الرسام الإسباني وضع الثائر في مركز لوحته الشهيرة بينما ركن القتلة إلى الجانب

لوحة «الثالث من مايو» لغوياً ومشهد اغتيال حقيقي لناشط كربلائي

2020-02-12

لوحة «الثالث من مايو» لغويالندن - فيء ناصر

 

يقول الشاعر الإسباني مانويل ماتشادو المولود في إشبيلية عام 1874 والمتوفى في مدريد عام 1947، وهو أخو الشاعر الإسباني الكبير أنطونيو ماتشادو، في قصيدة له، واصفاً لوحة «الثالث من مايو» للرسام الإسباني فرانشيسكو دي غويا (1746-1828):
على الأرض مصباح لا يكاد يضيء
نوره الأصفر ينشر الرعب،
صفّ البنادق الموجهة في وحشية ورتابة،
لا تكاد العين تراه.
نواح، لعنات. قبل صدور الأمر بإطلاق النار،
الضحايا المقدمون للموت، تثور نفوسهم غضباً،
رموش عيونهم مفتوحة على اتساعها
لحمهم الأبدي يناول الأرض التحية.
أستعيد هذه اللوحة المشهورة التي أكملها غويا عام 1814 والمعروضة في متحف البرادو في مدريد بينما مشاهد اغتيالات المتظاهرين في العراق تتوالى في مقاطع مسجلة وصور تبث علناً في القنوات الإخبارية ومواقع التواصل الاجتماعي. أحد هذه المشاهد المروعة التي تتناص تماماً مع لوحة «الثالث من مايو» هي مقطع اغتيال الناشط المدني فاهم الطائي في مدينة كربلاء أثناء عودته من المظاهرات الاحتجاجية السلمية إلى بيته. في اللحظة التي ترجل بها فاهم الطائي عن الدراجة النارية التي كانت تقله، كانت دراجة نارية أخرى تلحقه، استقام واقفاً بكامل أناقته وبثيابه فاتحة اللون في مشهد يستدعي حالاً وقفة الثائر ذي القميص الأبيض الذي يشغل مركز لوحة غويا.

الثائر العراقي ثبّت عينيه بشجاعة وذهول على القتلة الملثمين، كما في لوحة غويا، حيث تغيب وجوه القتلة الذين يرفعون اسلحتهم ليقتلوا الثوار من مسافة قريبة، وهو ما حدث في مشهد الاغتيال الفعلي. القاتل في مشهد القتل الحي، يبدو ضئيل الحجم ومقوس الظهر قياساً بالضحية الذي كان مستقيماً وواثقاً من نفسه ومن قدره، الأمر ذاته في لوحة غويا، حيث الثائر المقبل على الموت أكبر حجماً وأنصع ثياباً ويرفع يديه في حركة تستدعي وضعية صلب السيد المسيح، خصوصاً أن هناك ثقباً في يده اليمنى يحاكي ثقب مسمار الصلب، ويستحوذ الثائر على مركز اللوحة بينما ينبذ القتلة في الجانب. وبالعودة إلى لوحة «الثالث من مايو» التي تصور كوارث الحرب الأهلية وفظائع جنود نابليون بونابرت في فترة احتلاله إسبانيا (1808- 1814) وخلعه الملك فرديناند السابع عن العرش وتنصيب أخيه جوزيف ملكاً على إسبانيا، حيث وثق غويا رعب هذا الصراع في لوحات عدة، من أهمها لوحة إعدام الثائرين في مدريد أو «الثالث من مايو».

وسبب هذه التصفيات الجسدية هي أن جماهير مدريد انخرطت في مقاومة جنود نابليون بما توفر لديهم من سلاح في الثاني من مايو (أيار) 1808، وعلى أثر ذلك صرح الجنرال جواكيم مورات، قائد قوات نابليون في إسبانيا بأن «الدم الفرنسي الذي سال في مدريد يطلب الثأر»، شُكلتْ بعد ذلك التصريح محكمة عسكرية قضت بإعدام كل إسباني يحمل أو يخبئ سلاحاً في بيته، وتمت تصفية 400 إنسان، منهم مانويل الحدائقي، وخوان أنطونيو مارتنيث المتسول، وجوليان الصائغ، والراهب الفرنسيسكاني، وغيرهم في يوم واحد، ولا تزال السجلات المدنية تحتفظ بأسمائهم. يصور غويا في لوحته، أحد الثوار وهو يغرق في بركة من دمه بينما تمتد ذراعاه على سفح الجبل كأنما تعانق الأرض التي سقط عليها في تفصيل يذكرنا بلحظة استشهاد الثائر العراقي عمر سعدون في ساحة التحرير.
الشخص في مركز اللوحة يواجه الرصاص بصدره العاري بينما يُساق آخرون خلفه إلى حتفهم بالطابور، حدثت أغلب هذه الإعدامات فجراً وفي أماكن متعددة، وبالتزامن في ليلتي الثاني والثالث من مايو، وفي لوحة غويا هناك خيط من ضوء يتسلل في عتمة الأفق، وربما كان الفنان شاهداً على هذه الفظاعات التي حدثت ليست بعيداً عن بيته في سفح تل بيرنثيبو بيو، وهو تل مقفر يقع بين نهر مانثاراس ومدينة مدريد، حيث تمت تصفية 45 شخصاً على سفحه. تبدو كتلة المباني واضحة في خلفية اللوحة، وهذا الموقع هو اليوم حديقة عامة في مدريد.

كان عمر غويا وقت حدوث هذه المجازر 62 عاماً، وربما كان شاهداً عليها من خلال منظار مكبر من نافذة بيته، لاحقاً سيحمل الفنان فانوساً ويسجل المشهد الكارثي في دفتر تخطيطاته. في لوحة «الثالث من مايو» هناك تصوير لمواجهة الموت كمصير فردي وأيضاً كحكم جماعي، وهذا جلي جداً من خلال تباين ردود فعل الثوار في مواجهة الموت. ما هو قدر خاص ينصهر بالقدر العام، ورغم عدم التمييز بين الكارثة الفردية والجماعية، هناك جو خانق داخل اللوحة، عتمة الأفق توائم الظلم الأعمى الذي يمارسه ثمانية جنود فرنسيين منضبطين في حركتهم ويرفعون أسلحتهم بتأهب لإطلاق النار، لكن وجوههم مغيبة لصالح انكشاف وجوه الثوار بالنور الذي ينبع من صندوق مستطيل موضوع على الأرض ويفصل بين جنود نابليون والثوار.
فرانسيسكو غويا المولود عام 1746 في مقاطعة الأرغون الإسبانية والذي يُعَدُ أهم الفنانين الإسبان في القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، يعتبره نقاد الفن آخر الفنانين الكبار الكلاسيكيين وأول المحدثين. تأثر كثيراً بفنان البلاط الملكي فلاسكوث، لكن هذا التأثر ساهم في ترسيخ أسلوبه المتفرد في استبطان النفس ومشاعرها وهواجسها، واقترابه من التعبيرية حتى حين رسم الصور الشخصية للنبلاء والعائلة المالكة الإسبانية وغيرهم من الشخصيات المهمة في عصره.

ولعل لوحة «فرديناند السابع في الرداء الملكي- 1814» خير دليل على أسلوبه في استبطان الشخصيات، وهي اللوحة التي أعقبت هزيمة الفرنسيين في إسبانيا وعودة فريدناند السابع من منفاه واستئناف غويا عمله رساماً أول في القصر، حيث صور غويا يد الملك التي توحي بالنفوذ والقوة المطلقة وهي تقبض على السيف المعلق إلى خصره، ورغم التفاصيل المزركشة والمبهرة في هذا البورتريه، لكن غويا سخر بطريقته التعبيرية من الملك الذي أعاد سلطة محاكم التفتيش واعتقل الكثير من التنوريين الإسبان، فشعر الملك الفاحم الذي يؤطر وجهه الخبيث وأنفه المفلطح والذقن المربع الناتئ والنظرة التي تضمر الشر وانعدام الأكتاف كلها توحي بالسخرية وليس التبجيل.

وغويا من منظور فني أكثر عمقاً هو رائي الكوابيس الليلية السوداء والكائنات المشوهة والأشباح والشياطين، أثر في أجيال لاحقة من الفنانين، منهم بيكاسو ومانيه كما ألهمت ثيمات جدارياته الكابوسية السورياليين، وتحديداً سلفادور دالي. لم يكن غويا سياسياً، لكنه كان تنويراً آمن بمبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والعدل والمساواة، لكنه رفض احتلال نابليون لبلاده، بل إن ردة فعله ضد الطغيان ورعبه من الدم الذي سال في شوارع مدريد، اتخذت تعبيرات فنية صادمة؛ لأنه رأى الإنسان مسؤولاً عن جحيمه في الأرض ومعاقباً لذاته.

إن هذه اللوحة تحديداً تؤرخ لانتصار دم الثوار في كل زمان ومكان على سلاح الطغاة والقناصين ومغتصبي حقوق البشر، وسواء تمت تصفية 400 شاب إسباني في يومين أو 600 شاب عراقي أعزل خلال شهرين، فإن الدم البريء قد صرخ وما زال يصرخ مطالباً بالحقوق، وما من سلاح أو حكم بالإعدام قادر على إسكاته. الناقد الفني البريطاني كينيث كلارك أرّخ للوحة «الثالث من مايو» كبداية للحداثة الفنية والتي يمكن تسميتها بالثورية في أسلوبها وموضوعها ومقصدها. وقد تكون هذه اللوحة تحديداً هي الرائية والمصورة الراهنة لكل آلام المغدورين ظلماً وفي كل عصر.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي