أدب المدينة الفاسدة والواقع المرير.. هل يكتب الروائيون العرب عن "نهاية العالم" حقا؟

2020-01-25

في روايته لعام 2008 "يوتوبيا" تخيّل الكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق انقسام المجتمع المصري لطبقتين، إحداهما تعيش في مدينة بالغة الثراء ومحاطة بسور وحراسات بالساحل الشمالي، والأخرى تعيش فقرا مدقعا في عشوائيات يتقاتل سكانها من أجل الطعام.

ورغم أن أدب المدينة الفاسدة (ديستوبيا) -حيث يعيش مجتمع خيالي فاسد ومخيف دون فضائل أخلاقية- معروف في العالم الغربي منذ أمد بعيد، على الأقل منذ صدور رواية جورج أورويل (ت: 1984) منتصف خمسينيات القرن الماضي، لكن العقد الأخير عرف انتشارا عربيا لهذا النوع من الأدب في أعقاب الربيع العربي.

وفي تقريرها الذي نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، قالت الكاتبة لينا منذر إن الأعمال الأدبية التي تصور مشاهد لدولة تديرها بيروقراطية قاسية إلى درجة أنه يتوجب على المرضى الذين يعانون من حالات حرجة أن ينتظروا في الصف للحصول على إذن رسمي حتى يعالجهم الطبيب، أو انتشار مرض غامض يشكل الوجه في شكل كتلة من اللحم تاركا فتحتين فقط من الأنف للتنفس، وما إلى ذلك من القصص، مثل هذه الأعمال تعطي انطباعا عاما عن كيفية معالجة بعض الروائيين العرب للحالة الراهنة التي يعيشون فيها.

تقول الكاتبة إن الكتّاب العرب -الذين شعروا بخيبة أمل من إخفاقات الربيع العربي ومن الانغماس المتجدد في الفوضى والسلطوية- أنشؤوا حركة أدبية جديدة في الآونة الأخيرة، وتبنوا تصنيف أدب المدينة الفاسدة لفهم الكوابيس التي نعيشها في وقتنا الحاضر.

وتضيف "في الواقع، تبنت وسائل الإعلام الناطقة باللغة الإنجليزية هذه الكتب، كما احتضنت فكرة أن هذه الكتب ولدت جميعها من مشهد ما بعد الثورة، وعلى الرغم من أنها تتعامل مع المجتمعات المستقبلية، فإنها تستخدم الأساليب المجازية للتحدث عن الواقع المرير الحالي "للعالم العربي".

أدب مصري

وتشير الكاتبة لارتباط أدب المدينة الفاسدة المعاصر بالكتابات المصرية لحد كبير، وتقول زينة الحلبي، وهي أستاذة مساعدة في الأدب العربي بالجامعة الأميركية في بيروت، إنه حتى عندما يتعلق الأمر بمصر "سيكون من غير الصحيح أن نعزو كل هذه الكتابات (المتشائمة) إلى الثورة، كما لو كانت انفجارا عظيما ولم يكن أي مما ذكر موجودا من قبلها".

وتشير الحلبي إلى أن جذور الموجة الحالية من أدب المدينة الفاسدة الصادر من مصر يعود إلى قرن من الزمن، إلى وقت كان فيه الكُتاب العرب -مثل اللبناني جرجي زيدان والمصري حافظ محمود- يحاولون تخيل معالم مجتمع مثالي وفاضل.

ويشارك المترجم والروائي نائل الطوخي زينة الحلبي الرأي نفسه، ويشترك صاحب رواية "نساء الكرنتينا" مع روايات أخرى مثل "استخدام الحياة" لأحمد ناجي ورواية "عطارد" لمحمد ربيع في كتابة أدب المدينة الفاسدة للتعبير عن إحباطهم من أوضاع مصر الحالية.

ومن بين هذه الروايات الثلاث، تتمتع رواية عطارد فقط بميزة القتامة الموجودة عادة في هذا الجنس الأدبي، ويظهر ذلك في الصورة المستقبلية التي وضعها ربيع للقاهرة بوصفها مدينة مقسمة يترأس النصف الشرقي منها مجموعة استبدادية تسمى فرسان مالطا. يروي الجزء الأكبر من الرواية أحمد عطارد، وهو شرطي يقضي وقته في قتل الناس بطريقة ممنهجة من برج قناص، ويصف مرحلة احتضارهم بتفاصيل مؤلمة.

ملحمة مخيفة

في المقابل، تعد نبرة رواية "استخدام الحياة" خفيفة ومبهجة على الرغم من أنها انتهت بوقوع نهاية العالم، وتسببت الرواية في زج نائل الطوخي في السجن لمدة تسعة أشهر، ليس لأن السلطات اعترضت على تكهناته بشأن مؤامرة محتملة من الأعلى، ولكن لأن مواطنا عاديا تقدم بشكوى ضد محتوى وصف بالجنسي الصريح في الرواية.

أما رواية "نساء الكرنتينا" فتبدو وكأنها ملحمة، لكن الطوخي غير مرتاح لتصنيف روايته على أنها رواية أدب المدينة الفاسدة، حيث يقول "لدي مشكلتان مع هذا الأمر. الأولى أنه شيء يفعله النقاد الغربيون، لأن كل ما عليهم رؤيته هو الروايات باللغة العربية التي تُرجمت إلى الإنجليزية، لكنهم لا يعرفون شيئا عن الأدب العربي باستثناء ذلك الذي ترجم إلى اللغات الأوروبية".

وتابع الطوخي "الثانية، لأنهم يربطون الثورة دائما بعالم الواقع المرير، كما لو أنهم يبحثون عن دليل على تأثير الثورة على الأدب المصري الحديث. وقد وجدوا ما كانوا يبحثون عنه في كلمة (ديستوبيا) أي أدب المدينة الفاسدة" .

عوضا عن ذلك، افترض المؤلف أن ما تشترك فيه هذه الكتب، عوضا عن تصوراتها عن "أدب المدينة الفاسدة"، هو أن جميعها نابعة من "التخلص من الخوف من تناول السياسة أو الأحداث السياسية من خلال الأدب"، مبتعدين عن أدب التسعينيات خاصة عندما كان الكُتّاب لا يحاولون التطرق في أعمالهم ومؤلفاتهم إلى السياسة.

وأضافت الكاتبة لينا منذر إنه انطلاقا من هذا الأساس، فإن هذه المجموعة الجديدة من الأدب العربي تنبع من ظروف مشتركة، خاصة أن الإحباطات ذاتها بلغت ذروتها من خلال العمل الشجاع المتمثل في النزول إلى الشوارع للمطالبة بحياة أفضل ومجتمع أفضل. ربما هذه الظروف هي ما دفع الكتاب أيضا إلى البدء بالتحدث عن الأحداث الراهنة، لتخيل عوالم بديلة أو مستقبلية.

ضائع في غياهب الترجمة

وفي حوار سابق للجزيرة نت، قال الأديب العراقي أحمد السعداوي مؤلف رواية "فرانكشتاين في بغداد"، إن معايشته للواقع الذي جرى في العراق خلال عام 2003 وما بعده وحتى اندلاع العنف الأهلي في 2006 هو ما دفعه للكتابة.

ووصلت النسخة الإنجليزية من الرواية -التي مزج فيها السعداوي بين الخيال العلمي وقصة إجرامية مثيرة- إلى القائمة الطويلة لجائزة مان بوكر الدولية بالمملكة المتحدة، بينما فازت بجائزة الرواية العربية لعام 2014.

وتتناول الرواية قصة هادي العتاك الذي يعيش في العراق ويقوم بلصق بقايا بشرية من ضحايا الانفجارات في بغداد بربيع 2005 ببعضها ويخيطها على شكل جسد جديد تحل فيه الروح، لينهض كائنا جديدا يسميه هادي "الشُّسْمه" (أي من لا أعرف اسمه)، وتسميه السلطات "المجرم أكس"، ويسميه آخرون "فرانكشتاين".

وأفاد السعداوي في حواره السابق بأنه سعى لتسليط الضوء على "مقطع معين من الحياة التي عشناها بوصفنا مجتمعا خاضعا لسطوة العنف والإرهاب".

وأضاف "أردت أن أركز على قدرة الخوف حين يتضخم على صنع أعتى الوحوش سواء كانوا وحوشا افتراضية لا وجود لها أصلا على أرض الواقع، أم أشخاصا تحوّلوا بسبب رائحة الدم إلى وحوش في نهاية المطاف.

إن الخوف والارتياب من الآخر وتصديق الشائعات والاندفاع لتأييد العنف وسيلةً لحل المشكلات جعل الحرب الأهلية أمرا منطقيا، وحتى لا نصل إلى هذه الحدود علينا أن نحلل ونتأمل لا أن ننسى ونغطي على هذه الذاكرة الحزينة".

ورغم أن الكاتبة لينا منذر اعتبرت أن الرواية لا تندرج ضمن أدب المدينة الفاسدة أو "تاريخ المستقبل" خاصة أن أحداثها تدور في عام 2005 عقب الغزو الأميركي للعراق، فإنها اعتبرت عدم إدخال هذا النوع من الخيال التأملي في سوريا مثيرا للاهتمام.

ونظرا إلى الاهتمام الذي لقيته هذه الكتب في الصحافة الناطقة باللغة الإنجليزية، فإنها تُشكّل حركة، أو ربما موجة واسعة من الإصدارات الجديدة التي تشير إلى تحول في الأدب العربي المعاصر.

ووفقا لتصريح غنوة حايك -الأستاذة المساعدة في الأدب العربي الحديث بجامعة شيكاغو- لميدل إيست آي فإن "جزءا من الانبهار، في العالم الناطق باللغة الإنجليزية بسبب هذا الخيال التصويري يرجع حقيقة إلى كونه يعكس بطريقة أو بأخرى تصورات الناس المتعلقة بماهية العالم العربي، بوصفه مكانا مليئا بالفوضى والسلطوية والعنف".







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي