الكتاب في بلاد العجائب.. القراءة لجميع الناس

2019-12-19

مها حسن

في مدينة سان مارتان دو شامب، رحت أتجول مسحورة في القاعة الكبيرة، حيث دُعيت لحفل التعريف بمعرض الكتاب للصغار واليافعين، قبل افتتاحه الرسمي. ولأنني وصلت باكراً، لم أفهم ما يحدث حولي.

رحت أتفرج على الألاعيب التي ابتكرها الأطفال، وكأنني أتجول في بلاد عجيبة: رؤوس وغابات ومقتطفات ورقية وعبارات ملصقة وكثير من المرايا، في عدة تشكيلات وهيئات، ومنها المتكسّر، مع عبارات مرفقة تحمل تساؤلات تحريضية: مرآتي، قولي لي من نحن؟

المرآة هي تيمة المعرض، التي تدور حولها الكثير من المفاهيم والأشغال اليدوية، طارحة أسئلة، حاول الصغار الإجابة عليها: مرآتي، من أجمل مني؟ أو: انظر إلى نفسك في المرآة، ماذا ترى، كيف ترى نفسك، ارسم ما تراه في داخلك.

لم أعرف أن هذا الركن الساحر، ليس سوى المدخل إلى الصالون الحقيقي، حيث تمكث الكتب. قالت لي جوليا تاج، رئيسة المعرض: تستطيعين التجول في الداخل، والاطلاع على الكتب! وحين ولجت الباب الذي يلي تلك الصالة الكبيرة، وجدتني في عالم الكتب.

هو معرض كتاب إذاً، لكنه معرض كتاب للأطفال واليافعين، منذ عمر السنة، تقول جوليا، حيث اعتاد الطفل أن يقرأ له أبواه قصصاً من الكتب، حتى قبل أن يتعلم القراءة.

  جوليا تاج:  المرآة هي تيمة المعرض، التي تدور حولها الكثير من المفاهيم والأشغال اليدوية

سحرني المعرض، منذ صورة البروشور: الطفل الأسمر ذو الشعر الأجعد، ينتعل حذاء وردي اللون، ليأتي عناصر فريق المعرض، جوليا وهيلين وفاليري ونيكولا وغيرهم، ينتعلون أحذية وردية ذات أعناق طويلة، ويقفون قرب مجسم كبير لمرآة ضخمة، قريبة من غرفة خاصة، مُلئت بأشكال وألوان متعددة من المرايا... طبعاً، فنحن في عالم الأطفال: عالم الأحلام!

تقول جوليا: هنا يكمن الفرق بين معرض الكتاب العادي، أي معارض الكبار، وبين معرض موجّه للأطفال واليافعين، ثمة روح الدعابة، والتقليل من مستوى الجدية، ليتحول الأمر إلى مرح ولعب وعروض مسرحية وألعاب ومسابقات وقراءات حيّة.. كأننا في مهرجان للقراءة، عبر اللعب.

تحدثني جوليا عن ضيوفها، واحد وعشرون كاتباً وكاتبة يكتبون للأطفال. تسرد لي تفاصيل الانسجام بينهم، والشعور بالاسترخاء، ومشاريع مشتركة تنشأ فيما بينهم أثناء هذه اللقاءات، فهم قلة، ويعرفون بعضهم، ويلتقون في معارضهم المألوفة لهم، وفيما بينهم.

تقول جوليا تاج: ساهمت أربع وأربعون مدرسة في المعرض، واستقبلوا الكتّاب في صفوفهم، ليلتقوا بالتلاميذ ويقرأوا لهم، ويناقشوا كتبهم وقصصهم. كما أن الأساتذة في تلك المدارس شاركوا بالاشتغال مع تلاميذهم فما يشبه ورشات مشتركة من الأشغال اليدوية والمزج بين الفن البصري وفكرة الكتاب، لنكون أمام منتج يتعلق بموضوع المعرض "المرايا" ولكن من وجهة نظر أدبية وفكرية، جعلت الأطفال واليافعين يبدعون.

لهذا كان المعرض مزيجاً من عرض الكتب، بما يتفرع عن ذلك من ندوات وحفلات توقيع وبيع كتب وقراءات حيّة من قِبل الكاتب ذاته، حيث يتحلّق حوله الصغار قبل الكبار، يستمعون بشغف إلى النص المقروء، وكذلك إضافات الأطفال واليافعين الذين ملأوا المعرض بنتاجاتهم.

حتى جوليا، الأستاذة التوثيقية، أو ربما ما يشبه في بلادنا أمناء المكتبات في المدارس، والتي تُعنى بتقديم ما يتعلق بالنشاطات الثقافية المتعلقة بالقراءة وتأمين المراجع والمصادر والكتب، تلتمع عيناها بشغف الأطفال، وهي تتحدث عن المعرض، منتعلة الحذاء الوردي ذا العنق الطويل، كبقية أعضاء الفريق، الذين يعملون جميعا كمتطوعين، فيتماهون مع الطفل الأسمر في الأفيش، ليظهروا كشخصيات خيالية خارجة من الكتب.

أسأل جوليا ذاتها، صاحبة المخيلة الخصبة التي أسست هذا المعرض منذ ثمانية أعوام، عن العوائق التي تعترض مشروعها، وعن أمنياتها في المعارض القادمة، لتقول بفرح: نحن سعداء بالمعرض ولا نريد سوى أن يستمر هكذا! ليست لجوليا وأصحابها أية أحلام كبيرة إضافية، إنهم يعملون فقط على استمرار الحلم.

يكمن الفرق بين معرض الكتاب للكبار وبين معرض موجّه للأطفال واليافعين في أن ثمة روحاً للدعابة

مدخل صوب الأحلام

هكذا أنواع من المعارض والنشاطات تشكل لأمثالي من الكبار أيضاً مدخلاً صوب الأحلام، لنلتقي بطفولتنا، ونشعر بالمرارة والفرح معاً: الفرح لاكتشاف الطفل القابع فينا، القادر على التفاعل مع هذه الألعاب البصرية والذهنية التي تقود إلى الذات والآخر معاً، والمرارة، حين نقارن حظوظ الأطفال هنا مع حظوظ أطفالنا في البلاد العربية.

لا تتقاضى جوليا وفريقها أي استحقاق مالي، وتسعى لتأمين بعض المردود المالي للكتّاب الذين تستقبلهم، فيما يُعرف هنا بحقوق المؤلف، الذي حين يقرأ نصّاً من كتابه مثلاً، يحصل على تعويض مالي. وهذا ما يجعلني أيضاً أشعر بغبن المقارنة: الشخص الذي يقوم بكل هذا الجهد، لتجميع أحلام الأطفال وتحقيقها، ونسجها مع حقوق المؤلفين وأحلامهم، لا يتقاضى أي مال، لأن سعادته هي في إنجاز هذا المشروع، وخلق حراك فكري في المدينة، وتشجيع القراءة، الأمر الذي نفتقده، أي نفتقد هؤلاء الأشخاص في بلادنا، عدا استثناءات نادرة، إن وُجدت.

تضيف جوليا: الدخول إلى المعرض مجاني، ونحاول عبره جذب العائلة برمتها إلى المشاركة والحضور. حتى الكبار، الذين ليس لديهم الوقت، أو ربما الاهتمام بالكتاب، يجدون أنفسهم مدفوعين للقدوم من أجل أطفالهم، ومقاسمتهم تلك المتعة.

أسأل جوليا باستحياء عن الطفل الأسمر في الأفيش، حيث أغلب أطفال هذه المدينة من ذوي البشرة البيضاء، تضحك جوليا وتقول: حتى الحذاء الزهري، حيث هذا اللون نُمّط استعماله من قبل الفتيات، نحن في فريقنا المؤسس للمعرض حاولنا أن نقول إن القراءة ليست وقفاً على شخص ما، أو نموذج ما، القراءة لجميع الناس بجميع الأعمار والألوان والأجناس.

عن العلاقة بين المدارس ومعرض الكتاب، تشرح لي باقتضاب: نهدف أيضاً إلى توطيد العلاقة بين المدرسة والكاتب. تواجد الكاتب في صفوف الطلاب، واقترابه منهم، يخلق علاقة مهمة للطرفين. الطلاب بحاجة إلى هكذا لقاءات حيّة، تعمّق علاقتهم مع الكتاب من خلال صاحبه، وكذلك يحصل الكتاب على خبرات إضافية ومهمة من خلال الأسئلة غير المتوقعة من قبل الأطفال.

رؤية ما في الداخل

لماذا المرآة؟ تجيبني جوليا على سؤالي: منذ حكايات أليس التي دخلت من المرآة، وحكايات "بيضاء الثلج" والكثير من قصص الأطفال، وكذلك في أدب الكبار، وفي الأسئلة الفكرية، يحاول الإنسان دائماً التعرف على ما هو عليه، أو ما ليس عليه، من نحن، ومن لسنا نحن، وتحتاج أسئلة كهذه إلى رؤية وجوهنا، وأفكارنا المعكوسة في صورة الآخر، أو في صورتنا الأخرى. من هنا مثلاً، جاءت الورشة التي أقامها الرسام ريكاردو كافالو، الذي جمع الصغار وقال لهم: ليرسم كل منكم ما يراه في داخله!

تضمن المعرض المزيد من النشاطات والفعاليات والمسابقات، كان ثمة غرفة ماكياج مجانية للأطفال، تستقبل الأطفال بجميع الأعمار، وورشة حملت عنوان "دفتري السري بالأصل" والتي حاول مؤسسوها ابتكار كتاب مذكرات لأطفال منذ سن الثامنة، وكذلك قام الرسام والخطاط محمد إيدالي برسومات حية مرافقة لقراءة كتاب يان كوريه "ألوان العالم" باللغتين الفرنسية والعربية.

أجمل ما يمكن الخروج منه بعد حضور هكذا معارض، هو سقوط الحواجز بين الأعمار، يلتقي الكبار والصغار في علاقة متساوية، تنتفي فيها سلطة الكبار على المخيلة، والخجل الذي قد ينتابنا، حين نشعر بحماقات مخيلاتنا.

"خذوا الحقيقة من أفواه الأطفال"- تقول المقولة، ويستند الكبار هنا على هكذا مقولات، ليسمحوا لأطفالهم الداخليين المقموعين، غالباً ذاتياً، للخروج إلى ساحة القراءة والحوار والتساؤلات. فمتعة الطفولة البريئة واكتشاف الإجابات والتعلّم عبر اللعب نحتاجها نحن الكبار أيضاً، ويحتاجها أكثر أطفال العالم العربي الغارق في الحروب والعنف وأخبار الموت.

(فرنسا)







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي