"باكوراو".. فيلم عن قرية نائية تجابه مستقبلا غامضا

2020-02-13

مجتمع مأزوم مفتوح على بعضهطاهر علوان

يحتل المكان في سينما الخيال العلمي وأفلام الغموض والفانتازيا أهميته الخاصة في رسم مسار الأحداث، كونه ميدانا لتحوّلات شتى ترتبط بالشخصيات وبتطور الدراما. وهو شاهد أيضا على تلك التحوّلات وقابل للتغيير والتأثر بحسب ما تمر به الشخصيات.

المكانان الواقعي والافتراضي يتكاملان في سينما الخيال العلمي، فكل منهما يعبر عن ثيمة وموضوع محدد، لاسيما وأن هذه النوعية من الأفلام تجد في المكان مكملا تعبيريا للغموض، إذ غالبا ما يتم طمس المكان أو بناؤه بما يوحي باللاواقعية استكمالا لفكرة الخيال التي لا حدود لها.

وفي هذا الفيلم للمخرجين البرازيليين كليبير فيلهو وجوليانو دورنيليز، هناك الكثير ممّا أوردناه آنفا في ما يتعلق بتوظيف المكان في فيلم الغموض والفانتازيا وصولا إلى سينما الخيال العلمي.

المكان الذي سوف ننطلق منه هو المكان الواقعي، وهو القرية التي يحمل الفيلم اسمها عنوانا له “باكوراو”، ومع المشاهد الأولى سوف نكتشف ذلك المكان/ القرية من خلال عودة تيريزا (الممثلة باربارا كولن) إلى قريتها بواسطة شاحنة صهريج مياه.

ومنذ الوهلة الأولى سندرك حاجة ذلك المكان إلى المياه، كما أن الناس تحتشد من أجل جدة تيريزا التي تلفظ أنفاسها الأخيرة. احتشاد القرية ما يلبث أن يقدّم صورة مجتمع منقسم وغرائبي من جهة وتعصف به طباع المافيات الإجرامية من جهة أخرى.

إنه مجتمع يحاول التمسك بخواصه إلى حد كبير مع تصاعد موجات الغريب المحيطة به من كل جانب. وكأنه مجتمع افتراضي مفتوح على بعضه، حتى تفتقد فيه الخصوصية التي ترتبط بالشخصيات، إذ أن الكل يجتمع بالكل ويقبل إهانة بعضهم البعض كمثل الهجوم الشرس الذي تشنه الطبيبة الثملة على الدوام وشبه المجنونة دويمنيغاس (الممثلة سونيا براغا) على جدة تيريزا وهي تحتضر، على اعتبارها مصدر الشر.

هنا في تلك المساحة الأرضية شبه المعزولة سوف يبحث السياسيون عن مآربهم، فتأتيهم الدعوات لانتخاب العمدة وسيارات تحمل لوحات إعلانية ضخمة، ثم تختفي ليعد السياسي المُترّشح أنه سوف يعيد الأمل إلى تلك القرية النائية. إنها مقاومة الأرض والمكان والشخصية لعمليات التغريب ومحاولات العزل القاسية التي تسعى إليها العديد من الجهات لغرض أن يتغير كل شي ولو بالقوة.

لكننا وفي إطار تطلعنا إلى ما سوف تؤول إليه الأمور في تلك البقعة المنسية لا بد أن نرى شكل المستقبل، وهو ما تذهب إليه المعالجة الفيلمية عندما نشاهد أطباقا طائرة خاصة بالرصد والتصوير تلاحق الشخصيات وهي تتنقل في أركان القرية. وخلال ذلك تبرز الجريمة في هذه الدراما الغرائبية، فحتى الأطباق الطائرة لا ترصد في الغالب سوى عمليات الاغتيال المتفشية في القرية.

 

هناك ثلة من السياح الذين توصي السلطات أن تتم مساعدتهم للقيام بجولات سياحية في القرية واكتشافها، بمن فيهم أحد القضاة وزوجته، وهما يخفيان هويتهما حتى يتم قتلهما في مبارزة دموية. وبسبب كل هذه التحوّلات في واقع القرية ومستقبلها يتفشىّ العنف بشكل غريب حتى تتحوّل الدماء المسفوكة إلى جزء أساسي من الحياة اليومية.

وعلى الرغم ممّا حظي به الفيلم من حفاوة واهتمام نقدي في العديد من الصحف والمجلات المهمة، فضلا عن تكريمه في دورة مهرجان كان السينمائي الأخير، إلاّ أن فيه ثغرات عديدة سواء على صعيد الحبكة أو على صعيد البناء الدرامي.

حفل الفيلم بتفكّك في الأحداث وتكرار وعنف مفرط ومشاهد دماء مبتذلة بلا مبرّر لوجودها أحيانا، علاوة على ذلك الوجود الهزيل للعديد من الشخصيات ولشخصية المرأة، خاصة تيريزا، التي كنا نتوقع منها أن تلعب دورا أكبر في الأحداث، لكن السيناريو أخلّ بذلك.

وما دمنا نخوض في سلسلة الأحداث والتحوّلات الدرامية المفضية إلى العنف، فلا بد أن نتساءل عن جدوى العنف وأسبابه ونتائجه، وهي أسئلة لن تجد لها جوابا مباشرا سوى أنه نوع من التحوّل الدرامي في النسق الاجتماعي في مواجهة التغيير.

كان التغيير الدرامي في هذا الفيلم مرتبطا في الغالب بقوى خارجية، فتارة رغبة السلطات وأصحاب المصالح في الاستثمار في المكان وتغييره، وطورا آخر الأطماع الجانبية التي تريد أن تتحوّل القرية وسكانها إلى حالة أخرى مختلفة، ومن هناك يقاوم أهل القرية بشراسة كل تلك المحاولات المستميتة للتغيير.

تداخل الشخصيات هي طريقة أخرى عمد إليها المخرجان لمنح الفيلم المزيد من الغموض، حتى أنك من الصعب أن تفرز ما بينها، فالقاتل ميشيل (الممثل أودو كير)، مثلا، يقتل بدم بارد كل من يقف إلى جانبه، لكنه ينكر أنه هو الفاعل فيما يمضي الفتك بالجميع.

وتتصاعد دائرة العنف مع المشاهد الأخيرة من الفيلم ومع انتشار الطائرات أو الأطباق المسيّرة التي لا نعرف بالضبط من يستخدمها للتلصّص على سكان القرية، حتى نصدم بمشاهد قاسية من قبيل قطع الرؤوس وصفّها في ساحة القرية.

ربما كان من الرسائل التي أراد فريق الفيلم أن يوصلها هي أن مقاومة ما هو خارجي ممّن يريدون تغيير تلك القرية النائية والمضاربة بها، سوف يفتح أبواب العنف والدم على مصراعيها.


* كاتب عراقي مقيم في لندن







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي