموقف المعادي للاستعمار، وجدت القومية العربية أقوى أصواتها المدوية، من هنا «انسلّ عبد الناصر إلى القومية العربية من الباب الخلفي لمعاداة الاستعمار، إذ لم يفكر جديّة بالقومية العربية، باعتبارها صنفاً مستقلاً ذاتياً كما فهمهما ساطع الحصري».

ولخدمة هذا التوجّه، سيستخدم إمكانات مصر الواسعة، خاصة هيمنتها الثقافية المؤكدة. وخلافاً لأي زعيم مصري أو عربي سابق، أدرك ناصر القوة الهائلة للراديو، وهو الخطيب المفوّه. ومنذ بداية عهده، خصّص موارد مالية كبيرة لتأسيس محطة «صوت العرب» في يوليو 1953. وكانت مصر آنذاك لا تُضاهى ثقافياً وفنياً، فقد كان مطربوها وموسيقاها مألوفة وشهيرة على امتداد المنطقة، وفي مقدمتهم المغنية الكبيرة أم كلثوم، التي كانت حفلاتها الأسطورية، التي تستمر خمس ساعات في الخميس الأول من كل شهر، تجمع المستمعين العرب حول أجهزة الراديو في بغداد ودمشق والدار البيضاء وعمان وغيرها. وقد غدا تعريف بندكت أندرسن، مع عبد الناصر وأغاني أم كلثوم، حول الأمة بوصفها جماعة متخيلة أمراً واقعياً، إذ لا يعرف الأعضاء بعضهم بالضرورة، ولم يلتقوا، ولكن في ذهن كل واحد منهم تعيش صورة الجماعة. فخلال السنوات القليلة كان يمكن لقانوني عراقي وطالب أردني وشاعر بحريني وطبيب سوري، ليعرفوا بعضهم بالاسم أو المهنة، بل بالانتماء إلى عقيدة القومية العربية، حيث شكّلوا في الواقع أخوية واحدة وتقاسموا المعتقدات والآمال والطموحات.

 تقديس عبد الناصر

في ظلّ هذا الصعود القومي، والتهديدات التي كانت تتعرّض لها سوريا في عام 1957 من قبل القوات التركية لإسقاط الحكومة الموالية للاتحاد السوفييتي، حاول عدد من السياسيين السوريين إقناع عبد الناصر بضرورة الوحدة بين البلدين، إذ اعتقدوا أن بطل القومية العربية سيقفز بدون تردّد للموافقة على عرضهم، لكن بحسب دويشة، بدا عبد الناصر متشكّكاً قبل أن يعدل عن رأيه، بعد أن أقنعه السياسيون السوريون بضرورة الوحدة للحفاظ على وحدة سوريا. سيروي لنا خالد العظم طقوس إعلان الوحدة «ساقنا الضبّاط كالأغنام، ووضعونا على طائرة أقلعت بنا جميعاً إلى القاهرة.. انتهت بالتوقيع ..ثم عادوا بنا بالطائرة في اليوم الثاني إلى مطار عسكري، حيث قدّموا لنا غداء من الرز واللحم، مع قطعة خبز على صحن معدني»، رغم هذا الاعتراض الذي أبداه العظم، أدّى الخبر إلى ابتهاج جامح، ومع وصول قوافل عبد الناصر لسوريا، كان أنور السادات من بين الحاشية المرافقة له، بعدها بسنوات كتب في مذكراته عن ذلك اليوم الذي بدا أشبه بهذيان مستمر، سيل من الخطب وساحات عامة تحولت إلى ساحة للعبادة، لكن الوحدة لن تستمرَ طويلاً.

 هويات ما قبل وطنية

ومع هزيمة العرب في حرب الأيام الستة، أدرك الفلسطينيون عجز القومية العربية عن المساعدة في حل قضيتهم، التي بدت كملاكمٍ عجوز أصبحت أيام مجده الآن شيئاً من الماضي. وجاءت أحداث سبتمبر/أيلول الأسود في الأردن، ولاحقاً اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، لتعلن عن نهاية زمن الفكر القومي العربي، إلى ما دون الوطني. ويرى دويشة أنّ عجز القومية العربية عن النجاة من النكسات السياسية، يعود جزئياً على الأقل إلى عدم رغبة قادتها (أو لنقل من أدّعى تمثيلها) في إيجاد مؤسسات ديمقراطية فاعلة، فمشكلة الكراهية للغرب وللاستعمار لم تترجم إلى عداءٍ لسياسات الغرب وحدها، بل لمؤسساته أيضاً، والنتيجة كانت الانهيار المستمر.

وكما أشرنا في البداية، فإنّ الطبعة الثانية من هذا الكتاب قد صدرت في عام 2016، أي بعيد اندلاع الانتفاضات العربية، ولذلك فقد أضاف المؤلف فصلاً أخيراً له، لكن بالمجمل لم يقدّم في هذا الفصل أي شيء جديد. كما بدا في سياق تفسيره للأحداث قريباً من الرؤية التي تقول إنّ ما حدث ليس سوى صراع بين الدولة من جهة والإسلام السياسي المتطرف والقوى المتأثرة بالانقسام داخل الدولة من جهة أخرى، إلا أنّ هذه ذلك لم ينتقصُ، كما نعتقد، من أهمية سرده لتاريخ القومية العربية وأسلوبه الممتع في هذا السرد.

 

  • كاتب من سوريا






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي