العامية والفولكلور والحياة: رؤية جديدة لجدلية قديمة

2019-12-16

 مصطفى عطية جمعة*

السؤال الذي نستهدف الإجابة عنه في هذا المقال هو: كيف يمكننا الاستفادة من اللهجات العامية؟

وتتأتى الإجابة عنه، من خلال النظر إلى واقع الحياة اللغوية في عالمنا العربي. فإذا كان دعاة العامية أسرفوا وتطرفوا، إلا أن الدعوة بها عدة عناصر ينبغي الاهتمام بها، فالعامية تعبّر عن تطور لغوي للعربية الفصيحة، وهذا التطور لا يمكن أن نتغافله، فنحن لا نحيي فصحى قديمة بالية، بل نأخذ من الفصحى ما يتناسب فهمه مع العامية الحالية، وما يتردد على الألسنة منها، ولذا، فإن العامية السائدة على الألسنة في الدول العربية، إنما هي معيار الكتاب في التعبير، فلن يعبر كاتب بلفظ فصيح مأخوذ من معاجم قديمة، تحت دعوى إحياء الفصحى، بل يتخذ مما هو سهل فهمه، متداول في ما هو مدروس منتشر في الإعلام والصحافة، لبنات في بناء جمله وعباراته.

أيضا، فإن دراسة العامية إنما تعبّر عن رصيد من التراث الشعبي، جرى إهماله قرونًا عديدة، تحت دعاوى النظرة المقدسة للعربية لغة القرآن، ونسي أصحاب تلك الدعاوى أن التراث الشعبي ما كان ينشأ إلا بلغة العامة، فالفلكلور هو العلم الذي يدرس التراث الروحي (اللامادي) للشعب، خاصة التراث الشفاهي، من أجل تفسير حياة الشعوب وثقافتها عبر التاريخ»، فمجال الفلكلور هو إعادة بناء صورة التاريخ الروحي للإنسان. كما يتضح في أصوات الشعب غير المصقولة.

والمقصود بأصوات الشعب غير المصقولة هو اللهجات العامية، التي لا تخضع لمعايير الفصحى، لأن التراث الشعبي لا يصنعه فرد بعينه، بقدر ما يشارك الكثيرون في صياغته وتأليفه، فالأدب الشعبي في تعريفه الأولي هو، أدب الجماعة المنطوق في لغتها اليومية على ألسنة جمهورها، فالفلكلور فن شفاهي، مجهول المؤلف، متوارث جيلا عن جيل. وهو أيضا: أدب اللهجة العامية سواء كان شفاهيا أو مكتوبا أو مطبوعا، وسواء كان مجهول المؤلف أو معروفه متوارثا أو غير متوارث. وهذا تعريف أكثر رحابة، يحتضن الإبداعات العامية بكافة توجهاتها ومؤلفيها وأجيالها.

وفي جميع الأحوال، فإن الأدب الشعبي معبر عن الرؤى الفكرية للطبقات الشعبية المهمشة والفقيرة، عبر حقب التاريخ، فليس الأمر مجرد الوقوف على ألفاظ العوام ودراسة علاقتها بالفصحى، بل يمضي إلى دراسة نفسية الشعب، وهو يفيد كثيرًا في إيضاح جوانب من الحياة اللغوية والفكرية والاجتماعية، التي تم تجاهلها عن عمد أو بغير عمد، من لدن دارسي الأدب العربي قديمًا، ومن لدن الكثير من المعاصرين في بدايات النهضة العلمية الحديثة.

لذا فإن التعريف المتبنى من منظمة اليونسكو في أحدث مؤتمراتها، يؤكد على أن الفلكلور أو الثقافة التقليدية الشعبية هو جملة أعمال إبداع نابعة من مجتمع ثقافي، وقائمة على التقاليد تعبر عنه جماعة أو أفراد معترف بأنهم يصورون تطلعات المجتمع، بوصفه تعبيرًا عن الذاتية الثقافية والاجتماعية لذلك المجتمع، وتتناقل معاييره وقيمه شفهيًا أو عن طريق المحاكاة أو بغير ذلك من الطرق، وتضم أشكاله، في ما تضم، اللغة والأدب والموسيقى والرقص والألعاب والأساطير والطقوس والعادات والحرف والعمارة، وغير ذلك من الفنون. وبناء على ما تقدم، فإن العامية والفصحى ينبغي أن لا تتصارعا بقدر ما يجب أن تتحاورا على صعيد الدراسة اللغوية والفلكلورية والأدبية والنقدية، بعيدًا عن الرفض والقبول الذي يقف بهما عند الحافة، بدون رغبة التزحزح إلى المنتصف.

وعليه، فإن مفهوم العربية الفصيحة لا يقصد به المقياس القديم الجاهلي، أي لغة الفصحى المنطوقة في المجتمع الجاهلي، فهذه من القضايا اللغوية التاريخية، ولها قداسة راسخة وتقاليد عريقة، وهي أساس ومقدمات لفصحانا الحديثة.

وإنما تُعرّف الفصحى الحديثة أو العربية المعاصرة بأنها: «لغة فصحى، مكتوبة، تستخدم في التعليم وفي العلم وفي الأدب وفي الصحافة، وهي اللغة الرسمية المشتركة في العالم العربي اليوم». وتفصيل هذا التعريف يتمثل في كون العربية الفصيحة: ملتزمة بقواعد الفصحى المعروفة في كتب النحو، وإن أصابها شيء من التغيير يقع غالبًا في النواحي الصرفية والدلالية. وأيضا هي لغة مكتوبة في الأعم والأغلب وأشكالها المنطوقة في الغالب مصدرها مكتوب، وهي لغة التعليم في معاهده المتعددة، ولغة العلم بفروعه المختلفة، ولغة الأدب بفنونه ولغة الدولة بمؤسساتها المحلية والدولية، وهي اللغة التي يترجم منها وإليها، وهي لغة الصحف وبعض المواد الإذاعية والمرئية كنشرات الأخبار والتعليق عليها. وكذلك هي اللغة المشتركة التي يعدها العرب لغتهم العروبية/ القومية ومظهر شخصيتهم ورمز استقلالهم، ومن ثم فلها المكانة التي ترتفع بها فوق أي شكل لغوي آخر في المجتمع العربي.

 

من أهم سمات العربية المعاصرة أنها لغة ديمقراطية: لا تخاطب الصغير بخطاب الكبير ولا الكبير بخطاب الصغير، حيث تتعدد فيها مستويات الخطاب والضمائر والدلالات اللفظية، وهو ما تسبب في سعة انتشارها، ودخول عشرات الشعوب فيها عن طواعية

كما تمتاز بأنها تتعاطى إيجابيا مع اللغات الأجنبية، من حيث إنها تقترض بعض الألفاظ فتعرّبها، ومتأثرة بالعامية لأن بينهما رصيدًا مشتركًا من الألفاظ تعترف صياغاتها بكثير من الألفاظ الشائعة، بما يجعلها شكلا لغويا يختاره المتعلم العربي تعلمًا، ويتفاوت مستعملوه في إتقانه تفاوتًا ظاهرًا، ومن ثم فلا أحد يكتسبها في بيته أو يستعملها في الحياة العامة.

فمن أهم سمات العربية المعاصرة أنها لغة ديمقراطية: لا تخاطب الصغير بخطاب الكبير ولا الكبير بخطاب الصغير، حيث تتعدد فيها مستويات الخطاب والضمائر والدلالات اللفظية، وهو ما تسبب في سعة انتشارها، ودخول عشرات الشعوب فيها عن طواعية، بسبب عامل الدين وكذلك رحابتها في قبولها مئات المفردات من اللغات المعاصرة والقديمة.

لقد تم هذا التطور اللغوي للفصحى الحديثة من خلال العمل في ثلاثة ميادين:

أولها: تزويد اللغة، ويقصد به تزويد اللغة العربية بالكثير من الألفاظ الأجنبية عن طريق تعريبها، وإدخالها ضمن قواعد العربية، خاصة ألفاظ العلوم والفنون، فمن العبث الانفراد بوضع ألفاظ جديدة، إلا أن الخشية من أن تصبح العربية مجرد قوالب وصيغ للألفاظ الأجنبية الهاجمة، على حين أن في الألفاظ العربية ما يؤدي كثيرًا من معاني هذه الألفاظ الأجنبية عينها.

فالتعريب كمعنى اصطلاحي يتمثل في إيجاد مقابلات عربية للألفاظ الأجنبية، لتعميم اللغة العربية واستخدامها في كل ميادين المعرفة البشرية، وبهذا يكون المفهوم قد اكتسى صبغة إنسانية شاملة، تعنى بالفرد العربي وبمصيره الكوني. فكل اللغات تتداخل في ما بينها إلى حد معين، إلا أن المتكلم ليس أمامه إلا الحديث بلغة واحدة في الوقت نفسه، وعند التعريب يفرض جهاز الاستقبال قواعده الراسخة على لغة الإرسال، التي يمكن أن يبقى جهازها التقعيدي بدون مفعول على اللغة العربية. ولا تقتصر الدعوة على ذلك، بل تتوسع في قبول الكلمات العامية، من خلال المجامع اللغوية مع مراعاة سهولة الألفاظ وموسيقية الحروف وخفة الصيغة على السمع. وقد اتخذ مجمع اللغة العربية في القاهرة قرارًا بشأن التعامل مع الكلمات العامية، حيث قرر أن تتم دراسة الكلمات الشائعة على ألسنة الناس، على أن يراعى أن تكون الكلمة مستساغة، ولم يعرف عنها مرادف سابق غير صالح للاستعمال، بل وافق المجلس على قبول السماع من المحدثين بشرط أن تدرس كل كلمة على حدة.

ثانيها: تبسيط اللغة: باقتصار الألفاظ الكتابية على المألوف المأنوس، بدون غوص على المهجور المجفو من الكلام، إلا ما تقتضيه ضرورة التعبير، عن معنى دقيق أو حقيقة جديدة لا يعبر عنها بلفظ متعارف. فلا مانع لأي مستخدم للفصحى أن يصوغ جملا عربية، تشابه جمل العرب في موقع مفرداتها، وأبنية كلماتها ودلالة ألفاظها، وإن لم تكن تلك الجمل بعينها مما قاله العرب. فالعربية الفصحى تحمل في طبيعة تكوينها منهجا عظيما في القياس والنحت والتعريب والبناء.

ثالثها: تيسير النحو، بحذف ما لا يلائم التطور العصري للغة، فسيظل النحو أساس لغة الكتابة، حتى تتقارب لغة الكتابة مع الكلام.

وبالنظر إلى الميادين الثلاثة، فإن لغة الأدب ستستفيد الكثير من توسيع وتعميق العمل بما يتم إنجازه في هذا المضمار. فالكثير من كتّاب الأدب المسرحي والقصصي، يلجأون للعامية طمعًا في إضفاء المزيد من الواقعية على العمل، إلا أن ذلك يختلف من العمل القصصي عنه في العمل المسرحي، وهذا يتم على درجات وحسب نوعية الجمهور المستقبل للعمل الأدبي.

  • كاتب من مصر






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي