عيون جميلة مليئة بالعتمة

2025-09-11

اللوحة المرفقة للفنان التشكيلي السوري بسيم الريسسمير الزبن*



مع تزايد سقوط القذاف على دوما، خسرت غرفتي، فهذا المكان الذي خلق عالمي على مدى سنوات، أصبح خطرًا عليَّ. مع سقوط القذائف العشوائيِّ، باتت هنالك إمكانيَّةٌ أن تسقط واحدةٌ على غرفتي، تخترقها، وتمزِّقني. لذلك قرَّر أهلي أن أعود للعيش معهم في الشقَّة، المحميَّة أكثر من غرفتي المكشوفة على السطح. خسرت غرفتي، ثمَّ بيتنا، وذهبنا في رحلة اللجوء.
أستطيع وصف عالمي الصغير بكلِّ تفاصيله في غرفتي، صحيحٌ أنَّ الآخرين هم من وصفوا لي الأشياء الموجودة فيها، لكنِّي امتلكت وصفي الخاصَّ للمكان، وأضفت إليه مشاعر الحبِّ التي أكنُّها لأشيائي، وأحيانًا مشاعر الضيق من المكان، الذي كان موقفي منه بطبيعة الحال متناقضًا، بين كونه مكان حبسي، والمكان الذي أخترع فيه عالمي من الظلمة في الوقت ذاته. في أثناء اللجوء إلى المخيَّم تحرَّرت من الارتباط بالأشياء، واستبدلته بالتعلُّق بالأشخاص، أحببت أصوات الناس أكثر، ليس الذين أقابلهم وأحادثهم فقط، بل أحببت ضجيج الناس في الشوارع وقت الازدحام أيضًا. صحيحٌ أنني لا أفهم ما يقولون، وعندما أفهم لا أعرف في أيِّ سياقٍ يقولون كلامهم، لكنِّي أحببت أصواتهم أكثر، أحببت ضجيج الصوت البشريِّ المختلط بأصوات محرِّكات السيَّارات وأبواقها المستعجلة، أحاديث الشجار والخلاف، أحاديث الألفة والحبِّ، وأحاديث الكراهية والحسد والتعالي والترجِّي، كلُّها أحاديث بشريَّةٌ، مهما كانت قسوتها، أو رقَّتها. عرفت أنَّ هنالك حياةً خارج الغرفة التي قضيت جلَّ حياتي فيها، وعرفت أنَّ الناس يبنون حياتهم ويحطِّمونها خارج الغرف. الحقيقة أنَّ الحياة تقع خارج الغرف، حتَّى لو كنت أعمى هذا لا يغيِّر حقيقة العالم، المعزولون لا يصنعون الحياة، يصنعها من ينطحن فيها، لا من ينتظرها في غرفته الباردة المعزولة. هذا ما أدركته في المخيَّم وتعلَّقت به، وتعلَّقت بمعارفي الجدد المتحلِّقين في دائرةٍ أمام ورشة النجارة المغلقة بسبب الحرب الدائرة، يثرثرون حول كلِّ شيءٍ، الحرب، والحبِّ، والجنس، والكراهية، والظلم...
تجربة اللجوء التي خفت منها لم تكن بالسوء الذي توقَّعته. بالتأكيد، كان من السيِّئ أن يغادر أعمى مكانه المعتاد، تغيُّر من الصعب التكيُّف معه، كيف إذا كانت هذه المغادرة لجوءًا بسبب صراعٍ مسلَّحٍ، وليس انتقالًا طبيعيًّا من مكانٍ إلى آخر. كانت أمِّي حزينةً بسبب هذا اللجوء، الذي أعادها إلى المكان الذي غادرته قبل أكثر من أربعين عامًا، بنت خلالها عائلةً تحبُّها وسكنت في بيتٍ تحبُّه. لم تكن مرتاحةً لهذا الانتقال، ما عزَّاها أنِّي لم أشعر بالانزعاج من هذا اللجوء. كانت تضبطني وأنا سعيدٌ، وعندما تسألني هل أنا سعيد حقًّا، أجيبها بالإيجاب، وهو ما يعزِّيها من دون أن يجعلها تغادر تفكيرها بالقادم من الأيَّام المجهولة، وخائفةً على أبي الذي دمَّرت الحرب حياته بعد التقاعد، تخاف عليه أكثر ممَّا تخاف على نفسها. كانت تشعر أنَّ غيابه يقتلها، لم تكن تعرف ما الذي يمكن أن تفعله، ولا تتخيَّل الحياة من دونه. تزوَّجته طفلةً، ولا تعرف من العالم سوى ذلك الجزء الذي عرَّفها هو عليه، رضيت به، وعاشت حياتها على أنَّه ثابتٌ في حياتها.
عندما أفكِّر في تجربة المخيَّم، أشعر أنَّ الانشغال بقصص الآخرين هو الغطاء الذي حجب الحرب عن تفكيري، كان يجب على الحرب أن تختفي، حتَّى أستطيع الاستمرار في الحياة. أخفيتها وبدأت أرتِّب ذاكرتي بقصصٍ أخرى، عندما داهمتني الحرب مرَّةً أخرى، وقالت كلمتها إنَّ هذا العالم الذي اختبأت وراء قصصه يتبدَّد من جديدٍ، كما تبدَّد عالمي الصغير الذي تركته في دوما من قبل، وغادرت أكثر خوفًا، لأنَّ عالم العميان أكثر هشاشةً من عالم المبصرين، فهم يخافون أكثر منهم. صحيحٌ أنَّنا نحن العميان نرى العالم أقلَّ قبحًا ممَّا يراه المبصرون، لكنَّ هذا لا يجعل العالم الحقيقيَّ يعاملنا على نحوٍ أفضل من المبصرين بوصفنا أناسًا معاقين. على العكس العالم من الانحطاط لدرجةٍ يجعل الضعفاء والمعوَّقين يدفعون ثمنًا أكبر في الحروب، والتي هي أقذر أحداثٍ عرفها التاريخ البشريِّ. كان علينا مغادرة المخيَّم، وعليَّ أن أخسر الغطاء الذي وجدته في المخيَّم في مواجهة الحرب.


"هنالك كثير من الأشياء التي لم يستطع أهلي فعلها لأنِّي أُقيِّدهم، وعليهم
أن يراعوا في تنقُّلاتهم وفي هربهم من جحيم الحرب المرَّة بعد الأخرى أنَّ ابنهم أعمى"

انتهت إقامتنا في المخيَّم بعد قصف الطائرات الحربيَّة له ودخول الجيش الحرِّ من الحجر الأسود والتضامن. قرَّر أبي الخروج من المخيَّم مثلما قرَّر أهالي المخيَّم تركه. سمعت الأحاديث بين أبي وأمِّي عن الوجهة بعد الخروج من المخيَّم. لم تكن هنالك وجهةٌ محدَّدةٌ، حديثٌ جديدٌ عن ضياعٍ جديدٍ، ويتكرَّر هذا الحديث المرَّة بعد الأخرى. وفي أحاديث الضياع أكتشف أنِّي لست الأعمى الوحيد، فالضياع نوعٌ من العمى أيضًا. ما دمَّرني، وفي كلِّ رحيلٍ، ليس عدم قدرتي على المساعدة فحسب، بل وتحوُّلي إلى عبءٍ على أهلي على نحوٍ كاملٍ أيضًا. في المخيَّم امتلكت إمكانيَّة أن أغيب عنهم، وكان هذا يريحهم ويريحني. وفي المخيَّم اخترعت لنفسي تجاهل الحرب، وكأنَّ البلد أصبحت بلا حربٍ، والحديث يدور عن حربٍ تقع في بلدٍ آخر. الحرب التي أخفيتها عادت لتهاجمني بشراسةٍ، وعاد لي الإحساس المدمِّر بالخوف الذي تسبِّبه، وزاد الإحساس سوءًا مع الرحيل، وها نحن أمام رحيلٍ جديدٍ. هنالك كثير من الأشياء التي لم يستطع أهلي فعلها لأنِّي أُقيِّدهم، وعليهم أن يراعوا في تنقُّلاتهم وفي هربهم من جحيم الحرب المرَّة بعد الأخرى أنَّ ابنهم أعمى. في ذلك اليوم، شعرت نفسي في غاية الثقل على أهلي، لا سيَّما وهم يخفضون أصواتهم عندما يتحدَّثون عني. ولم يعرفوا أنَّه يكفي أن يخفِّضوا أصواتهم، سواءً سمعت ما يقولونه أم لا، لأعرف أنَّ الحديث يدور عنِّي، ولا يريدون أن أسمع ما يقولون مراعاةً لمشاعري، وكانت هذه المراعاة تؤذي مشاعري أكثر من سماعي ما يقولون بشأني. عندما بدأت أمِّي وأختي غدير جمع الأغراض، عرفت أنَّنا سنغادر المخيَّم، وعندما قالت لي غدير: "فراس، بكرة ماشين"، كنت أعرف ذلك، فهززت رأسي بالموافقة، من دون أن أقول كلمةً واحدةً.
لجوءٌ جديدٌ إلى مكانٍ جديدٍ، سيتغيَّر عليهم كلُّ شيءٍ من جديدٍ، أمَّا أنا فسأحمل عتمتي معي أينما ذهبت. كان طلب أبي التقليديُّ التخفيف من الأغراض، فنحن لا نستطيع حمل كلِّ شيءٍ. طلب من أمِّي أن تترك الأشياء الأقلَّ أهميَّةً، على أن يعود لإحضارها إن أمكن. قال ذلك عندما كنَّا في دوما، ولم يتمكَّن من العودة بعد خروجنا. أمِّي وأبي وأختي غدير مستغربون من مراكمتنا لكثير من الأشياء خلال الوقت القصير الذي قضيناه في المخيَّم، مع أنَّ الجميع اتخذ قراره بألَّا يقتني سوى الضروريِّ في أثناء لجوئنا، وها هما أمِّي وأختي تشتكيان من جبل الأغراض الذي راكمناه خلال أشهرٍ قليلةٍ من وجودنا في المخيَّم، والذي لا نستطيع أخذه معنا. بقيت تصفية الأغراض قائمةً طوال الليل، لاستبعاد الأغراض التي لن نأخذها معنا. وما كان يجري هو تكرار لما جرى في دوما، هو إشغال النفس حتَّى اللحظات الأخيرة، حتَّى لا يقع المحظور، وتطرح الأسئلة الحقيقيَّة نفسها، وتبدأ جولةٌ من البكاء لا تنتهي، بالانشغال المفتعل ستؤجَّل هذه الجولة من البكاء إلى ما بعد الرحيل عن المخيَّم. هذا ما جرى في دوما، وهذا ما كرَّر نفسه في المخيَّم. بقيت تصفية الأشياء مستمرَّةً خلال القصف الذي لم يهدأ طوال الليل، إذ تصدر أمِّي وأختي صرخات الخوف عندما يكون انفجار القذيفة قريبًا. وبقيت أنا أسمع حوارهما في استثناء الأغراض الأقلَّ أهميَّةً بشرودٍ، لأنِّي كنت مشغولًا طوال الليل بمراقبة انفجارات القذائف، التي يرتجف جسدي عند سماعها، سواءً كانت الأصوات قريبةً، والتي أقدِّر أنَّها كانت على بعد أقلَّ من خمسين مترًا، وبين القذائف البعيدة التي أسمع صفيرها أحيانًا وتنفجر بعد حين، كلَّما كان فرق الوقت بين صفير القذيفة وانفجارها أطول، أعرف أنَّها أصبحت أبعد. لكن هناك قذائف تنفجر ولا أسمع صفيرها، وهذا يعني أنَّها لم تمرَّ من فوقنا. بقيت الانفجارات وفرز الأغراض حتَّى الصباح. فجأةً، توقَّفت القذائف، والفرز لم يتوقَّف، إذ استُثنيت أشياء في اللحظات الأخيرة، واستمرَّ أبي يحتجُّ على كثرة الأغراض. حتَّى وهم ينقلونها إلى السيَّارة استعدادًا نهائيًّا للرحيل.
سمعت أصوات الناس في الشارع قبل نزولنا من بيت جدِّي لنركب السيَّارة ونغادر، سمعت أطفالًا يبكون، رجالًا ونساءً ينادون أولادهم، أبواق سيَّاراتٍ، أصوات عجلات عرباتٍ منزليَّة، وغيرها. عندما قادتني غدير إلى السيَّارة وأجلستني في المقعد الأماميِّ، لأنحشر بين أبي الذي يقود السيَّارة وأمِّي التي تجلس بالقرب من الشبَّاك، اختلفت الأصوات، من همهمات الناس في الشارع عرفت أنَّ الشارع مزدحمٌ. السيَّارة تسير ببطءٍ، والأصوات في غاية الوضوح، بكاء نساءٍ، رجلٌ يسأل أولاده: "وين أختكم؟"، ولدٌ يردُّ: "بابا، هاي هي معنا"، الرجل: "الله يلعن الشيطان، الواحد ما عاد شايف"، امرأةٌ تصرخ على ابنتها: "ولك، ألف مرَّة صرت قايلة، امسكي إيد أخوكي"، البنت: "والله يا إمِّي ماسكيتها منيح"، صوت حديدٍ يقع على الأرض، صوت رجلٍ: "انتبه يا حمار، هاي ثالث مرة بتوقِّع غطى الطنجرة"، صوت بكاء طفلٍ، الأم: "لك منشان الله اسكت صرعتني"، رجلٌ عجوزٌ: "والله يابا ما عاد قادر أمشي. خلص خذي ولادك وكملي، تركيني هون برجع على البيت وبدبِّر حالي"، يردُّ صوت المرأة: "يابا، وين أتركك، رجلي على رجلك"، ولدٌ صغيرٌ يبكي: "ليش فيقتيني من النوم، ما بدي أروح"، صوت امرأةٍ: "اخرس وله، بدك بد وسيف حد"، سعال رجلٍ، وصوت امرأةٍ: "يابا، منشان االله امشي، مش وقت التدخين"، امرأةٌ تسأل: "وين بدنا نروح يا رجال؟!"، صوت رجلٍ يجيب: "والله ما بعرف، الله بيسِّرها"، ولدٌ يهدِّد: "والله لأذبحك" صفعة تسكته، وصوت رجلٍ: "اخرس، لا تحكي هيك مع أخوك الكبير"، امرأةٌ تقول: "نسيت المصاري بالخزانة، تعا نرجع نجيبهم"، الرجل: "حملتي كل الزبالة، وتركتي المصاري....". كانت الأحاديث مؤلمةً، أخافتني مثلما أخافتني القذائف، تمنَّيت وقتها لو أنِّي لا أسمع أيضًا، فدموعي لم تستأذن بالنزول، كنت أسمع هذه الحوارات، بين بكاء أمِّي المكتوم على يميني، وتنهيدات أبي الحارقة على يساري. لم يجدا خلال الطريق لمغادرة المخيَّم أيَّ كلامٍ يتبادلانه. عندما أوقف أبي السيَّارة إلى جانب الطريق، واتصل بهاتفه المحمول بمحمود ابن عمِّي منير، وقال: "عمِّي اطلعوا، ما في حاجز، وما في حدا عند الطابة، الطريق سالك"، عرفت أنَّنا خرجنا من المخيَّم، وأنَّه يخبر أبناء عمِّي منير أن يخرجوا من المخيَّم.


(*) مقطع من رواية بجزأين بعنوان "صوت السماء: حكايات عن الحرب والحبّ"، صدرت حديثًا عن دار لاماسو للنشر والتوزيع.









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي