سقوط اللاعودة

2019-12-26

رامي فارس

أخذ يتقلب على فراشه لا يستطيع النوم، حاول أن يغلق عينيه. دوامة الأفكار والعذابات تسيطر عليه منذ عودته إلى بيته القابع في أحد أحياء المدينة الفقيرة.

قام من الفراش، ووقف إلى جوار النافذة القريبة المطلة على الطريق، وراح يحدث نفسه: ماذا سيحصل لو أبلغت الشرطة، وأرحتُ ضميري؟ ولكن لا، بالتأكيد ستأخذ الشرطة كلامي كشاهد، وحينها سأقحم نفسي في دوامة كبيرة لا قبل لي بها.

أشعل سيجارة، أخذ يمتصها بهدوء وهو يسترجع في ذاكرته ذلك الصوت. كان في طريقه إلى البيت بعد أن اختتم سهرة صاخبة في الحانة مع الأصدقاء، عندما مزق سكون الحي الغارق في الظلمة صوت امرأة تبكي وتتوسل. توقف قليلاً وراح يرهف السمع بحثاً عن مصدر الصوت، وبقي هكذا لثوان حتى تبين له أن الصوت صادر من البيت المجاور لبيته، بيت جاره حسيب. توقف قرب الباب، أراد أن يطرقه، لكنه تراجع وفضل أن يقف على حقيقة الأمر، لعل ما سمعه لا يعدو مجرد أوهام وخيالات لا أساس لها. راح ينصت، جاءه الصوت مرة أخرى، وكان واضحاً؛ امرأة تبكي وترجو وتتوسل. فجأة سمع صوت ارتطام شيء ما على الأرض، أعقبه صمت مطبق. يبدو أن شجاراً نشب بين جاره والمرأة التي معه. لا يهم، فذلك أمر خاص، لا يجوز أن أطرق بابه الآن، وقبل أن يكمل طريقه لاحظ أن باب جاره لم يكن مغلقاً تماماً.

فتح النافذة، ورمى عقب السيجارة بعيداً. نظراته تنتقل بين حي سكني ممتد على مد البصر وبيوت عتيقة ما تزال تعبق بأنفاس ساكنيها. صدق من قال إن للبيوت أسراراً، وبين جدرانها المتآكلة تكمن العجائب. فجأة تذكر حسيب ذلك الشاب الذي لطالما كان يترك وراءه المئات من علامات الاستفهام. لم تكن العلاقة عميقة بينه وبين حسيب، رغم أنه جاره، فتصرفات الأخير تثير الريبة، وعلاقاته حسب ما سمع من أبي رياض، صاحب المقهى في الحي، مشبوهة، ويعمل مع عصابة متخصصة بالمتاجرة بالأعضاء البشرية. وقد روى له أحدهم أنه وفي ليلة شتائية ماطرة توقفت سيارة دفع رباعي سوداء لا تحمل لوحات أمام بيت حسيب، وتم إخراج

"ترى ما العمل؟ هل يذهب ليبلغ الشرطة. لكن ما دخلي أنا. قالها بصوت عال، وأمسك رأسه بكلتا يديه، وشد شعره بقوة. كل شيء في الغرفة يشعره بالاختناق. يجب أن يتأكد بنفسه، حتى وإن كلفه الأمر حياته"

صندوق كبير نسبياً من البيت، ووضع داخل السيارة، وكان معهم حسيب.

صوت بكائها ما يزال يتردد صداه على مسامعه، ويعذبه باستمرار. أطلق آهة طويلة. استلقى على فراشه، وراح يفكر: ترى ما كان ذلك الصوت؟ نظر نحو الساعة، ما تزال عند الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. الوقت يمر ببطء ثقيل شديد الوطأة على نفسه، ترى ما العمل؟ هل يذهب ليبلغ الشرطة. لكن ما دخلي أنا. قالها بصوت عال، وأمسك رأسه بكلتا يديه، وشد شعره بقوة. كل شيء في الغرفة يشعره بالاختناق. يجب أن يتأكد بنفسه، حتى وإن كلفه الأمر حياته. أطفأ سيجارته، وتوجه نحو بيت جاره بعزم وإصرار وهو يردد... لن أنام الليلة حتى أقف على الحقيقة.

دفع باب جاره حسيب برفق، وسرعان ما لفه الظلام بعباءته السوداء، كل شيء من حوله حالك السواد، شعر بانقباض قلبه، وضيق تنفسه، وسط كل هذا الظلام. ظل يسير ببطء مستنداً على الحائط، لا يعلم أين هو، هل هو في مدخل البيت، أم في إحدى الغرف، تحسس بأصابع مرتجفة الحائط بحثاً عن زر الضوء الكهربائي، وجده بعد صعوبة، كبس الزر، فجأة أضاء المكان، للحظة شعر بألم حاد يمزق عينيه من  شدة الضوء، كان في إحدى غرف البيت، وكان أثاث الغرفة مقلوباً رأساً على عقب. في أحد جوانب الغرفة صدمه منظر جثتين، الأولى ممددة على سرير، وكانت لامرأة لم يتبين ملامحها جيداً، والثانية ملقية أرضاً، وكانت لرجل عرفه للتو، وكان جاره حسيب، انتابه شعور عميق بالخوف والترقب، إنه شاهد حقيقي على جريمة قتل، ظنونه كانت في محلها.

تقدم بخطوات ثقيلة مرتجفة نحو جثة المرأة.. ما هذا... قفز مرعوباً.. إنها زوجته. تراجع للوراء بخطى متعثرة، دوامة أسئلة بدأت تنهمر على رأسه، أسند ظهره على الحائط، كان يتنفس بصعوبة والعرق يتصبب من رأسه ووجهه. قلبه يخفق بسرعة رهيبة. ألم شديد بدأ يتسلل نحو صدره. أراد أن يقبض على موضع الألم بقوة. رفع إحدى يديه بصعوبة. فجأة انبثق ضوء ساطع جداً، ضوء قوي اخترق كل شيء، وغطى المكان. لم يشعر بنفسه إلا وهو يسقط ويسقط ويسقط... إنه سقوط اللاعودة.

حانت منه التفاتة نحو الساعة المعلقة أمامه على الحائط، الساعة تقارب الخامسة صباحاً، لم يشعر بمرور الوقت، رمى بالقلم جانباً، أسند رأسه على الكرسي، استل ظرفاً كبيراً من درج المكتب، وضع القصة في داخله، وكتب على ظهره بخط واضح: حضرة رئيس التحرير مع التحية.

 

(القاهرة)

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي