سُنّة الحياة

2020-01-02

محمود الريماوي

عاد الشخص البدين من التواليت بعد غياب خمس دقائق، فعلّق شريكه في الجلسة: ماذا فعلت.. هل نِمتَ هناك؟ قالها متضاحكاً، ودعاه للمسارعة بالجلوس، فجلس هذا وهو يغمغم متبسّما، ومعجباً بروح الدعابة لدى صديقه الأثير، وشاعراً بالتقصير حياله، رغم أنه أمضى جُلّ الوقت هناك في انتظار دورٍ له. على أن المتحدث الحليم وواسع الصدر غفر بعدئذ لصديقه تأخره، وواصل حديثه المتدفق من حيث انقطع.

يخطف المستمع كأسه ويرفعه لتجرّعه، فيسارع المتحدث النحيل المتأنق للاستفسار منه: هل تسمعني؟ وكأن الشرب يُعيق السمع. فيعمد المستمع الى الإيماء برأسه، وإنزال الكأس على عجل عن فمه: معك.. معك.. أكمِل.

 لقد مضى أزيد من ساعة على وجودهما، وكنتُ سبقتهما في المجيء بنصف ساعة أو أقل، وكان موقعي في الجهة المقابلة.. ليس على الطاولة الموازية لطاولتهما، بل على التي تليها وتُشرف على طاولتهما. كان يكفي ان أستغل حديثاً عابراً بيني وبين النادل، وأن أنظر خلال ذلك بصورة جانبية، وان أرخي السمع قليلاً لأقف على ما يدور بينهما. لا علاقة للأمر بالتلصص أو التطفل، بل بتزجية الوقت لشخص منفرد. ولحسن الطالع فإن من يقابلني هو المستمع، أما المتحدث المهذار فيدير ظهره لجهتي، وهو ذو صوت أجش من فرط التدخين لكنه واضح، وصوته ليس مرتفعاً لكنه مسموع لدي: أنت تعرفها.. ربما رأيتها معي ذات مرة. لم ترها؟ لا، لا بد أنك رأيتها، على كل سأريك إياها ذات يوم. تلك النحيلة الطويلة، ذات الشعر الذهبي التي تقتني سيارة بي إم حديثة، فضية اللون. الخمسينية التي تقول إنها في الأربعين. ولكن على من.. عليّ أنا، على يعقوب؟  لكنها للحق تبدو أربعينية. لقد التقينا على غداء ثلاث أو أربع مرات، وتقرر في كل مرة أن نتناول طعام الغداء معا، حين تنقدني راتبي على طاولة الطعام. وفي كل مرة أسدّد نصف الحساب لغداء مرتفع الثمن وهي النصف الآخر.. غير أنها ذكية، شيطانة تعرف كيف تفاجئني. فهي تنقد النادل مبلغا كبيرا، ثم تعيد لي نصف ما دفعته وأكثر، قائلة بابتسامة عذبة: هذا لك. فيصبح الوضع مقبولاً بالنسبة لي. ولطالما سألتني: متى تتزوج؟ فأجيبها أني متزوج، فتقول إنه لا يبدو عليّ أني متزوج. تصور. كيف يبدو الواحد متزوجاً بربك. يضحك البدين: فعلاً كيف.. وهل أبدو أنا عازب، وما هي العلامات؟ ويواصل النحيل متجاهلا الملاحظة: هل أحمل لها الطفلين على كتفي. هل أحضر أمّهما مع وثيقة الزواج كي تصدّق؟ السيدة جميلة، نعم. وبصراحة وفي كل مرة تسألني متى سأتزوج، فإن قلبي يخفق.  لن أطلق زوجتي. إنها تملك في بناية كبيرة خمس شقق سكنية تؤجرها بالأثاث، ولا تقيم في إحداها، بل في شقة كبيرة بعيدٌ موقعها قامت باستئجارها. وتملك محلّين للموبايلات أحدهما كبير في وسط المدينة يديره شقيقها، والمحل الثاني متوسط ويديره شقيق آخر لها تربطني به علاقة حسنة ويشكو من تقتير شقيقته عليه، لكنه وهو الأمين يعرف كيف يدبّر نفسه معها وينتزع حقه منها. لا تسألني كيف...  تملك أيضاً حمّاماً نسائياً مُرفق به صالون تجميل للسيدات، تديره بنفسها. والله أعلم كم يبلغ رصيدها في البنك. بعض ما تملكه وراثة، وبعضه الآخر من طليقها الثري، الذي تلتقيه في بعض الأحيان.. ولها ابن وابنة شابان من زوج سابق، يتلقيان تعليمهما في نيويورك..  تصوّر. طبعا لن ترسلهما الى جامعة محلية أو عربية، الأربعينية! طلبت مني أن أدير تأجير الشقق. وهي مهنة أتقنها، أنت تعرف. مرة تقول لي الإيجار شهري فقط. ومرة تقول: ليكن أسبوعياً، لا مشكلة، وفي هذه الحالة عليك برفع السعر. ومرة تشكو من بقاء بعض الشقق فارغة من المستأجرين وتقول: سارع بإيجارها ولو ليومٍ واحد. وفي الكأس الرابعة تقول: من أراد الإيجار لساعتين، فليكن. هذا أفضل من أن يبقى البيت فارغا. ولكن انتبه لهؤلاء، فقد يأخذون معهم أشياء من البيت للذكرى.

 يتدخل البدين مستنكراً: لا يحقّ لهم أخذ أشياء للذكرى..

فيجيبه النحيل على الفور: أية ذكرى يا نبيه؟ إنها تقصد السرقة.

وهل يسرقون فعلاً؟

 لا. لكنها تشك بأنهم يسرقون. هل تعرف عدد الملاعق الصغيرة والمتوسطة والكبيرة والشوكات والأطباق ذات الحجوم المختلفة، في كل مطبخ؟ هكذا تسألني. إنها تنتبه لاختفاء ملعقة، وتحتدّ. تصور. ملعقة صغيرة من النوع الرخيص تزن ربما 10 غرامات. مع أن الملاعق تختفي في كل البيوت. كم من ملعقة اختفت من بيتنا وكأنها فص ملح وذاب.  اختفاء الملاعق سنّة الحياة.. كل بيت تختفي منه الملاعق. ألا تختفي ملاعق في بيتك؟ يتلعثم البدين في الإجابة على السؤال المفاجئ، والنحيل يقول له: إنها تختفي في بيتك، لكنك لا تدري. هل ستخبرك أمك: إن ملعقة قد اختفت من بيتنا ليلة البارحة. لن تقول ذلك، وحتى لو قالت فأنت لن تنشغل بمثل هذا الهراء. ولن تطلب البوليس للتحقيق في الأمر. البدين يضحك بانشراح ويقول من بين أسنانه: فعلاً هراء، معك الحق. الملاعق تختفي والسكاكين الصغيرة أيضاً.

 يتهلل النحيل: أحسنت. سكاكين الفواكه أيضاً ما أسرع اختفاؤها. المهم.. يضيف: طلبتُ منها مكتباً لإدارة العمل، فقالت لي: إنك تحب ارتياد المقاهي، وإنك ابن مقاهٍ، وثمة مقهى قريب يمكنك المكوث فيه، وهي بالطبع لا تدفع ثمن الفناجين وعبوات المياه التي أشربها. أنا الذي أدفع من حر مالي. تطلب مني مراقبة الحركة من المقهى باستخدام الموبايل الخاص بالعمل. وسحب من جيبه موبايل أسود صغيرا من موبايلات سنة 2006. ومندهشا مدّ البدين يده لتفحص الموبايل، لكن النحيل تجاهل اليد الممدودة، وسارع لوضع الجهاز في جيب الجاكيت. وأضاف مغردا: أنا أجلس هناك في مقهى الروزنامة، وبعض الزبائن يتوجّسون مني ويحسبون أني أراقبهم وأرفع تقارير عنهم، ويزجروني بنظرات شزراء. من حقهم أن يفكروا بهذه الطريقة. خاصة أني اختفي لنصف ساعة وأعود. وأتناول طعامي في مطعم مجاور. مضى عليّ 4 سنوات معها، وأفكر بترك العمل. إنها ترفض أن اقوم بصيانة الشقق.. وتتساءل: صيانة لمن؟ للغرباء وعابري السبيل؟ وتزيد راتبي بالقطّارة، قائلة إنها تتذكرني في المناسبات (العيدان: الصغير والكبير). وأنه لم يمض على نفحي عيدية سوى شهرين، أو أن العيد قادم بعد شهرين أو ثلاثة شهور.

والأسوأ من هذا أنها أخذت في الشهور الثلاثة الأخيرة، تمنح حارس البناية الحق بتأجير الشقق مقابل عمولة له. وهذا يدعي أحيانا أنه قام بالتأجير، فيما أنا الذي فعلت ذلك. لا أدري كيف يأتي المستأجرون إلى البناية في يوم العطلة، عطلتي بالذات. وهي تقول لي: تفاهما.. من مصلحتكما أن تتفاهما. وأنا ضجرت منها ومنه، وفكرت بأن أتركها.

أتركها، إنها لا تستحق. أتركها.

من التي لا تستحق: السيدة أم الوظيفة؟

البدين وقد ارتجّ عليه: السيدة... أقصد الوظيفة..

السيدة أم الوظيفة؟ قل..

البدين يرفع يده بإشارة استسلام: 2

وهل لديك وظيفة لي؟

.. الله الرازق.

أسمعُ ما يتناهى إلي من حديث، وأنشغل عنهما بالشرود، وتصفح كتاب "هيا نشتر شاعرا" الذي بحوزتي، وملاحقة صور شاشة التلفزيون. وملاحظة امتلاء المكان بالرواد ما يضطرني لطلب شيء لتبرير وجودي. ألاحظ وجود شخص منفرد في عمق الركن الأيمن، فأطمئن إلى أن انفرادي ليس ناشزاً. وأعاود الالتفات السريع والإصغاء إليهما. انهما يتناولان وجبة. لا أميّز سوى طبق سلطة كبير في وسط المائدة، تُتوّجه أوراق خس كبيرة. البدين يأكل بأناة وتردد، وأتخيل فم النحيل يعمل مثل آلة متعددة الوظائف: يمضغ ويشرب ويتكلم ويدخن. رغم أنه لا يواجهني.

لن أترك العمل، يقول النحيل، ويسهب: لن أتركه. يصمت قليلا ويواصل: هل أفعل ذلك كي يتحول حارس البناية الأغبر إلى وكيل للشقق بدلاً مني؟. خسئ. لا يمكنك أن تتصور مدى جشعه. لم يمض عليه سنة في العمل، لا يولي اهتماما بالشقق السبع، وينشغل فقط بالسيدة سكينة.

من تكن السيدة سكينة؟ يتساءل البدين.

إنها صاحبة العمل. صاحبة الشقق. يجيبه يعقوب.

حسبتها سيدة أخرى.

لا تحسب ذلك مرة ثانية، أرجوك.

يواصل النحيل وأرى شعره الذي يختلط فيه الشيب باللون الخروبي: إنها تصف الحارس بأنه على باب الله. لا، هي غلطانة، فهو على باب الشيطان. وعلى باب القبر إن شاء الله. سأقول لها: إما أن يكف عن التدخل أو أترك أنا الوظيفة.. نعم أتركها.لكن أين أذهب حينها؟

 الله الرازق.

أعرف ان الله هو الرازق، طبعا هو الرازق، لا تقل لي ذلك. إذا لم يكن لديك ما تقوله من الأفضل لك أن تصمت. أنت تتحدث لمجرد أن تفتح فمك. من يده في الماء مثلك، ليس كمن يده في النار مثلي.لا تزعل مني. لكن البدين زعل وامتقع وجهه، وبدا متشائما، وأرى صدره العريض يرتفع وينخفض بفعل التنهد المكتوم. وها هو يطلب الفاتورة من النادل. والنحيل يطلب زجاجتين إضافيتين لهما، من غير أن يعترض البدين الزعلان، لكن زعل البدين يعقبه رضى، فقد حل الهدوء التدريجي على ملامحه، وها هو يقول بصوت شاحب: سامحك الله. لا تريدني أن اقول لك إن الله هو الرازق، من هو الرازق إذاً؟ يتجاهل النحيل الملاحظة، ويضع البدين الفاتورة في جيبه، مكملاً شرب كأسه الكبيرة. يرن هاتف النحيل، ينظر في شاشة الجهاز، ينهض على عجل ويتجه بانفعال إلى الخارج كي يسمع ويتحدث بتركيز هناك. ويستأنف البدين تناول الطعام بشغف، متنقلاً برشاقة بين ثلاثة أطباق. مضى بعض الوقت، نحو عشر دقائق وكان البدين قد أتى خلالها على الطعام، قبل أن يعود النحيل بالبنطلون الجينز الأزرق والجاكيت البني الأنيق والمتهدل، وعلى سحنته بعض التجهم. جلس صامتاً. والبدين يحترم صمت صديقه كما يروقه حديثه. على أن صمت يعقوب لا يطول، فقد أفصح أن السيدة هي من هاتفته، وأنها كانت متوترة، وسألتني: أين أنت. (أين سأكون بالله؟ في القصر الجمهوري مثلا؟) ووبختني لأني أبدد الوقت والمال في السهر معك.

 معي؟ سامحها الله. يقول البدين ملتاعاً.

يكمل النحيل قافزاً عن السؤال: وتشكو من كل شيء، مني ومن الحارس بعد أن عرفت أن بعض الزبائن يمكثون يوما ويغادرون بغير أن يسددوا الحساب، وتشكو من شقيقها صاحب المحل الكبير، وأنها تنوي بيع شقتين وربما ثلاث شقق كي تشتري بالثمن الشقة التي تقيم فيها، وأنها دفعت مبلغاً طائلاً اليوم للضريبة، ومبلغاً آخر للمحامي، وقالت إنها ستراني قريبا لتنظيم الأمور. هل تعرف يا عبد العزيز؟ (هذا هو اسم البدين إذاً)..

أعرف ماذا..؟ لا، لا أعرف.

أحب رؤيتها حتى لو جاءت متوترة. لا تقاطعني.. ماذا تتوقع، هل ستفصلني من العمل؟. يمكنني تدبير نفسي، أعرف العشرات من المالكين العقاريين يتمنونني أن أعمل معهم وسبق أن عملت مع بعضهم. لكنني.. لن أتحدث. تحدث أنت يا عبد العزيز. يقول ذلك ويطلب زجاجتين بإشارة من يده.

يجيب عبد العزيز أنه لا يعرف، فلم يسبق له العمل مع مالكي بنايات. وأنه شخصيا مرتاح بعمله في إصلاح السيارات بعد أن اصبح مالكاً للمحل... ثم يقول بصوت شاحب يشوبه انفعال: أهلا بك معي.. كن شريكي إذا أحببت بأي مبلغ تدفعه، وحتى من دون أن تدفع شيئا. لكنك لا تحب العمل وسط الزيوت والمكائن والضجيج.

ينهض يعقوب متأثرا. يجذب رأس صاحبه نحوه ويقبّل الرأس نصف الأصلع. ويعاود الجلوس متأثراً.

لا تخف علي عبد العزيز. سوف أدعها تتكلم عن مشاكلها كيفما تشاء، وتقرر ما تشاء. ولن اعترض على شيء ولن اتحدث في أي شيء سوى..

سوى ماذا؟

سوى عن استعدادي للزواج بمن أحب.

بمن؟

بمن؟ بالملكة بلقيس. أنت لست معي يا عبد العزيز. بها..

بها ؟.. وزوجتك أم أولادك؟

لن أتحدث عنها بشيء. لا تخلط هذا بذاك يا عبد العزيز. لا تكن متعجلاً، أنت طيب. أنت تتصور أنها سوف تهلل وترقص حين تسمع مني.. لا، إنها شيطانة وذكية تحسن قراءة العيون وما يدور في الرأس، وتتفحص نبرة الصوت، ولا يملأ عينيها أحد. هل تتخيل سيدة المجتمع تخلت عن زوجها الثري كي ترتبط في ما بعد بسمسار؟. إنما لا بأس بالمحاولة. ماذا أخسر.. سوف أضعها هي، رغما عنها، في دوامة البلبلة، كما وضعتني..

وأنا المستمع على الطاولة الأخرى، لم أخسر شيئا، ولم أشترٍ شاعراً (أرجأتُ ذلك..)، بل استأنست بالحديث المسترسل. كدتُ أنهض وأعتذر لهما، ليعقوب على الخصوص، عن استماعي غير المقصود للحديث كله تقريبا (باستثناء دقائق خاطفة دلفت فيها الى الحمّام)، فلو لم أفعل فكيف كنت سأمضي وقتي الطويل منفرداً؟، عسى أن لا يخرج القارئون بعد النظر في ما سبق، بمشاعر الخُسران.

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي